الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى حال المشركين الذين عرفوا نعمة الله ثم أنكروها، وأبان أن أكثرهم الكافرون، أتبعه بالوعيد، فذكر حالهم يوم القيامة وبعض مشاهدهم من شهادة نبيهم لهم أو عليهم، وعدم تخفيف العذاب عنهم ومضاعفته عليهم، وتكذيب المعبودات لهم أنهم شركاء لله، أو أنهم ما عبدوهم حقيقة، وإنما عبدوا أهواءهم.
ثم ذكر تعالى نوعا آخر من التهديدات المانعة من المعاصي: وهو إحضار شاهد على كل أمة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم شاهد على أمته، وأن من مزاياه بيان أحكام القرآن الذي هو هدى ورحمة وبشرى للمؤمنين بالجنان.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن شأن المشركين وأحوالهم يوم القيامة، فيقول:{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} .
أي واذكر أيها الرسول لهؤلاء المشركين يوم نبعث من كل أمة شاهدا عليهم، وهو نبيهم يشهد عليهم بما أجابوه عما بلّغهم عن الله تعالى، إما بالإيمان وإما بالكفر والعصيان، كما قال تعالى:{فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء 41/ 4].
{ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} ثم لا يسمح للكفار بالاعتذار والدفاع عن أنفسهم، إذ لا حجة لهم، ولأنهم يعلمون كذبهم في الاعتذار، كقوله تعالى:
{هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات 35/ 77].
وإيراد {ثُمَّ} يدل على أن منعهم من الكلام والاعتذار أشد عليهم من شهادة نبيهم عليهم.
{وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي ولا يطلب منهم العتاب؛ إذ لا فائدة في العتاب مع سخط الله وغضبه، فإن الرجل يطلب العتاب من خصمه إذا كان جازما أنه إذا عاتبه، رجع إلى صالح العمل، والآخرة دار جزاء لا دار تكليف وعمل، ولا أمل في الرجوع إلى الدنيا.
{وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا.} . أي وإذا عاين الذين أشركوا وجحدوا نبوة الأنبياء العذاب، فلا ينجو منهم أحد، ولا يخفف عنهم من شدته ساعة واحدة، ولا يمهل عقابهم ولا يؤخر عنهم، بل يؤخذون بسرعة من الموقف بلا حساب؛ لأنه فات وقت التوبة والإنابة، وحان وقت الجزاء على الأعمال.
ونظير الآية قوله تعالى: {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً، وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ، دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً 1، لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان 12/ 25 - 14] وقوله سبحانه: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً} [الكهف 53/ 18].
ثم أخبر تعالى عن تبري آلهة المشركين منهم في وقت أحوج ما يكونون إليها، وهذا من بقية وعيد المشركين، فقال:{وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ.} ..
أي إذا شاهد المشركون بالله يوم القيامة شركاءهم الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله في الدنيا، ألقوا تبعة شركهم عليها، وقالوا: هؤلاء شركاؤنا الذين كنا نعبدهم وندعوهم من دونك، قاصدين بذلك إحالة الذنب والإثم على هؤلاء الشركاء، وهو شأن المتخبط في عمله، كالغريق الذي يتمسك بما تقع يده عليه.
فرد الشركاء قائلين: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ.} . أي قالت لهم الآلهة:
(1)
الثبور: الهلاك.
كذبتم، ما نحن أمرناكم بعبادتنا، كقوله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ. وَإِذا حُشِرَ النّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً، وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ} [الأحقاف 5/ 46 - 6] وقوله:
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم 81/ 19 - 82].
{وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} أي استسلم العابد والمعبود، وأقروا لله بالربوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد، وذلوا واستسلموا لله جميعهم، فلا أحد إلا سامع مطيع، كما قال تعالى:{وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا} [السجدة 12/ 32]. وقال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا} [مريم 38/ 19] أي ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ. وقال: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه 111/ 20] أي خضعت وذلت واستسلمت.
{وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} أي وذهب عنهم افتراؤهم بنسبة الشركاء لله، وأنها نصراء وشفعاء لهم، كما حكى تعالى عنهم:{وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ} [يونس 18/ 10] وذلك حين كذبوهم وتبرؤوا منهم.
وبعد ذكر وعيد الذين كفروا الضالين، أتبعه بوعيد من ضم إلى كفره صد غيره عن سبيل الله، من الضالين المضلين، فقال:{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا.} .
أي الذين جحدوا النبوة وأشركوا بالله وكفروا بأنفسهم وحملوا غيرهم على الكفر، وصدوا عن سبيل الله، وهو الإيمان بالله ورسوله، يضاعف الله عقابهم، كما ضاعفوا كفرهم، فهم في الحقيقة ازدادوا كفرا على كفر، فاستحقوا عذابين:
عذاب الكفر، وعذاب الإضلال والإفساد، والصد عن سبيل الله، واتباع طريق الحق والإسلام، كقوله تعالى:{وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام 26/ 6] أي ينهون الناس عن اتباع محمد، ويبتعدون هم منه أيضا.
{بِما كانُوا يُفْسِدُونَ} أي هذه الزيادة من العذاب بسبب الإفساد والصد.
وهذا دليل على أن من دعا غيره إلى الكفر والضلال، فقد عظم عذابه، فكذلك إذا دعا إلى الدين الحق واليقين، فقد عظم قدره عند الله تعالى.
والآية دليل على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم، كما قال تعالى:{قالَ: لِكُلٍّ ضِعْفٌ، وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف 38/ 7].
ثم خصص الله تعالى بالذكر شهادة محمد صلى الله عليه وسلم على أمته، وهو نوع آخر من التهديد المانع من المعاصي، فقال مخاطبا رسوله:{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ.} .
أي واذكر أيها الرسول يوم نبعث في كل أمة (أي قرن وجماعة) نبيها يشهد عليها، قطعا للحجة والمعذرة، وجئنا بك شاهدا على هؤلاء أي أمتك، بما أجابوك به عن رسالتك، فيظهر لك الشرف الرفيع والمقام العظيم.
وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة النساء، فلما وصل إلى قوله:{فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء 41/ 4]
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسبك» فقال ابن مسعود رضي الله عنه: فالتفتّ، فإذا عيناه تذرفان.
ثم أبان الله تعالى بمناسبة بيان شهادة النبي على أمته أنه أزاح علتهم فيما كلفوا، فلم يبق لهم حجة ولا معذرة، فقال:
{وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً.} . أي ونزلنا عليك أيها الرسول هذا القرآن تبيانا لكل شيء من العلوم والمعارف الدينية، مما يحتاج إليه الناس في حياتهم، وهدى للضالين، ورحمة لمن صدّق به، وبشرى لمن أسلم لله وجهه، فأطاعه وأناب إليه، بجنان الخلد والثواب العظيم.