المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌التفسير والبيان: هذه الآيات دعائم الحياة الإسلامية وركائز المجتمع الإسلامي، - التفسير المنير - الزحيلي - جـ ١٤

[وهبة الزحيلي]

فهرس الكتاب

- ‌سورة الحجر

- ‌تسميتها:

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌ما اشتملت عليه السورة:

- ‌وصف القرآن وتهديد الكافرين والعصاة

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌بعض مقالات المشركين في النبي صلى الله عليه وسلموالرد القاطع عليها

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌سبب النزول:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌بعض مظاهر قدرة الله تعالىمن خلق السموات والأرض وإرسال الرياح لواقح والإحياء والإماتةوالعلم الشامل والحشر

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌بدء خلق الإنسان وأمر الملائكة بالسجود له وإباء إبليسوعداؤه البشر

- ‌الإعراب:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌جزاء المتقين يوم القيامة

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌سبب النزول:

- ‌نزول الآية (45):

- ‌نزول الآية (47):

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌المغفرة والعذاب

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌سبب النزول:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌قصة ضيف إبراهيم وإخبارهم بإهلاك قوم لوط

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌قصة أصحاب الأيكة (قوم شعيب) وأصحاب الحجر (ثمود)

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌أفضال الله تعالى على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌سبب النزول:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌سورة النحل

- ‌تسميتها:

- ‌ارتباطها بالسورة التي قبلها:

- ‌ما اشتملت عليه السورة:

- ‌إثبات البعث والوحي

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌سبب النزول:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌أدلة وجود الله ووحدانيته

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌سبب النزول:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌أدلة أخرى لإثبات الألوهية والوحدانية

- ‌الإعراب:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌خواص الألوهيةالخلق وعلم السّر والعلن والحياة الأبديّة

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌صفات المستكبرينإنكار المشركين الوحي المنزّل والنّبوة وجزاؤهم

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌صفات المتقينإيمان المتقين بالوحي المنزل وجزاؤهم

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌تهديد المشركين على تماديهم في الباطل

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌احتجاج الكفار بالقدر وإنكارهم البعث وتشابه مهمة الرسل

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌سبب النزول:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌جزاء المهاجرين وبشرية الرسل ومهمة النبي صلى الله عليه وسلمفي بيان القرآن، وتهديد الكافرين

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌مناقشة عقائد المشركين وأعمالهم القبيحة

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌عادة الأمم في تكذيب الرسل ومهمة النبي في تبيان القرآنوجعله هدى ورحمة

- ‌الإعراب:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌من دلائل القدرة الإلهية والتوحيد ومظاهر النعم على الناس

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌بعض عجائب أحوال الناس الدالة على قدرة الله وتوحيده

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌الأعراب

- ‌مثلان للأصنام والأوثان

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌سبب النزول:

- ‌المناسبة:

- ‌هل من المعقول التسوية بين الاثنين

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌علم الله الغيب وخلقه الإنسان والطير

- ‌لإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌بعض دلائل التوحيد وأنواع النعم والفضل الإلهي

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌سبب النزول:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌وعيد المشركين وأحوالهم يوم القيامةبعث الشاهد عليهم وعلى المؤمنين وعدم تخفيف العذاب ومضاعفته عليهموتكذيب المعبودات لهم

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌أجمع آية في القرآن للخير والشر والوفاء بالعهد والهداية والإضلال

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌سبب النزول:

- ‌نزول الآية (91):

- ‌نزول الآية (92):

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌أجمع آية للرجال والنساء في الترغيب بالعمل الصالح

- ‌الإعراب:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌ما يتعلق بالقرآنالاستعاذة والنسخ وعربية القرآن

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌سبب النزول:

- ‌نزول الآية (101):

- ‌نزول الآية (103):

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌الشبهة الأولى:

- ‌والشبهة الثانية:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌المرتدون عن الإسلام والمهاجرون بعد ما فتنوا

- ‌الإعراب:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌سبب النزول:

- ‌نزول الآية (106):

- ‌روايات أخرى:

- ‌نزول الآية (110):

