الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية قوله تعالى في سورة يس: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ، فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} إلى آخر السورة.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أنه منزّه عن الشريك والولد، وأنه الإله الواحد، وأمر بإخلاص العبادة له، ذكر أدلة وجود الإله الصانع الواحد وكمال قدرته وحكمته، وهي خمسة: خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان، وخلق الأنعام، وخلق النبات، وخلق العناصر الأربعة. والأخيران هما موضوع الآيات التالية.
التفسير والبيان:
خلق الله تعالى وأبدع العالم العلوي وهو السموات، والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت، وذلك مخلوق بالحق، أي على أساس من الحكمة والتقدير المحكم، لا عبثا، وانفرد بخلقه ذلك، فتنزه الله عن المعين والشريك، لعجز ما سواه عن خلق شيء، فلا يستحق العبادة إلا هو، فقوله {تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ} تنزيه نفسه عن شرك من عبد معه غيره، فهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له، فيستحق أن يعبد وحده لا شريك له.
ثم ذكر الله تعالى خلق جنس الإنسان من نطفة، أي مهينة ضعيفة، فقال:
{خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ.} . أي خلق الإنسان من ماء مهين ضعيف، فلما استقل وكبر، إذا هو يخاصم ربه تعالى، ويكذبه وهو إنما خلق ليكون عبدا، لا ضدا، وخلق من شيء ضعيف، فتراه يجادل ويقول:{مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس 78/ 36]. ونظير الآية: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً، فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً، وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ، وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً} [الفرقان 54/ 25 - 55].
روي أن المراد بالآية أبيّ بن خلف الجمحي، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم
رميم، فقال: أترى يحيي الله هذا بعد ما قد رمّ؟ وفي هذا أيضا نزل {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس 77/ 36].
ثم امتن الله تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية أزواج، فقال:{وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ.} . أي وخلق الله لكم الأنعام ذات المصالح والمنافع المختلفة لكم، من أصواف وأوبار وأشعار للبس والأثاث (أو الفراش) ومن ألبان للشرب، ونسل للأكل.
ولكم في هذه الأنعام جمال، أي زينة حين الرواح: وهو وقت رجوعها عشاء من المراعي، ووقت السّروح: وهو وقت الغدوة والذهاب من مراحها إلى مسارحها أو المرعى. وخص تعالى هذين الوقتين بالذكر لاهتمام الرعاة بهما حين الذهاب والإياب، وفي ذلك مفاخرة بالقطيع، وقدم الرّواح على السّروح؛ لأن الفائدة فيه أتم، لمجيئها شبعانة، فتدر الحليب، وتملأ النفس سرورا، والعين متعة، فهي عنصر للغذاء وأداة إنتاج في الاقتصاد.
وجمال الأنعام والدواب من جمال الخلقة والتركيب والصورة.
وكذلك هي أداة عمل وركوب وحمل أمتعة، فقال تعالى:{وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ.} . أي وهي أيضا تحمل أمتعتكم الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها من بلد إلى آخر لا تبلغونه إلا بمشقة شديدة، مثل الحج والعمرة والجهاد والتجارة ونحو ذلك من أنواع الاستعمال ركوبا وتحميلا، كما قال تعالى:{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِها، وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون 21/ 23 - 22] وقال سبحانه: {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها، وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ، وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ، وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر 79/ 40 - 80].
وتظل الأنعام ثروة اقتصادية في كل زمان ومكان، ونعمة كبري، لذا ختم
تعالى الآية بقوله: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} أي ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم كثير الرأفة والرحمة بعباده، فقد جعلها لهم مصدر رزق وخير كبير، وأداة منافع وجلب مصالح، كما قال سبحانه:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً، فَهُمْ لَها مالِكُونَ. وَذَلَّلْناها لَهُمْ، فَمِنْها رَكُوبُهُمْ، وَمِنْها يَأْكُلُونَ} [يس 71/ 36 - 72].
وامتن الله تعالى على الناس بثروة حيوانية أخرى هي: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ.} . وخلق لكم الخيل والبغال والحمير أيضا، وجعلها للركوب والزينة بها أي تتزينون بها، مع منافع أخرى.
ثم جاء دور الامتنان بوسائل النقل والمواصلات الحديثة: {وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} أي ويخلق لكم غير هذه الحيوانات من وسائل النقل كالقطارات والسيارات والسفن والطائرات وغيرها.
ثم في هذا العالم السماوي والأرضي والحيواني، يرشد تعالى إلى الطريق السوي من الطرق المعنوية الدينية والحياتية فقال:{وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ.} . أي وعلى الله فضلا وتكرما بيان الطريق الواضح الموصل إلى الحق والخير، بإقامة الأدلة وإنزال الكتب وإرسال الرسل، كما قال تعالى:{وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام 153/ 6] وقال سبحانه: {قالَ: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} [الحجر 41/ 15].
وكثيرا-كما قال ابن كثير-ما يقع في القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية، كقوله تعالى في الحج:{وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى} [البقرة 197/ 2] وقوله سبحانه: {يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً، وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف 26/ 7].
ثم قال سبحانه محذرا من متاهات الطرق: {وَمِنْها جائِرٌ} أي ومن