الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ساحرة، وقدّها يصف الهيف، أي هي هيفاء. وكذبهم هو {أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى} عند الله، أي الجنة، لقوله تعالى حكاية عنهم:{وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى} [فصلت 50/ 41]. {لا جَرَمَ} حقّا. {مُفْرَطُونَ} متركون فيها أو مقدّمون إليها، معجّلون بهم إليها. وعلى قراءة كسر الراء: أي متجاوزون الحدّ.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنّ كل ما سوى الله منقاد خاضع لجلاله وكبريائه وسلطانه، أتبع ذلك بأمور ثلاثة:
أولها-النّهي عن الشّرك، وأن كلّ ما سواه فهو ملكه، وأنه غني عن الكلّ، وأن الناس مذبذبون، فإذا أصابهم الضّرّ تضرّعوا إلى الله تعالى، وإذا كشفه عنهم، عادوا إلى الكفر والشرك.
ثانيها-بيان قبائح أفعال المشركين، بعد إيراد سخف أقوالهم وفسادها.
ثالثها-إمهال هؤلاء الكفار، وحلم الله عليهم، وعدم معاجلتهم بالعقوبة، بالرّغم من عظيم كفرهم، وقبيح أفعالهم، إظهارا للفضل والرّحمة والكرم.
التفسير والبيان:
بما أنه ثبت في الآيات السالفة خضوع كل ما في الكون لله تعالى، فذلك دليل قاطع على وحدانية الله، لذا أخبر تعالى أنه لا إله إلا هو، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له، فإنه مالك كلّ شيء وخالقه وربّه، فقال تعالى:
{وَقالَ اللهُ: لا تَتَّخِذُوا.} . أي وقال الله تعالى للناس: لا تتخذوا إلهين اثنين، أي لا تتخذوا لي شريكا، ولا تعبدوا سواي، فمن عبد مع الله غيره فقد أشرك به، إنما هو الله إله واحد، ومعبود واحد، فاتّقوني وخافوا عقابي بالإشراك وعبادة سواي.
وإنما ذكر {اِثْنَيْنِ} بعد قوله {إِلهَيْنِ} لتأكيد التنفير عن التعدد، والدّلالة على أن المنهي عنه هي الاثنينية. وكان ذكر {واحِدٌ} بعد قوله {إِلهٌ} للدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية، أما الألوهية فلا خلاف ولا نزاع فيها. وجاء بهذه العبارة {إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ} بعد ثبوت الإله ونفي التعدّد للدلالة على أنه لما ثبت وجود الإله وأنه لا بدّ للعالم من الإله، وثبت أن القول بوجود الإلهين محال، ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد الفرد الصّمد.
والخلاصة مما ذكر: أن لا إله إلا الله وحده، وأن العبادة لا يستحقها سواه.
{وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ.} . أي لما كان الإله واحدا، والواجب لذاته واحدا، كان كل ما سواه حاصلا بخلقه وتكوينه وإيجاده، فلله جميع ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، فهو خالقهم ورازقهم، ومحييهم ومميتهم، وهم عبيده ومملوكوه، وله الدّين واصبا، أي له الطاعة والانقياد والعبادة على سبيل الدوام والاستمرار، فالدّين هنا: الطاعة، والواصب: الدائم. وقيل:
الواصب: الواجب اللازم أبدا.
{أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ} أي إنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد، وعرفتم أن كلّ ما سواه محتاج إليه في وقت حدوثه، ومحتاج إليه أيضا في وقت دوامه وبقائه، فكيف يعقل الرغبة في غير الله أو رهبة غير الله تعالى؟ وهذا مقول على سبيل التّعجب.
{وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ.} . وإذا كان الواجب ألا يتقى غير الله، فالواجب ألا يشكر غير الله؛ إذ ما من نعمة بكم من إيمان وسلامة جسد وعافية، ورزق ونصر ونحو ذلك إلا وهي من الله عز وجل ومن فضله وإحسانه.
فدلّت الآية على أن العاقل يجب عليه ألا يخاف وألا يتقي أحدا إلا الله، وألا يشكر أحدا إلا الله تعالى، فجميع النّعم من الله تعالى.
وكذلك لا يدفع الضّرّ إلا الله بقوله: {ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ.} . أي إذا تعرّضتم لسوء أو ضرر في أنفسكم من مرض أو خوف أو مشقة، ونحوها من الضرورات، فإليه تلجؤون وتسألون وتدعون، وتلحون في الرّغبة إليه والاستغاثة به لكشف ذلك عنكم، لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو.
وهذا كقوله تعالى: {وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاّ إِيّاهُ، فَلَمّا نَجّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً} [الإسراء 67/ 17].
{ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ.} . أي ثم إذا كشف الضّرّ عنكم، وأزال المخاوف، ووهبكم النعمة والسلامة والعافية، وفرج البلاء عنكم، إذا أنتم تفترقون فريقين، ففريق منكم يبقى على ما كان عليه من الإيمان، فلا يفزع إلا إلى الله تعالى، وفريق منكم عند ذلك يتغيرون، فيشركون بالله غيره في العبادة، وهذا مثار عجب من فعل هؤلاء، حيث يقابلون النعمة بالنقمة، والشكر بالشرك بالله تعالى. والجؤار: رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة.
{لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ} هذه اللام إما لام التعليل، أي قيضنا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم، والمعنى: أنهم أشركوا بالله غيره في كشف الضّر عنهم، وغرضهم من الإشراك أن ينكروا كون ذلك الإنعام من الله تعالى.
وإما لام العاقبة (الصيرورة) أي أن عاقبة تلك التضرّعات ما كانت إلا هذا الكفر، كقوله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً} [القصص 8/ 28].