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌عاقبة كفران النّعم في الدنيا

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌الحلال الطيب والحرام الخبيث من المأكولات

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌إبراهيم عليه السلام واتباع ملته وتعظيم اليهود السبت

- ‌الإعراب:

- ‌البلاغة:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

- ‌أسس الدعوة إلى الدين وجعل العقاب بالمثل والصبر على المصاب

- ‌الإعراب:

- ‌المفردات اللغوية:

- ‌سبب النزول:

- ‌فضيلة هذه الآيات:

- ‌المناسبة:

- ‌التفسير والبيان:

- ‌فقه الحياة أو الأحكام:

الفصل: ‌ ‌التفسير والبيان: هذه الآيات دعائم الحياة الإسلامية وركائز المجتمع الإسلامي،

‌التفسير والبيان:

هذه الآيات دعائم الحياة الإسلامية وركائز المجتمع الإسلامي، فالآية الأولى يأمر الله فيها عباده بالعدل والإنصاف بصفة مطلقة في كلّ شيء، في التّعامل، والقضاء والحكم، وشؤون الدّين والدّنيا، وسلوك الإنسان مع نفسه ومع غيره، بل وفي الاعتقاد، فلا يعبد بحقّ وعدل غير الله الخالق الرّازق النافع، والآلهة المزعومة من أصنام وأوثان وكواكب وملائكة وأنبياء وأولياء وزعماء لا تستحق شيئا من العبادة والتقديس، قال ابن عباس في آية {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}:

شهادة أن لا إله إلا الله.

روى ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: صف لي العدل، فقلت: بخ، سألت عن أمر جسيم، كن لصغير النّاس أبا، ولكبيرهم ابنا، وللمثل منهم أخا، وللنساء كذلك، وعاقب الناس على قدر ذنوبهم، وعلى قدر ذنوبهم، وعلى قدر أجسامهم، ولا تضربنّ لغضبك سوطا واحدا، فتكون من العادين.

ويندب الله تعالى إلى الإحسان، والإحسان في العبادة: هو كما في

حديث عمر في الصحيحين: «أن تعبد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» والإحسان في الجزاء العقاب بالمثل واستيفاء الحق في القتل والجرح عن طريق القصاص (المعاملة بالمثل). والإحسان في وفاء الحقّ أو الدين: أداؤه من غير مماطلة، أو مع الزيادة غير المشروطة المتبرع بها.

وأفضل الإحسان وأعلاه الإحسان إلى المسيء،

فقد أمر النّبي صلى الله عليه وسلم به:

«وأحسن إلى من أساء إليك تكن مسلما» . وقال عيسى بن مريم عليه السلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك.

وروى البخاري في تاريخه أن علي بن أبي طالب مرّ بقوم يتحدّثون،

ص: 217

فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة، فقال: أو ما كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه إذ يقول: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ} فالعدل: الإنصاف، والإحسان: التّفضل، فما بقي بعد هذا؟ وقال سفيان بن عيينة: العدل في هذا الموضع: هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا، والإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته، والفحشاء والمنكر: أن تكون علانيته أحسن من سريرته.

ويأمر الله في هذه الآية بإيتاء ذي القربى أي بصلة الأرحام والأقارب، بالزيارة والمودة والعطاء والتّصدق عليهم، كما قال تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء 26/ 17]، وقد خصّه بالذّكر مع أنه داخل في الإحسان للاهتمام به والعناية بشأنه.

وبعد أن أمر تعالى بثلاثة نهى عن ثلاثة فقال: {وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} ، والفحشاء: الشيء المحرم كالزّنى والسّرقة وشرب المسكر وأخذ أموال النّاس بالباطل.

والمنكر: ما قبّحه الشّرع والعقل، وظهر من الفواحش من فاعلها، كالقتل والضرب بغير حق، وازدراء الناس وغمطهم حقوقهم، قال تعالى:{قُلْ: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ} [الأعراف 33/ 7].

والبغي: ظلم النّاس والاعتداء عليهم؛

جاء في الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم عن أبي بكرة: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدّنيا، مع ما يدّخر لصاحبه في الآخرة، من البغي، وقطيعة الرّحم» .

