الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القرآن، وما حجتكم فيه؟ هذا قول ابن عباس. وقال عكرمة: إن القيامة مواطن، فمرة يكون هناك سؤال وكلام كما في هذه الآية، ومرة لا يكون هناك سؤال وكلام، كما في قوله تعالى:
{فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} [الرحمن 39/ 55].
{فَاصْدَعْ} يا محمد. {بِما تُؤْمَرُ} به أي اجهر وأمضه، من صدع بالحجة: إذا تكلم بها جهارا. {إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} بك، بإهلاكنا كلا منهم بآفة، وهم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد المطلب، والأسود بن عبد يغوث. {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبة أمرهم في الدارين. {وَلَقَدْ} للتحقيق. {يَضِيقُ صَدْرُكَ} أي ينقبض حسرة وحزنا. {بِما يَقُولُونَ} من الاستهزاء والتكذيب. {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي قل: سبحانه وبحمده، أي التسبيح مقترنا بالحمد. {السّاجِدِينَ} المصلين. {الْيَقِينُ} الموت. روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
سبب النزول:
نزول الآية (95):
{إِنّا كَفَيْناكَ} : أخرج البزار والطبراني عن أنس بن مالك قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على أناس بمكة، فجعلوا يغمزون في قفاه، ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي، ومعه جبريل، فغمز جبريل بأصبعه، فوقع مثل الظفر في أجسادهم، فصارت قروحا حتى نتنوا، فلم يستطع أحد أن يدنو منهم، فأنزل الله:{إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} .
المناسبة:
لما صبّر الله تعالى محمدا على أذى قومه، وأمره بأن يصفح الصفح الجميل، أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة التي خص الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بها؛ لأن الإنسان إذا تذكر كثرة نعم الله عليه، سهل عليه الصفح والتجاوز.
التفسير والبيان:
وتالله لقد أعطيناك وأنزلنا عليك أيها الرسول السبع المثاني والقرآن العظيم،
والسبع المثاني: هي سورة الفاتحة، ذات الآيات السبع، التي تثنى وتكرر في كل ركعات الصلاة، والبسملة هي الآية السابعة، وقد خصكم الله بها. روى البخاري حديثين في تفسير السبع المثاني، الأول عن أبي سعيد بن المعلى، والثاني عن أبي هريرة.
وأما حديث أبي هريرة فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أم القرآن: هي السبع المثاني، والقرآن العظيم» .
وقيل: السبع المثاني: هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة؛ لتكرار القصص والأحكام والحدود وتثنيتها فيها.
وقيل: المراد بالسبع المثاني: جميع القرآن، ويكون العطف من باب الترادف، كما قال تعالى:{اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ} [الزمر 23/ 39] فهو مثاني من وجه ومتشابه من وجه.
والراجح أن تفسير البخاري نص في أن الفاتحة: السبع المثاني. ولا مانع-كما قال ابن كثير-من وصف غيرها بذلك، لما فيها من هذه الصفة، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضا، والآية نزلت في مسجد قباء، فلا تنافي، فإن
ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة
(1)
.
ثم رتب تعالى على هذا العطاء العظيم قوله: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ.} . أي لا تطمح أيها الرسول-والخطاب لأمته-إلى ما متعنا به الأغنياء من زينة الحياة الدنيا، فمن وراء ذلك عقاب شديد، واستغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية. والمقصود: فاخر بما أوحي إليك، وقدّر عظمة نعمته عليك، ولا تنظر إلى الدنيا وزينتها، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية، لنفتنهم فيه، فلا تغبطهم بما هم فيه، ولا تتحسر عليهم في تكذيبهم لك، ومخالفتهم دينك، وإذا كنت في نعمة عظمي، هانت أمامها بقية النعم وكانت حقيرة. وهذا دليل على أن القرآن ثروة كبري وخير وفلاح. ونظير الآية:{وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه 131/ 20].
قال أبو بكر رضي الله عنه: من أوتي القرآن، فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي، فقد صغّر عظيما، وعظّم صغيرا.
{وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي ولا تتأسف على المشركين إذا لم يؤمنوا، ليتقوى بهم الإسلام، ويعتز بهم المسلمون. وقيل: المعنى: لا تحزن على ما متعوا به في الدنيا، فلك في الآخرة أفضل منه.
وبعد النهي عن الالتفات لأغنياء الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين فقال:
{وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي ألن جانبك وتواضع للمؤمنين، ولا تجافهم ولا تقس عليهم، كما قال تعالى:{فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْتَ}
(1)
تفسير ابن كثير: 557/ 2
{فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.} . [آل عمران 159/ 3].
ثم وجهه تعالى لوظيفته، وهي الإنذار فقال:{وَقُلْ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ.} . أي وقل يا محمد للناس: إني منذر ومخوف من عذاب أليم، بسبب التكذيب والتمادي في الغي، كما حل بالأمم المتقدمة المكذبة لرسلها، وما أحاط بهم من انتقام وعذاب.
جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به، كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنّجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم، فنجوا، وكذّبه طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم، فصبّحهم الجيش، فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتّبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذّب ما جئت به من الحق» .
{كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} هناك رأيان في تعلق قوله: {كَما أَنْزَلْنا}
(1)
.
