الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومحض العقل، وإنما لا بد من دليل أو نص شرعي، وأن ما حرّم على اليهود هو ما ذكر سابقا في سورة الأنعام، وأن من يعمل السوء (وهو كل ما لا ينبغي من الكفر والمعاصي) بجهالة أي بطيش وعدم تدبر العواقب (وكل من عمل السوء، فإنما يفعله بالجهالة) ثم يتوب بعدئذ، فإن الله يغفر له معصيته ويرحمه.
التفسير والبيان:
هذا انتقال من الإنذار والتخويف إلى الاطمئنان، وتهدئة الخواطر، وتطييب النفوس المؤمنة، والإذن بمتاع الحياة الحلال، لا الخبيثة الحرام كالميتة والدم، فكلوا أيها المؤمنون من رزق الله الحلال الطيب، واشكروه على ذلك، فإنه المنعم المتفضل الذي يستحق العبادة وحده لا شريك له، إن كنتم تعبدونه حقا، فتطيعونه فيما أمر، وتنتهون عما نهى، والمراد بالجملة الأخيرة التحريض على العبادة والاستمرار عليها.
والحلال أكثر بكثير من الحرام، ولكنه على وفق ما أذن الله به، لا على النحو الذي كان عليه عرب الجاهلية من تحريم ما أحل الله، لذا ناسب ذلك بيان المحرّمات القليلة أمام الحلال الكثير الواسع، فقال تعالى:{إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ.} . أي إنما حرّم عليكم ربكم محرّمات أربعة فقط؛ لأن لفظة {إِنَّما} تفيد الحصر، وهي أكل الميتة والدم، ولحم الخنزير، وما ذبح على النصب للأصنام، وهو داخل تحت قوله:{وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} أي ذبح على غير اسم الله، جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن ابن عباس:«ملعون من ذبح لغير الله» فلا تحرموا شيئا مما أحله الله لكم.
وقد ذكرت هذه الأنواع الأربعة في سور ثلاث سابقة هي سورة البقرة المدنية: {إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ.} . [الآية: 173] وسورة المائدة المدنية أيضا:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ.} . [الآية: 3] وسورة الأنعام المكية كهذه السورة:
{إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً.} . [الآية: 145]. وأما المذكور في سورة المائدة من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكي (ذبح حيا) فهو داخل في الميتة.
ثم استثنى تعالى حالة الضرورة فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ.} . أي فمن دعته الضرورة وألجأته، واحتاج من غير بغي ولا عدوان إلى تناول شيء من هذه المحرّمات، لمجاعة غلب على ظنه الهلاك فيها، غير باغ على مضطر آخر، بأن ينفرد بتناوله، فيهلك الآخر، ولا عاد أي متجاوز ما يسد الرمق والجوع أي قدر الضرورة، مما يدل على تحريم الشبع وهو مذهب الأكثرين، فإن الله غفور ستار لذنبه أو هفوته، لا يؤاخذه على ذلك، رحيم به أن يعاقبه على مثل ذلك. وفي هذا تيسير وتوسعة على هذه الأمة التي يريد الله بها اليسر ولا يريد بها العسر.
ثم نهى الله تعالى عن سلوك سبيل المشركين بالتحليل والتحريم بآرائهم، وما ابتدعوه شرعا في جاهليتهم من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك، وتحليل الميتة والدم وغيرهما، فقال:{وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ.} . أي ولا تحللوا وتحرموا بالرأي والهوى والجهالة، دون اتباع شرع الله، ولمجرد وصف ألسنتكم الكذب دون دليل. وهذه مبالغة في تأكيد حصر المحرمات في الأربع السابقة.
{لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} أي لتصير عاقبة أمركم إسناد التحليل والتحريم إلى الله كذبا، من غير إنزال شيء فيه، فإن من حلل أو حرم شيئا برأيه دون دليل أو وحي من الله، كان من الكاذبين على الله تعالى.
فيدخل في هذا النهي كل من حلل شيئا مما حرم الله، أو حرم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه وهواه، وكل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي.
ثم توعد على ذلك فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ، مَتاعٌ قَلِيلٌ.} ..
أي إن الذين يختلقون الكذب على الله، لا يفوزون بخير في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الدنيا فلهم متاع قليل زائل وعرض زائل، وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم جدا، كما قال:{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ} [لقمان 24/ 31].
والآية في الأصل خطاب للكفار الذين حرموا البحائر والسوائب، وأحلوا ما في بطون الأنعام وإن كان ميتة.
وبعد بيان الحلال والحرام والمباح للضرورة لهذه الأمة، ذكر تعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل نسخها، فقال:{وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا.} . أي وقد حرمنا على اليهود ما أخبرناك به أيها الرسول في سورة الأنعام: {وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما، إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام 146/ 6] فلا يصح لكم أيها العرب التحريم والتحليل من عند أنفسكم، ولا تقليد اليهود فيما حرمنا عليهم، فلم نحرم عليهم إلا ما ذكر.
وسبب التحريم هو: {وَما ظَلَمْناهُمْ.} . أي وما كان التحريم بظلم منا، ولكن كان بسبب ظلم ارتكبوه، فإنهم ظلموا أنفسهم بعصيان ربهم ومعاندة رسلهم، وتجاوز حدودهم، فاستحقوا ذلك، وعوقبوا بما حرمناه عليهم، كما قال تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ.} .
[النساء 160/ 4]. وهو صريح في أن التحريم كان بسبب الظلم والبغي، عقوبة وتشديدا.
ثم أبان الله تعالى إمكان قبول التوبة تكرما وامتنانا على العصاة والمفترين على الله، والمنتهكين حرماته، فقال:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ} أي إن الافتراء على الله ومخالفة أمر الله لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة، فإن