الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اختبر فيه الخضر صبر موسى، ولم يصبر؛ لمخالفته ظاهر شريعته؛ لأن القتل لا يكون إلا لأجل القصاص بالنفس، مع أنه قد يكون لسبب آخر.
التفسير والبيان:
{قالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي قال الخضر لموسى الذي خالف الشرط: ألم أخبرك أنك لا تتمكن من احتمال ما أفعله، ولن تسكت على ما أقوم به. ويلاحظ أنه زاد هنا لفظ {لَكَ} على ما سبق؛ لأن سبب العتاب أوضح وأقوى بعد التذكير المتقدم، وتكرر المخالفة من موسى للعهد أو الشرط الذي التزمه، وإن كان قتل الغلام الوضيء الجميل الحسن الذي كان يلعب مع الغلمان في قرية أعظم جرما وأقبح من خرق السفينة، لذا قال موسى:
{لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} والنكر أعظم من (الإمر) في القبح. وهذا إشارة إلى أن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة؛ لأن إتلاف النفس أخطر من إتلاف المال.
فاعتذر موسى عليه السلام بقوله:
{قالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} أي قال موسى للخضر: إن اعترضت على شيء يحدث بعد هذا الفعل، أو هذه المرة، فلا تجعلني صاحبا لك، قد أعذرت إلي مرة بعد مرة، حيث أكون قد خالفتك إلى الآن مرتين. وهذا كلام نادم شديد الندامة.
روى ابن جرير عن أبيّ بن كعب قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا ذكر أحدا، فدعا له، بدأ بنفسه، فقال ذات يوم:«رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب، ولكنه قال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها، فَلا تُصاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً}» .
والحادث الثالث هو:
{فَانْطَلَقا حَتّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما} أي فانطلق الخضر وموسى يمشيان بعد المرتين الأوليين، حتى إذا وصلا إلى قرية، طلبا من أهلها إطعامهما وسد جوعتهما، فرفضوا ذلك وأبوا أن يعطوهما ما هو حق واجب عليهم من الضيافة. وهذا إخلال بالمروءة، واتصاف بالبخل والشح، وتلك القرية هي أنطاكية.
{فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ} أي وجد الخضر وموسى في تلك القرية حائطا آيلا إلى السقوط، فردّه الخضر كما كان، جاء في الحديث الصحيح: أنه مسحه بيده فإذا هو قد استقام. وهذا من كراماته.
وإسناد الإرادة هنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة كما تقدم، فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل، والانقضاض: هو السقوط، والأول من أفعال العقلاء والثاني من خواص الجمادات ونحوها.
فعند ذلك قال موسى للخضر:
{قالَ: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} أي قال موسى للخضر: ليتك تطلب أجرة على إقامة الجدار وإصلاحه، فإنه نظرا لأنهم لم يضيفونا، كان ينبغي ألا تعمل لهم مجانا، فأجابه الخضر:
{قالَ: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} أي قال الخضر لموسى عليهما السلام: هذا الإنكار أو الاعتراض المتكرر سبب الفراق بيننا أو المفرّق بيننا، بحسب الشرط الذي قبلته على نفسك، فقد قلت بعد قتل الغلام:{إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها، فَلا تُصاحِبْنِي} . وسأخبرك بتفسير وبيان وجه الأفعال التي أنكرتها، ولم تطق صبرا عليها، وهي خرق السفينة،
وقتل الغلام، وإقامة الجدار. وهذا عتاب ولوم على عدم الصبر. ثم ذكر الخضر سبب ما أقدم عليه من الأمور الثلاثة:
1 -
{أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها، وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} أي إن السفينة التي خرقتها لأعيبها، فكانت مملوكة لضعفاء أيتام ليس لهم شيء ينتفعون به غيرها، ولا يقدرون على دفع من أراد ظلمهم، وكانوا يكرون تلك السفينة لركاب البحر، ويأخذون الأجرة، فأردت بخرقها ونزع لوح منها أن أعيبها؛ لأنه كان أمامهم ملك جبار ظالم يستولي على كل سفينة صالحة غير معيبة، ويغتصبها ظلما وعدوانا دون وجه حق، فكان عملي حماية لهذه السفينة لأصحابها الضعفاء، فأنا لم أعمل سوءا، وإنما ارتكبت أخف الضررين لدفع أعظمهما.
روى ابن جريج عن شعيب الجبائي: «أن اسم ذلك الملك هدد بن بدد» وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق.
ويلاحظ أن المراد بقوله {وَراءَهُمْ} أمامهم، كقوله تعالى:{مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ} [الجاثية 10/ 45] وقوله تعالى: {وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الدهر 27/ 76].
2 -
{وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ، فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً} أي وأما الولد الغلام الذي قتلته، وكان اسمه شمعون أو حيثور أو حيسون، فإنه كان كافرا، وقد أطلعني الله على مستقبله، وكان أبواه مؤمنين، فخشينا إذا صار كبيرا أن يحملهما حبه على متابعته في الكفر والوقوع في الظلم والعصيان والمنكرات؛ لأن حب الولد غريزة. وهذا من قبيل سد الذرائع وفتحها، فإن كل ما كان وسيلة إلى المصلحة فهو مصلحة.
قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد، وحزنا عليه حين قتل، ولو بقي
لكان فيه هلاكهما، فليرض امرؤ بقضاء الله، فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب. وصح في الحديث:«لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا له» وقال تعالى: {وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة 216/ 2].
{فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} أي قال الخضر العالم: فأردنا أن يرزقهما الله بدل هذا الولد ولدا خيرا منه دينا وصلاحا وطهارة من الذنوب، وأقرب رحمة لوالديه، وعطفا عليهما، وبرا بهما وشفقة عليهما.
ويلاحظ أن الغلام يشمل البالغ والصغير، ويرى الجمهور أن هذا الغلام لم يكن بالغا، لذا قال موسى: نفسا زكية أي لم تذنب. وقال الكلبي: كان بالغا.
3 -
{وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما، وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً، فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما، وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} أي وأما الحائط الذي أصلحته، فكان لولدين صغيرين يتيمين في قرية هي أنطاكية، وكان تحته كنز، أي مال جسيم مدفون، وكان أبوهما وهو الأب السابع رجلا صالحا، فأراد الله إبقاء ذلك الكنز (وكان مالا) مدفونا حفظا لمالهما، ولصلاح أبيهما، فأمرني ربي بإصلاح ذلك الحائط، إذ لو سقط لاكتشف وأخذ، وأراد الله أن يبلغ الغلامان كمالهما وتمام نموهما، ويستخرجا الكنز من ذلك الموضع الذي عليه الجدار، رحمة لهما، بصلاح أبيهما. والمراد بالمدينة هي القرية المذكورة سابقا:{حَتّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ} وهو دليل على إطلاق القرية على المدينة. والظاهر أن الغلامين كانا صغيرين بقرينة وصفهما باليتم، وقد قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود عن علي:«لا يتم بعد احتلام» .
ويلاحظ أنه هنا أسند الإرادة إلى الله تعالى؛ لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله. وأما في السفينة، فأسند الفعل إلى الخضر العالم، فقال تعالى:{فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها} كما أن الأدب يقضي إسناد الخير إلى الله، والشر إلى العباد.