أحدهما-أن يتعلق بقوله {وَلَقَدْ آتَيْناكَ} أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا التوراة والإنجيل على أهل الكتاب (اليهود والنصارى) من قبلك، وهم المقتسمون الذين اقتسموا القرآن إلى أجزاء، فآمنوا ببعضه الموافق للتوراة والإنجيل، وكفروا ببعضه المخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل. وهذا مروي عند البخاري وسعيد بن منصور والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس.
والثاني-أن يتعلق بقوله: {وَقُلْ: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} أي وأنذر
(1)
الكشاف: 195/ 2
قريشا بالعذاب مثل ما أنزلنا من العذاب على المتسمين-يعني اليهود-وهو ما جرى على قريظة والنضير، فجعل المتوقع بمنزلة الواقع، وهو من الإعجاز؛ لأنه إخبار بما سيكون، وقد كان.
فكل من هذين الرأيين جعل المقتسمين من أهل الكتاب، والمقتسم هو القرآن. ويجوز أن يراد بالقرآن كتبهم التي يقرءونها، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، ويكون هذا من باب التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال قومه عن القرآن؛ إنه سحر، أو شعر، أو كهانة.
وهناك وجه ثالث مروي أيضا عن ابن عباس، جعله الرازي هو القول الأول، حيث قال ابن عباس: هم الذين اقتسموا طرق مكة، يصدون الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقرب عددهم من أربعين. وقال مقاتل بن سليمان:
كانوا ستة عشر رجلا، بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم، فاقتسموا عقبات مكة وطرقها يقولون لمن يسلكها: لا تغتروا بالخارج منا، والمدعي للنبوة، فإنه مجنون، وكانوا ينفرون الناس عنه، بأنه ساحر، أو كاهن. أو شاعر، فأنزل الله تعالى بهم خزيا، فماتوا شر ميتة، والمعنى: أنذرتكم مثل ما نزل بالمقتسمين
(1)
.
فالمقتسمون: هم القرشيون.
وبعد هذا الإنذار أقسم الله تعالى بذاته العلية على وقوع الحساب على الأعمال، فقال:{فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ.} . أي فو الله لنسألن جميع الكفار سؤال توبيخ وتأنيب لهم عن أقوالهم وأعمالهم، وسنجازيهم عليها الجزاء الأوفى.
فسر أبو العالية الآية فقال: يسأل العباد كلهم عن خلّتين يوم القيامة: عما كانوا يعبدون، وعما ذا أجابوا المرسلين.
(1)
تفسير الرازي: 211/ 19 وما بعدها.
وروى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وإذا كانت هذه مهمتك أيها النبي وهو الإنذار وأن الحساب محقق، فما عليك إلا الجهر بدعوتك، فقد انتهت مرحلة الإسرار في الدعوة، فقال:{فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ.} . أي فاجهر بتبليغ دعوتك للجميع، وواجه بها المشركين، ولا تأبه بهم، فإن الله عاصمك وحافظك منهم، وأعرض عن المشركين، أي بلغ ما أنزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله.
{إِنّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} هذا تأمين رباني وعصمة وصون، أي إنا كفيناك شر المستهزئين بك، المجاهدين في عداوتك، الساخرين منك ومن القرآن، وهم جماعة ذو وقوة وشوكة من المشركين، وهم خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن قيس، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث.
قال جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى عقب الوليد، فتعلق بثوبه سهم، فأبى تعظما نزعه، فأصاب عرقا في عقبه فمات. وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل، فمات بشوكة دخلت فيه، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي، وأشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحا فمات، وأشار إلى الأسود بن عبد يغوث، وهو قاعد في أصل شجرة، فأصيب بداء، فجعل ينطح رأسه بالشجرة، ويضرب وجهه بالشوك حتى مات
(1)
.
(1)
تفسير الرازي: 215/ 19، تفسير القرطبي: 62/ 10، تفسير ابن كثير: 559/ 2
وكان هؤلاء المستهزئون مشركين، لذا وصفهم الله بقوله:{الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ} أي الذين يتخذون إلها آخر مع الله، فيشركون به من لا يضر ولا ينفع.
{فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} عاقبة أمرهم ومآل شركهم ونتيجة كفرهم. وهذا تهديد ووعيد لهم بسوء المصير، لعلهم يرتدعون ويؤمنون.
ثم سلّى الله نبيه عما يصيبه من أذى المشركين فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ.} . أي وإنا لنعلم يا محمد أنك تتأذى من سخرية المشركين وشركهم، ويحصل لك ضيق صدر وانقباض، فلا يثنينك ذلك عن إبلاغ رسالة الله، وتوكل عليه، فإنه كافيك وناصرك عليهم، والجأ إليه لإزالة الانقباض والجزع. {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} .
أي فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة، وداوم على ذلك حتى يأتيك اليقين، أي الموت، وسمي الموت باليقين؛ لأنه أمر متيقن، والدليل لهذا التأويل: قوله تعالى حكاية عن أهل النار: {قالُوا: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ، وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتّى أَتانَا الْيَقِينُ} [المدثر 43/ 74 - 47] أي الموت.
وهذا دليل على أن علاج ضيق الصدر هو التسبيح والتقديس والتحميد والإكثار من الصلاة، وأن العبادة كالصلاة واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتا، فيصلي بحسب حاله، كما
ثبت في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب» .
وهو دليل أيضا على تخطئة بعض الملاحدة القائلين بأن المراد باليقين:
المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة، سقط عنه التكليف عندهم، وهذا-كما