الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
أجاب الله تعالى في هذه الآيات عن شبهتين للكفار منكري النبوة، الأولى منهما هي الشبهة الثالثة لهم المتضمنة اغترارهم بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم الواهي محتجين بالقدر:{وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا.} . أي وقال المشركون بالله عبدة الأصنام والأوثان، معتذرين عن شركهم، محتجين بالقدر بقولهم: ما نعبد هذه الأصنام إلا بمشيئة الله، فلو شاء الله ما عبدناهم، ولا حرّمنا هذه المحرّمات من البحائر والسوائب والوصائل
(1)
ونحو ذلك مما ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم، ما لم ينزّل به سلطانا، ما حرمناها إلا برضا الله، ولو كان تعالى كارها لما فعلنا، لأنكره علينا بالعقوبة، ولما مكننا منه.
وهذه الشبهة هي عين ما حكى الله تعالى عنهم في سورة الأنعام في قوله:
وقصدهم من ذلك-كما ذكر الشوكاني في فتح القدير-الطعن في الرسالة، أي لو كان ما قاله الرسول حقا آتيا من الله من منع عبادة غير الله، ومنع تحريم ما لم يحرمه الله، لم يقع منا ما يخالف ما أراده الله منا، فإنه قد شاء ذلك، وما شاءه كان وما لم يشأ لم يكن، فلما عبدنا غيره وحرمنا ما لم يحرمه، دل على أن فعلنا مطابق لمراده وموافق لمشيئته، وهم في الحقيقة لا يقرون بذلك، ولكنهم قصدوا الطعن على الرسل.
ورد الله تعالى عليهم شبهتهم بقوله: {كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي أن ذلك ليس جديدا في الاعتقاد الفاسد، فمثل قولهم حدث ممن قبلهم من الأمم
(1)
سبق تفسيرها في آية: ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ [المائدة 103/ 5].
حين كذبوا الرسل، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، فهؤلاء سلكوا سبيل أسلافهم في تكذيب الرسل واتباع الضلال.
{فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي فهم مخطئون فيما يقولون، وليس الأمر كما يزعمون أنه تعالى لم ينكره عليهم، بل قد أنكره عليهم أشد الإنكار، ونهاهم عنه أشد النهي، وأرسل في كل أمة أو قرن أو طائفة من الناس رسولا يدعوهم إلى عبادة الله، وينهاهم عن عبادة ما سواه:{أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ} [النحل 36/ 16].
فمنهم من هداه الله ووفقه فآمن وامتثل، ومنهم من أعرض وتنكر، فحقت عليه الضلالة وكلمة العذاب لإصراره على الكفر والعصيان.
وما على الرسل الذين أمروا بتبليغ رسالات ربهم إلا إبلاغ الرسالة والوحي وإيضاح طريق الحق، ومنه أن مشيئته تعالى تتوجه بالهداية لمن تعلق بها، كما قال:{فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسّاها} [الشمس 8/ 91 - 10] وقال: {وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا} [العنكبوت 69/ 29].
وليس من وظيفة هؤلاء الرسل إلجاء الناس إلى الإيمان، فذلك ليس من شأنهم، ولا هو من الحكمة.
أي إن الثواب والعقاب مرتبطان بأمرين: مشيئة الله تعالى، واتجاه العبد إلى تحصيل الأسباب المؤدية إلى النجاة أو الهلاك. وهداية الله نوعان: هداية إرشاد ودلالة، وهذا ما يقوم به الرسل والكتب المنزلة عليهم، وهداية توفيق وعون، وهذا متعلق بسلوك العبد أصل طريق الهداية والإيمان، فمن آمن زاده الله توفيقا إلى الخير، ومن ضل وكفر وأعرض أضله الله وأبعده عن جادة الحق والخير. ثم إن أمر الله جميع الناس بالإيمان غير إرادته ومشيئته.
ثم أبان الله تعالى عموم بعثة الرسل لكل الأمم فقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً.} . أي إن سنته تعالى في خلقه إرسال الرسل إليهم، وأمرهم بعبادة الله، ونهيهم عن عبادة الطاغوت: وهو كل ما عبد من دون الله من الأوثان والأصنام والكواكب والشيطان وغيرها، فلقد أرسل في كل أمة رسولا منذ حدث الشرك في قوم نوح، وكان نوح عليه السلام أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي كانت دعوته عامة للإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كان يقول:{وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء 25/ 21] وقوله: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا، أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف 45/ 43].
فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: {لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} .
والخلاصة: إن المشيئة الشرعية للكفر منتفية غير مرادة؛ لأنه تعالى نهى الناس عن الكفر على ألسنة رسله. وأما المشيئة الكونية وهي تمكين بعض الناس من الكفر وتقديره لهم على وفق اختيارهم، فلا حجة لهم فيها؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك حكمة بالغة
(1)
.
ثم إنه تعالى أنكر على الكفرة المكذبين بإنزال العقوبة عليهم في الدنيا بعد إنذار الرسل فقال: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ.} . أي فبعض الناس هداهم الله ووفقهم لتصديق الرسل، ففازوا ونجوا، ومنهم من كفر بالله وكذبوا رسله، فعاقبهم الله تعالى.
{فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ.} . أي اسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل،
(1)
تفسير ابن كثير: 569/ 2
وكذب الحق، كعاد وثمود، كيف أهلكهم الله بذنوبهم:{دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها} [محمد 10/ 47] فانظروا كيف كان مصير المكذبين رسلهم، لتعتبروا بعاقبتهم.
ثم خصص الله الخطاب برسوله مسليا له عما يقابله قومه من جحود فقال:
{إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ.} . أي إن تحرص يا محمد على هداية قومك، فلا ينفعهم حرصك إذا كان الله قد أراد إضلالهم بسوء اختيارهم، كما قال سبحانه:{وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً} [المائدة 41/ 5] وقال تعالى حكاية لقول نوح لقومه: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ، إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، هُوَ رَبُّكُمْ} [هود 34/ 11] وقال عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [القصص 56/ 28].
{وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ} أي وليس لمن اختاروا الضلالة ناصرون ينقذونهم من عذاب الله وعقابه؛ لأن أساس الحساب على الإيمان والكفر الاختيار، لا الإكراه والإلجاء.
ثم ذكر تعالى الشبهة الرابعة لمنكري النبوة، فقالوا: اعتقاد البعث والحشر والنشر باطل، فكان القول بالنبوة باطلا، وذلك في قوله تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ.} . أي حلف المشركون، واجتهدوا في الحلف، وأغلظوا الأيمان على أنه لا يبعث الله من يموت، أي أنهم استبعدوا البعث، وكذبوا الرسل في إخبارهم إياهم به؛ لأن الميت يفنى ويزول.
فرد الله تعالى عليهم بقوله: بلى سيكون ذلك، ووعد به وعدا حقا لا بد منه، ولكن أكثر الناس لجهلهم بقدرة الله خالفوا الرسل ووقعوا في الكفر.
وحكمة الله في المعاد هي {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي ليبين للناس الحق فيما يختلفون فيه من كل شيء، ويقيم العدل المطلق فيميز الخبيث من