الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم الربا
هل الربا كبيرة من الكبائر؟.
هذا سؤال يبدو غريبا، بعد أن قالت الشريعة قولها فيه، فى الكتاب الكريم، وفى السّنّة المطهرة.
فالقرآن الكريم يصور.. آكل الربا فى صورة من أصابه مسّ من الشيطان، فاختبل عقله، واضطرب كيانه، وبدا للناس فى أسوأ حال يبدو فيه إنسان:
والقرآن الكريم يعلن الحرب من الله ورسول الله على مؤكّلى الرّبا إن لم يتوبوا، ويرجعوا إلى الله.. «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» .
والرسول الكريم يلعن جميع الأطراف المشتركة فى عملية الربا: آكله، ومؤكلّه، وشاهديه، وكاتبه «1» .. ثم أفلا يكون الرّبا بعد هذا كبيرة؟.
وبلى، إنه لكبيرة الكبائر عند الله!.
يقول الرسول الكريم: «الرّبا ثلاثة وسبعون بابا.. أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمّه، وإنّ أربى الرّبا عرض الرجل المسلم «2» » .
وفى هذا ما فيه من تغليظ لجريمة الرّبا، وتشنيع عليها، وأنه لو صوّر الرّبا درجات بعضها فوق بعض، لكان أهون درجاته، وأقلها إثما، مماثلا للإثم الواقع من نكاح الرجل أمّه!!.
فكيف الحال بما فوق ذلك من درجات فى الكيان الربوىّ؟ .. لقد وضع الرسول الكريم على قمة الرّبا.. إباحة عرض المسلم.. وهو الزنا!!.
(1) صحيح مسلم: جزء/ 5 ص 50.
(2)
بلوغ المرام من أدلة الأحكام ص 142.
وكل درجات الرّبا الثلاث والسبعين- من أدناها إلى أعلاها- سلسلة متشابكة الحلقات من الظلم والعدوان.. ظلم النفس، وظلم الغير، وعدوان على حرمة النفس، وحرمة الغير.
والسؤال هنا هو: إذا كان هذا هو شأن الرّبا، وتلك هى جنايته، وآثاره السيئة فى الحياة، فلماذا لم يضع الإسلام عقوبة مادية له، كما وضع للجرائم الأخرى، كالقتل والسرقة، والزنا، وشرب الخمر، والقذف؟ فلكل جريمة من هذه الجرائم حدّ مقرر، وعقوبة راصدة، فرضها الإسلام، وأوجب على المجتمع الإسلامى إقامتها على من وجبت عليه؟.
هذا سؤال، لم أجد فى كتب الفقه التي وقعت ليدى من سأله من الفقهاء..
وإذن فلا سبيل إلى جواب على هذا السؤال من كتب الفقه..
ومع هذا، فقد وقع فى نفسى أن أسأل هذا السؤال، وأن أتولّى الإجابة عليه!!.
ولكن..
لماذا لم يسأل الفقهاء هذا السؤال؟ ولماذا لم يكشفوا عن السبب فى عزل هذا المنكر عن الكبائر الأخرى، فلم تفرض له عقوبة؟ ولقد سأل الفقهاء عن أمور فرضية أو وهمية، قد لا تقع فى الحياة أصلا، ووضعوا أجوبة لها..
فكيف بهذا الأمر الواقع فى الحياة؟
وأكبر الظن عندى، أنه ربما كان ذلك، لأنهم عدّوا مسألة الرّبا من المسائل التعبديّة التي تخفى حكمتها، ولا يسأل عنها، كما خفيت حكمة ربا الفضل على ابن عباس ومعاوية، وكما خفيت الحكمة فى ألوان أخرى من المعاملات.
التي دخلت مدخل الرّبا! ولهذا روى عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أنه كان يقول:
«ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهد، ننتهى إليه: «الجدّ «1» ، والكلالة «2» ، وأبواب من الرّبا» .. وقول عمر:
«وأبواب من الرّبا» أي صور منه، وهى كما قال الرسول الكريم:«الربا ثلاثة وسبعون بابا» .. أما الرّبا الذي قطع الإسلام بحرمته- وهو ربا النسيئة- فقد جاء البيان فيه واضحا قاطعا.. وبقيت الصور الأخرى، وهي التي ليست فى حقيقتها ربا، ولكنها مداخل إلى الربا، فقد تركها الإسلام خاضعة للنظر والتقدير، حسب الظروف والأحوال. فما قد يكون مدخلا منها إلى الربا اليوم، لوقوعه تحت احتمالات شتى- قد يوجد فى المستقبل من العلم ما يرفع هذه الاحتمالات كلها، ويقيمه على أمر واحد محقق، فيصبح- والأمر كذلك- على حقيقة واحدة، لا مجال فيها لمفاجأت الاحتمالات، وتوقعاتها! وأما الحكمة فى تحريم الرّبا- بمعناه المعروف- فهى ظاهرة لمن طلبها..
