الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اتباع أوامر الدين وترك نواهيه، ترغيبا في التأسي بطريقتهم، ذكر صفات الخلف الذين أتوا بعدهم ممن أضاعوا واجبات الدين، وانتهبوا اللذات والشهوات، ثم ذكر ما ينالهم من العقاب في الآخرة، إلا من تاب، فإن الله يقبل توبته، ويورثه جنات النعيم التي لا يرثها إلا الأتقياء.
قال الرازي: وظاهر الكلام. أن المراد من بعد هؤلاء الأنبياء خلف من أولادهم.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في قوم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق، كما تراكب الأنعام، لا يستحيون من الناس، ولا يخافون من الله في السماء.
أخرج أحمد وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتلا هذه الآية، قال:«يكون خلف من بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر» .
التفسير والبيان:
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ، فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} أي فجاء خلف سوء من بعد أولئك السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم القائمون بحدود الله وأوامره، المؤدون فرائض الله، التاركون لزواجره.
أولئك الخلف يدّعون الإيمان واتباع الأنبياء، ولكنهم مخالفون مقصرون كاليهود والنصارى وفسّاق المسلمين الذين تركوا الصلاة المفروضة عليهم، وآثروا شهواتهم من المحرّمات على طاعة الله، فاقترفوا الزنى، وشربوا الخمور، وشهدوا شهادة الزور، ولعبوا الميسر، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء جزاؤهم أنهم سيلقون غيا، أي شرا وخيبة وخسارا يوم القيامة، لارتكابهم المعاصي، وإهمال الواجبات.
والمراد بإضاعة الصلاة في الأظهر تركها بالكلام، وعدم فعلها أصلا، وجحود وجوبها. ويرى بعضهم كالشوكاني أن من أخر الصلاة عن وقتها، أو ترك فرضا من فروضها، أو شرطا من شروطها، أو ركنا من أركانها، فقد أضاعها.
لذا ذهب جماعة من السلف والخلف والأئمة، كما الذي رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي وهو المشهور عن الإمام أحمد وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة؛
للحديث: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة»
والحديث الآخر الذي رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن بريدة: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» .
ثم استثنى الله تعالى من الجزاء المتقدم التائبين، فقال:
{إِلاّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} أي لكن من تاب مما فرط منه من ترك الصلوات، واتباع الشهوات، فرجع إلى طاعة الله وآمن به وعمل عملا صالحا، فأولئك يدخلهم ربهم الجنة، ويغفر لهم ذنوبهم؛ لأن
«التوبة تجب ما قبلها» في حديث ذكره الفقهاء، وفي
الحديث الآخر الذي رواه ابن ماجه عن ابن مسعود: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» وأولئك أيضا لا ينقص من أجورهم شيء، وإن كان العمل قليلا؛ لأن أعمالهم السابقة ذهبت هدرا، وصارت منسية، تفضلا ورحمة من الله الكريم اللطيف الحليم.
وهذا الاستثناء كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاّ بِالْحَقِّ، وَلا يَزْنُونَ.} . ثم قال تعالى: {إِلاّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان 68/ 25 - 70].
ثم وصف الله تعالى الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم وهي أوصاف ثلاثة:
1 -
{جَنّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} أي هي جنات إقامة دائمة، وعد الرحمن بها عباده الأبرار بظهر الغيب، فآمنوا بها ولم يروها؛ لقوة إيمانهم، ولأن وعد الله آت لا يخلف، ومنها الجنة، يأتيها أهلها لا محالة. وقوله:{إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} أي آتيا: تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره، فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله، كقوله:{كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} [المزمل 18/ 73] أي كائنا لا محالة.
2 -
{لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاّ سَلاماً} أي لا يسمع الأبرار أهل الجنة فيها كلاما ساقطا، أو تافها لا معنى له، أو هذرا لا طائل تحته، كما قد يوجد في الدنيا، ولكن يسمعون سلام بعضهم على بعض، أو سلام الملائكة عليهم، بما يشعرهم بالأمان والطمأنينة، وهما منتهى الراحة والسعادة.
وقوله: {إِلاّ سَلاماً} استثناء منقطع كقوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلاّ قِيلاً: سَلاماً سَلاماً} [الواقعة 25/ 56 - 26].
3 -
{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} أي يأتيهم ما يشتهون من الطعام والشراب قدر وقت البكرة والعشي، أي وقت الغداء صباحا، والعشاء مساء إذ ليس هناك ليل ولا نهار، وإنما بمقدار طرفي النهار في الدنيا، وفي أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنهار، كما
أخرج الإمام أحمد والشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أول زمرة تلج الجنة، صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يتمخّطون فيها، ولا يتغوّطون، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألوّة
(1)
، ورشحهم
(1)
الألوّة: بفتح الهمزة وضمها، عود يتبخر به، والمجامر جمع مجمرة: وهي الشيء الذي يوضع فيه الجمر والبخور.