والخلاصة: العدل: أداء الواجب، والإحسان: الزيادة فيه، والفحشاء والمنكر والبغي: تجاوز حدود الشّرع والعقل.

ص: 218

{يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي يأمركم بما يأمركم به من الخير، وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشّر، لتتعظوا وتتذكروا وتعملوا بما فيه مرضاة الله تعالى، فقوله تعالى:{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ليس المراد منه التّرجي والتّمني، فإن ذلك محال على الله تعالى، فوجب أن يكون معناه: أنه تعالى يعظكم لإرادة أن تتذكّروا طاعته، وهو يدلّ على أنه تعالى يريد الإيمان من الكلّ.

وبعد أن ذكر الله تعالى كلّ المأمورات والمنهيات في الآية الأولى على سبيل الإجمال، خصص بعضها بالذّكر، فبدأ بالأمر بالوفاء بالعهد، فقال تعالى:

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ.} . أي ووفوا بالعهود والمواثيق، وحافظوا على الأيمان المؤكدة، وعهد الله: كلّ ما يجب الوفاء به، من تطبيق أحكام الإسلام، وكلّ عهد يلتزمه الإنسان باختياره، والوعد من العهد، كما قال ابن عباس.

ثم أكّد الله تعالى ضرورة الوفاء بالعهد بقوله: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها.} . أي واحذروا نقض العهود وأيمان البيعة على الإسلام بعد توثيقها باسم الله. وأكّد ووكّد لغتان فصيحتان. والمراد بالأيمان هنا: هي الدّاخلة في العهود والمواثيق، أي أيمان العهد أو الأحلاف المعقودة، لا الأيمان التي هي واردة على حثّ أو منع.

روى أحمد ومسلم عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدّة» يعني في نصرة الحق والقيام به، والمعنى: أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التّمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.

وهذا مثل حلف الفضول الذي ذكره ابن إسحاق فقال: اجتمعت قبائل من قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه ونسبه، فتعاقدوا وتعاهدوا ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم إلا قاموا معه، حتى تردّ عليه مظلمته. فسمّت

ص: 219

قريش ذلك الحلف حلف الفضول، أي حلف الفضائل. {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} أي شهيدا.

ثمّ جعل الله تعالى نفسه رقيبا على العهود لتأكيد احترامها: {إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ} أي إنه مطّلع ومراقب كلّ ما تفعلونه في العهود، من البرّ بها أو النّقض لها، ومحص ذلك عليكم، ومجازيكم على أفعالكم، ثوابا ورضا في حال البرّ والوفاء، وعقابا وسخطا في حال النّقض والعبث والإخلال بأحكام المعاهدة.

وهذا وعد للطائع، ووعيد وتهديد للمخالف الذي ينقض عهده بعد توكيده.

ثم أكّد الله تعالى حرمة العهد مرّة ثالثة فقال: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ..} . أي ولا تكونوا في نقض العهود والمواثيق كالتي نقضت غزلها بعد إبرامه. قال عبد الله بن كثير والسّدّي: هذه امرأة خرقاء كانت بمكّة، كلما غزلت شيئا نقضته بعد إبرامه. واسمها: ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرّة.

أو هو مثل لمن نقض عهده بعد توكيده كما قال مجاهد وغيره، فمن نقض العهد كان كمن نقض الغزل بعد فتله وإبرامه، فهو ليس من فعل العقلاء، وإنما في زمرة الحمقى. والأنكاث: الأنقاض.

{تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ.} . أي تجعلون أيمانكم على الوفاء بالعهد خديعة ومكرا وتغريرا بالطرف الآخر، من أجل أن تكون جماعة أقوى وأكثر عددا وعدّة من جماعة أخرى، بل عليكم الوفاء بالعهود والحفاظ عليها.

فقوله تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ} معناه أنكم تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم، ليطمئنوا إليكم، فإذا أمكنكم الغدر بهم، غدرتم، فنهى الله عن ذلك، لينبّه بالأدنى على الأعلى، أي إذا نهاكم عن الغدر في هذه الحالة، فلأن ينهى عنه مع التّمكن والقدرة بطريق الأولى. وأربى: أكثر.