يقول النبىّ الكريم: «الربا ثلاثة وسبعون بابا، أيسرها أن ينكح الرجل أمّه، وإن أربى الرّبا عرض الرجل المسلم» .
وواضح أن الاعتداء على عرض الرجل المسلم، ليس من الربا المعروف، بل المراد بالربا هنا هو المعنى الملازم له، وهو الظلم.
وإذن فنستطيع أن نفهم الحديث الشريف، على هذا الوجه، وهو أن المراد بالربا، وأنه ثلاثة وسبعون بابا- أنه الظلم، وأن أبواب الظلم ودرجاته هى هذه الثلاثة والسبعون بابا..
ولما كان الرّبا- بمعناه المعروف- على رأس أبواب الظلم جميعها، فقد جعله الرسول الكريم، العنوان لجميع أنواع الظلم.. تشنيعا عليه، وتنبيها إلى مكانه المشئوم بين الكبائر..
(1) أي ميراث الجد.
(2)
أي ومعنى الكلالة.
ويقول النبي الكريم: «من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له عليها هدية فقبلها، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا» «1» .
وهذا بيان صريح فى أن الرّبا يقابل الظلم مقابلة واضحة صريحة.
وعلى هذا، فإنه مهما تعددت أنواع الرّبا واختلفت صوره، فإن الأصل الذي تفرع عنه الربا واضح معروف، والحكمة فى تحريه واضحة لا تخفى..
وأن أكل أموال الناس بالباطل وظلمهم، هو العلة فى تحريم الرّبا.. وفى هذا يقول الله تعالى:«وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ» .
وليس بعد هذا بيان فى النصّ على تحريم الرّبا، وفى الكشف عن الحكمة فى تحريمه، والنهى عن التعامل به.
ونعود إلى سؤالنا:
لماذا لم يضع الإسلام عقوبة مادية للربا، مثل الجرائم التي فرض عليها عقوبة؟
والجواب الذي يمكن أن نستلهمه من روح الشريعة.. هو:
أولا: أن الحدود التي فرضها الإسلام عقوبة للقتل والسرقة والزنا..
وغيرها.. هى تطهير لمرتكبيها من آثار ما ارتكبوا.. فإذا أقيم الحد على مرتكب جريمة من هذه الجرائم طهر.. كما ورد فى الحديث عن عبادة بن الصامت، قال: أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم (أي العهد) كما أحد على النساء: «ألا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا، ولا يعضه «2» بعضنا بعضا، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أتى منكم حدّا فأقيم عليه، فهو كفّارته.. الحديث» «3» .
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 21.
(2)
يعضه: أي يقذف، ويفضح.
(3)
صحيح مسلم: جزء: 5 ص 119.
ذلك شأن الذنوب التي يقام فيها الحدّ.. يتطهر منها مرتكبوها بإقامة حدود الله عليهم..
أما «الربا» فهو باب وحده من أبواب الشر والفساد، وخطيئته تحيط بصاحبه، وتخالط كيانه الروحي والجسدى، فلا ينجو منه إلا بالتوبة الخالصة ونقض يديه من هذا الوزر.. إلى غير رجعة.. وإلا فهو حصب جهنم..
«وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» .
ثانيا: الربا محاربة سافرة لله ولرسوله، إذ كان بغيا على عباد الله الفقراء، وتحكّما فى أرزاقهم، وإفسادا لحياتهم، وتضييعا لهم.. إنه قتل خفىّ جماعىّ للفقراء المستضعفين فى المجتمع، ولهذا تولّى الله- سبحانه وتعالى الدفاع عنهم، والانتقام لهم، ممن ظلموهم، وأوردوهم هذا المورد المهلك.. «فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» .. فالله سبحانه هو الذي أعلن هذه الحرب على المرابين، وكفى بحرب يعلنها الله، وكفى بجرم يعلن الله الحرب على مرتكبيه!! إن الله- سبحانه- لم يعلن الحرب على غير هذا الصنف من المفسدين..