ثم توعّدهم وهدّدهم قائلا: {فَتَمَتَّعُوا.} . أي اعملوا ما شئتم، وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا في الحياة الدّنيا، فسوف تعلمون عاقبة تمتعكم، وما ينزل بكم من العذاب، وتدركون سوء ما أنتم عليه. وهذا الأمر التهديدي مثل قوله تعالى:
{فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف 29/ 18]، وقوله تعالى:{قُلْ:}
{آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا} [الإسراء 107/ 17].
ثم أخبر الله تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأوثان والأصنام بغير علم، وجعلوا للأنداد نصيبا مما رزقهم الله، فقال تعالى:
1 -
{وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ.} . أي ويجعل هؤلاء المشركون للأصنام التي لا يعلمون حقيقتها أنها جماد لا يضرّ ولا ينفع، فهم إذن جاهلون بها، يجعلون لها نصيبا مع الله تعالى، مما رزقناهم من الحرث والأنعام وغيرها يتقرّبون به إلى الله تعالى، ونصيبا يتقرّبون به إليها، كما قال تعالى عنهم:{وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً، فَقالُوا: هذا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ، وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ، وَما كانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ} [الأنعام 136/ 6].
ثم توعّدهم الله على أفعالهم مقسما بنفسه الكريمة فقال: {تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ} أي أقسم لأسألنكم عن ذلك الذي افتريتموه من الباطل، ولأجازينكم عليه أوفر الجزاء في نار جهنم، كما قال تعالى:{فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر 92/ 15 - 93]. وهذا سؤال توبيخ وتأنيب وتقريع لهم على إثمهم وجرمهم.
2 -
{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَناتِ.} . أي ومن جهل المشركين وإفكهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرّحمن بنات الله، فعبدوها مع الله تعالى، إذ قالت خزاعة: الملائكة بنات الله، كما قال تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً} [الزّخرف 19/ 43]، فأخطؤوا خطأ كبيرا، إذ نسبوا إليه تعالى الولد، ولا ولد له، ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات، وهم لا يرضونها لأنفسهم، وإنما يرضون الذّكور، كما قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ
الْأُنْثى، تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى} أي جائرة [النّجم 21/ 53 - 22]، وقال تعالى:{أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ: وَلَدَ اللهُ، وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات 151/ 37 - 154]، نزلت في خزاعة وكنانة، فإنهم زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى، فكانوا يقولون: ألحقوا البنات بالبنات.
وهنا قال تعالى: {وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ} يعني البنين، أي أنهم يختارون لأنفسهم الذّكور، ويأنفون من البنات التي نسبوها إلى الله تعالى، تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا. وهو كقوله تعالى:{أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور 39/ 52].
ثم عاب الله تعالى على العرب تبرمهم بالبنات فقال: {وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى.} . أي وإذا بشّر أحد هؤلاء العرب الذين جعلوا لله البنات بولادة أنثى، ظلّ وجهه مسودّا أي كئيبا من الهمّ، وهو كظيم، أي ساكت من شدّة ما هو فيه من الحزن، يتوارى من القوم، أي يكره أن يراه الناس، من مساءة ما بشّر به، هل يمسك المولود الأنثى على هوان وذلّ وعار وفقر، أم يدفنها في التراب وهي حيّة، وذلك هو الوأد المذكور في قوله تعالى:{وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير 8/ 81 - 9].
{أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ} أي بئس ما قالوا، وبئس ما قسموا، وبئس ما نسبوه إلى الله تعالى، وهو كقوله تعالى:{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً، ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا، وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف 17/ 43].
والتبشير عرفا: مختصّ بالخبر الذي يفيد السّرور، إلا أنه بحسب الأصل في اللغة: عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه، وكلّ من السّرور والحزن يوجب تغيّر البشرة.
وذكر ضمير {أَيُمْسِكُهُ} لأنه عائد على {ما} .
ثم أجمل الله تعالى موقف المشركين حول هذا الأمر، فقال:
{لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.} . أي للذين لا يصدّقون بالحياة الآخرة وما فيها صفة السّوء التي هي كالمثل في القبح، أي لهم صفة النّقص بما ينسب إليهم، وهي الحاجة إلى الأولاد الذّكور، وكراهة الإناث، ووأدهن خشية الإملاق، والإقرار على أنفسهم بالشّح البالغ.
{وَلِلّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى} أي وله تعالى الصفة العليا، والكمال المطلق، فهو الواحد المنزّه عن الولد والوالد والشريك، وهو الغني عن العالمين، والمنزّه عن صفات المخلوقين، وهو الجواد الكريم، أي فله الكمال المطلق من كل وجه.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي وهو القوي الذي لا يغلب، الحكيم في صنعه الذي لا يفعل إلا بما تقتضيه الحكمة السديدة.
وبعد أن حكى الله تعالى عن المشركين عظيم كفرهم وقبيح قولهم، بيّن أنه يمهل هؤلاء الكفار، ولا يعاجلهم بالعقوبة، فضلا منه ورحمة وكرما، فقال:
{وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ.} . هذا إخبار عن حلمه تعالى بخلقه، مع ظلمهم، فلو أنه يؤاخذهم بذنوبهم ومعاصيهم ويعاقبهم على جرمهم فورا، ما ترك على ظهرها من دابة، أي لأهلك جميع دواب الأرض، تبعا لإهلاك بني آدم، ولكنه جل جلاله حليم ستّار غفور رحيم، يؤخرهم إلى أجل مسمى، فلا يعاجلهم بالعقوبة؛ إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدا.
روى البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضرّ إلا نفسه، فقال: بلى والله، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم.