الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النصارى، ومنهم من أثبت معبودا غير الله جمادا، ليس بحي ولا عاقل ولا فاهم، وهم عبدة الأوثان.
والفريقان وإن اشتركا في الضلال، إلا أن ضلال الفريق الثاني أعظم، فلما بين تعالى ضلال الفريق الأول، تكلم في ضلال الفريق الثاني، وهم عبدة الأوثان.
التفسير والبيان:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا} هذا عطف على قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ} الذي هو عطف على قوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّا} أي واذكر أيها الرسول إبراهيم الصدّيق النبي، خليل الرحمن، أبا الأنبياء، واتل خبره على الناس في الكتاب المنزل عليك، فهو بالحجارة، وفي ذلك إيناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عما يلقاه من أذى قومه، وغلظة عمه أبي لهب، وفظاظة أبي جهل.
{إِذْ قالَ لِأَبِيهِ: يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ، وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} اذكر إبراهيم حين قال بلطف وعقل واع وبرهان قاطع لأبيه آزر:
يا أبت، لم تعبد ما لا يسمع دعاءك إياه، ولا يبصر ما تفعله من عبادته، ولا يجلب لك نفعا، ولا يدفع عنك ضررا، وهي الأصنام الجمادات.
{يا أَبَتِ، إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا} أي يا أبي، وإن كنت من صلبك، وتراني أصغر منك؛ لأني ولدك، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله، على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك، فاتبعني في دعوتي أرشدك طريقا سويا مستقيما موصلا إلى نيل المطلوب، منجيا من كل مرهوب ومكروه.
والمراد بالهداية: بيان الدليل وشرحه وإيضاحه، وقوله:{فَاتَّبِعْنِي} ليس أمر إيجاب، بل أمر إرشاد، وكانت هذه المحاورة بعد أن صار إبراهيم نبيا. ويلاحظ أنه لم يصف أباه بالجهل، ولا نفسه بالعلم الكامل، لئلا ينفر منه، وإنما قال: أعطيت شيئا من العلم لم تعطه.
{يا أَبَتِ، لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا} أي يا أبي، لا تطع الشيطان في عبادتك هذه الأصنام، فإنه هو الداعي إلى عبادتها، المستن لها، الراضي بها، كما قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس 60/ 36] وقال سبحانه: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً، وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً} [النساء 117/ 4].
لا تطع الشيطان، فإن عبادة الأصنام، هي من طاعة الشيطان، والشيطان عاص (كثير العصيان) مخالف مستكبر عن طاعة ربه، حين ترك ما أمره به من السجود لآدم، والعاصي حقيق بأن تسلب عنه النعم، وتحلّ به النقم، لذا طرده ربه وأبعده من رحمته، فلا تتبعه تصر مثله، فإن عبادة الأصنام لا يتقبلها عقل، ولكنها تنشأ من وسوسة الشيطان وإغوائه، فكانت عبادتها عبادة له، وطاعة لإغوائه، والشيطان عدو آدم وذريته، لا يريد لكم إلا الشر.
{يا أَبَتِ، إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا} يا أبي، إني أخشى أن يصيبك عذاب الله على شركك وعصيانك لما أطلبه منك، فتكون بذلك مواليا للشيطان، وقرينا معه في النار، بسبب موالاته.
وهذا تحذير لأبيه من سوء العاقبة، وإنذار بالشر، حيث لا يكون له مولى ولا ناصر ولا مغيث إلا إبليس، وليس له ولا لغيره من الأمر شيء، بل اتباعه موجب لإحاطة العذاب به، كما قال تعالى: {تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ
قَبْلِكَ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} [النحل 63/ 16].
وبالرغم من هذا الأدب في الدعوة إلى التوحيد مع البراهين والأدلة الدالة على بطلان عبادة الأوثان، أجابه أبوه بما هو غير مأمول منه، فقال تعالى:
{قالَ: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ؟ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} أجاب أبو إبراهيم ولده إبراهيم فيما دعاه إليه قائلا: أمعرض أنت عن تلك الأصنام ومنصرف إلى غيرها؟ وإن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها، فامتنع عن سبها وشتمها وعيبها، فإنك إن لم تنته عن ذلك لأرجمنك بالحجارة أو لأشتمنك، وفارقني زمنا طويلا.