وهم المتعاملون بالرّبا! حتى أولئك الذين أعلنوا الحرب على الله وعلى رسوله، لم يؤذنهم الله بحرب، كما يقول سبحانه وتعالى:«إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ» . (33: المائدة) فلم يعلن سبحانه وتعالى الحرب على هؤلاء العصاة المتمردين، الذين سعوا فى الأرض فسادا، وأعلنوا الحرب على الله وعلى رسوله.. ولكنه أعلنها
سافرة صريحة على المرابين: «فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» وليس وراء هذه الحرب إلا خراب شامل، وضياع وفساد لما جمعوا، وعذاب شديد فى نار جهنم، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
هذا هو الحدّ الذي وضعه الله سبحانه- عقوبة للربا، وتولّى- سبحانه- تنفيذه، دون أن يعهد بذلك إلى أحد.
ثالثا: تتم عملية الربا بين آكل الربا- المقترض، وبين صاحب المال- المقرض- والشاهدين، والكاتب.
إنها عملية واحدة، ولكل من هؤلاء دوره فيها.
فهل يكون الحد واحدا لجميع أطرافها، إن وضع لهذه الجريمة حد؟
أم أن يكون لكل طرف من الأطراف الأربعة الحدّ الذي يناسب دوره فيها؟
إن قيل بأن تكون العقوبة واحدة لهؤلاء جميعا، تكون قد سوّت بين الظالم والمظلوم، وبين من أغواه الجشع وحب المال، ومن دفعه الفقر وألجأته الحاجة، حتى صار كالمضطر! ثم إن الشاهدين والكاتب لم يأكلوا الرّبا ولم يؤكّلوا، فهل يسوّون يمن أكل أو أكّل؟ لا محل للمساواة إذن فى العقوبة هنا.
وإن قيل: تقع العقوبة على قدر الجرم الذي تلبس به كل من المشتركين فيه.. قيل إن فى هذا تهوينا من شناعة الجريمة، لأنها جريمة أعلن الله فيها الحرب، على أطرافها جميعا وإن أدنى عقوبة لمن اشتبك فى حرب مع الله ينبغى أن يكون أقصى عقوبة عرفت فى الحدود، وهى القتل، أو الرجم.. فبم يعاقب من هم أكثر التصاقا بهذه الجريمة، وأشد وزرا فيها؟ وهل بعد القتل
أو الرجم عقوبة؟ إذن فلا سبيل إلى المساواة! وإذن فلا مكان لوضع عقوبة عادلة تأخذ هذه الأطراف.. كلّا بحسب ذنبه! رابعا: إذا قيل إن هذه الجريمة، وقد بلغت ما بلغت من الشناعة والظلم..
لم لا يكون القتل حدّا من حدودها.. ينال على الأقل صاحب المال، وهو المرابى؟ ثم يكون التعزير لآكل الربا (المدين) ثم للشاهدين والكاتب.
إذا قيل هذا.. قيل: إن الجريمة أكبر من القتل، وأكبر من أن ينال مقترفها شرف التطهير بإقامة حدّ من حدود الله عليه.. وليكن عذاب السعير هو العقاب الذي ينزل كل واحد من هؤلاء المشتركين فى هذه الجريمة- منزله من النار، وفى النار منازل، ودركات! خامسا: إن معركة المال بين الأغنياء والفقراء، هى معركة الحياة الدائمة المتصلة.. وهذه المعركة لا ينفع فيها عقاب مادى، ولا يخفف من طغيانها..
لأن المال شهوة قائمة في النفس لا ينطفىء سعارها إلا إذا بللتها قطرات من ينابيع العطف والرحمة والمحبة، ينضح بها ضمير حىّ، ووجدان سليم.
إن الضمير وحده هو الذي يمكن أن يفاء إليه فى تسكين هذه الشهوة الصارخة لحب المال.. ومن هذه الجهة يجىء الأمل فى القضاء على جريمة الرّبا، أو الحد من نشاطها.
ولهذا ترك الإسلام العقاب المادي لهذه الجريمة الغليظة، واتجه إلى الضمير الإنسانى، يخاطبه، ويبعث فيه مشاعر الخير والرحمة والمودة.. فإذا لم يكن ثمة ضمير يندى به قلب الغنىّ عطفا ورحمة على الفقير، فيقرضه قرضا حسنا، أو ثمة ضمير يعفّ به الفقير عن هذا المورد الوبيل- إن لم يكن ثمة هذا الضمير أو ذاك، فلا قيمة لوازع السلطان أمام سلطان المال وطغيانه، وإزاء ضراوة الحاجة وقسوتها.