ص: 220

والمقصود: النّهي عن العود إلى الكفر بسبب كثرة الكفار وكثرة أموالهم.

ومن أمثلة الوفاء بالعهد: أن معاوية كان بينه وبين ملك الروم أمد، فسار معاوية إليهم في آخر الأجل، حتى إذا انقضى، وهو قريب من بلادهم، أغار عليهم، وهم غارّون-غافلون-لا يشعرون، فقال له عمرو بن عنبسة: الله أكبر يا معاوية، وفاء لا غدر،

سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كان بينه وبين قوم أجل، فلا يحلنّ عقدة حتى يمضي أمدها» فرجع معاوية رضي الله عنه بالجيش.

{إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ} أي إنما يعاملكم معاملة المختبر، بأمره إياكم بالوفاء بالعهد، لينظر أتغترون بالكثرة والقلّة أم تراعون العهد؟! {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ.} . أي وليبينن لكم ربّكم يوم القيامة ما كنتم تختلفون فيه، من أمر الإيمان والكفر، والوفاء بالعهد والنّقض، فيجازي كلّ عامل بعمله من خير أو شرّ، وهذا إنذار وتحذير من مخالفة ملّة الإسلام، التي من أهمّ أحكامها وجوب الوفاء بالعهد.

والله قادر على جمعهم على الإيمان وعلى الوفاء بالعهد، فقال:{وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً.} . أي ولو شاء الله لجعل الناس على ملّة واحدة أو دين واحد، بمقتضى الفطرة والغريزة، فتصبحون كالملائكة مخلوقين على منهج الطاعة والانقياد لأمر الله تعالى، فلا اختلاف ولا تباغض ولا شحناء، وإنما وفاق بينكم.

ولكن حكمة الله اقتضت خلقكم متفاوتين في الكسب، كسب الإيمان والتزام الأحكام، مختارين الاعتقاد والعمل، فيضلّ من يشاء ممن سبق في علمه أنه سيختار الضّلال، ويهدي من يشاء ممن علم في الأزل أنه سيفعل الخير ويختار الإيمان.

ص: 221

{وَلَتُسْئَلُنَّ عَمّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ثم يسألكم يوم القيامة سؤال حساب وجزاء، لا سؤال استفهام، عن جميع أعمالكم، فيجازيكم عليها خيرا أو شرّا.

ونظير الآية كثير في القرآن، مثل:{وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس 99/ 10]، ومثل:{وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النّاسَ أُمَّةً واحِدَةً، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود 118/ 11 - 119].

وبعد أن حذّر الله تعالى في الآية الأولى عن نقض العهود والأيمان على الإطلاق، حذّر في قوله:{وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها، وهي أيمان البيعة للنّبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام.

والمعنى: يحذر الله تعالى عباده وينهاهم عن اتّخاذ الأيمان دخلا، أي خديعة ومكرا، تغرون بها الناس، لئلا تزل قدم في الضّلال بعد ثبوتها على الاستقامة والإيمان. وهذا مثل لمن كان على الاستقامة، فحاد عنها، وزلّ عن طريق الهدى، بأيمان حانثة مشتملة على الصّدّ عن سبيل الله؛ لأن الكافر إذا رأى المؤمن قد عاهده، ثم غدر به، لم يعد يثق بالدّين، فانصدّ بسبب الغدر عن الدّخول في الإسلام.

{وَتَذُوقُوا السُّوءَ.} . أي وتذوقوا العذاب السّيء الشديد وهو القتل والأسر في الدنيا، بسبب صدّكم عن سبيل الله؛ لأن الدخول في الدّين، ثم الخروج منه، مشجع للآخرين بالبعد عن الإسلام.

{وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ} أي ولكم عقاب شديد في الآخرة، جزاء المخالفة والانضمام لفئة الأشقياء الضّالين.

أي إنكم إن نقضتم العهد وقعتم في مفاسد ثلاثة:

ص: 222