ويلاحظ أن الأب قابل ابنه بالعنف، فلم يقل له: يا بني، كما قال الابن له: يا أبت، وقابل وعظه الرقيق بالتهديد والوعيد بالشتم أو بالضرب بالحجارة، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عما يلقاه من أذى قومه، وغلظة عمه أبي لهب، وفظاظة أبي جهل.
ومع كل هذا أجابه إبراهيم باللطف قائلا:
{قالَ: سَلامٌ عَلَيْكَ، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا} أي قال إبراهيم لأبيه: سلام عليك سلام توديع وترك لا سلام تحية، فلا ينالك مني مكروه ولا أذى، لحرمة الأبوة، وكما قال تعالى في صفة المؤمنين:{وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا: سَلاماً} [الفرقان 63/ 25] وقال سبحانه: {وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقالُوا: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ، لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ} [القصص 55/ 28].
ولكن سأطلب لك من الله أن يهديك ويغفر لك، بأن يوفقك للإيمان، ويرشدك للخير، إن ربي كان بي لطيفا كثير البرّ، يجيبني إذا دعوته. ونظير
الآية: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضّالِّينَ} [الشعراء 86/ 26]{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ} [إبراهيم 41/ 14]. والمراد بكل ذلك طلب الهداية وترك الضلال.
وإنما استغفر له؛ لوعد سابق منه أن يؤمن، كما قال تعالى:{وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيّاهُ، فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة 114/ 9].
ويرى ابن كثير أن الاستغفار للمشركين كان جائزا ثم نسخ في شرعنا، فقال: وقد استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه مدة طويلة، وبعد أن هاجر إلى الشام، وبنى المسجد الحرام، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ} وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام، وذلك اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك، حتى أنزل الله تعالى:{قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} إلى قوله:
الآية [الممتحنة 4/ 60] يعني إلا في هذا القول، فلا تتأسوا به. ثم بيّن تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه، واستقر التشريع بما دلّ عليه قوله تعالى:
(1)
.
والخلاصة: إن الاستغفار بمعنى طلب الهداية والتوفيق حال الحياة لا بأس به، وأما بعد الموت على الشرك أو الكفر، فهو ممنوع، فقول بعض الناس:
المرحوم فلان، وهو يعلم أنه مات كافرا، غير جائز.
(1)
تفسير ابن كثير: 123/ 3 - 124.
ثم قرر إبراهيم عليه السلام الهجرة إلى بلاد الشام، فقال تعالى:
{وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَأَدْعُوا رَبِّي، عَسى أَلاّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا} أي وأبتعد عنكم، وأهاجر بديني عنكم وعن معبوداتكم، حين لم تقبلوا نصحي، وأعبد ربي وحده لا شريك له، وأجتنب عبادة غيره، لعلي لا أكون بدعاء ربي خائبا، كما خبتم أنتم بعبادة تلك الأصنام التي لا تجيب دعاءكم ولا تنفعكم ولا تضركم. و {عَسى} ذكر ذلك على سبيل التواضع، كقوله:
{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء 82/ 26] ويراد بها التحقق لا محالة، فهو عليه السلام أبو الأنبياء. كذلك قوله:{شَقِيًّا} ذكره على سبيل التواضع، وفيه تعريض بشقاوتهم في دعاء آلهتهم في قوله المتقدم لأبيه:{لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} .
ولما أنفذ ما نواه وعزم عليه، حقق الله رجاءه ودعاءه، فقال:
{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ، وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا} أي فلما اعتزل إبراهيم الخليل أباه وقومه، وترك أرضه ووطنه، وهجر موضع عبادتهم غير الله، وهاجر في سبيل الله إلى أرض بيت المقدس حيث يقدر على إظهار دينه، أبدله الله من هو خير منهم، ووهب له إسحاق بعد أن تزوج من سارّة، وابنه يعقوب حفيده، بدل الأهل الذين فارقهم، وجعل الله كل واحد من إسحاق ويعقوب نبيا أقرّ الله بهم عينيه، فكل الأنبياء من سلالتهما، وكل الأديان تحب إبراهيم وتحترمه مع إسحاق ويعقوب.
{وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} أي وأعطيناهم من فضلنا ورحمتنا النبوة والمال والأولاد والكتاب، وجعلنا لهم الثناء الحسن على ألسن العباد، كما قال تعالى:{وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء 84/ 26]. قال ابن جرير: وإنما قال: {عَلِيًّا} لأن جميع الملل والأديان يثنون عليهم ويمدحونهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.