الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله وعذابه. وقدم التذكر على الخشية؛ لأن التذكر للمتحقق، والخشية للمتوهم، أي إن لم يتحقق صدقكما، ولم يتذكر، فلا أقل من أن يتوهمه، فيخشى. {يَفْرُطَ} يعجل بالعقوبة {أَوْ أَنْ يَطْغى} علينا، أي يتكبر ويزداد طغيانا {إِنَّنِي مَعَكُما} بالعون والحفظ والنصرة {أَسْمَعُ} ما يقول {وَأَرى} ما يفعل، بل أسمع وأرى ما يجزي بينكما من قول أو فعل، فأصرف شره عنكما.
{فَأْتِياهُ} قابلاه مواجهة {فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ} أطلقهم من الأسر، ودعهم يذهبون معنا إلى الشام {وَلا تُعَذِّبْهُمْ} ولا تبقهم عندك معذبين بالتكاليف الصعبة والأشغال الشاقة كالحفر والبناء وحمل الأثقال، وقتل الولدان، وهذا دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان {قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} أي بحجة على صدقنا بالرسالة. وهي جملة مقررة لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة. وإنما وحد الآية وكان معه آيتان؛ لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها، فالمراد: جنس الآية، لا الإشارة إلى وحدة الحجة وتعددها.
{وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى} أي السلامة من العذاب في الدارين، لمن صدق بآيات الله الدالة على الحق {كَذَّبَ} ما جئنا به {وَتَوَلّى} أعرض عنه. ويلاحظ أنه قدم البشارة بالسلام للترغيب وعملا بسياسة اللين المأمور بها، ثم جاء التصريح بالوعيد والتوكيد فيه؛ لأن العقاب مؤيد والتهديد مهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى النعم الثماني على موسى في مقابل طلباته الثمانية، ذكر هنا الأوامر والنواهي أو التوجيهات التي ينفذها هو وأخوه هارون، كالتعليمات التي تعطى للرسل والسفراء والقناصل لدى الذهاب في مهمة إلى دولة أخرى، للتوصل إلى نجاح المهمة، وأداء الرسالة على أكمل وجه، والخلاصة: أنه لما قال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} عقبه بذكر ما لأجله اصطنعه، وهو الإبلاغ والأداء.
التفسير والبيان:
هذه هي الأوامر والنواهي الصادرة من الله لموسى وأخيه، فقال تعالى:
{اِذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي} أي اذهب يا موسى مع أخيك إلى فرعون وقومه بحججي وبراهيني ومعجزاتي التي جعلتها لك آية وعلامة على
النبوة، وهي التسع آيات التي أنزلت عليك، ولا تضعفا، ولا تفترا عن ذكر الله، ولا عن تبليغ الرسالة إليهم، فإن ذكر الله عون وقوة وسلطان، كما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي عن عمارة بن دسكرة: «إن عبدي كل عبدي:
الذي يذكرني وهو مناجز قرنه» أي نظيره في الشجاعة والحرب. والذكر يقع على كل العبادات، وتبليغ الرسالة من أعظمها، وذلك بأن يبينا لهم أن الله أرسلهما مبشرين ومنذرين، وأنه لا يرضى منهم بالكفر، ويذكرا لهما أمر الثواب والعقاب والترغيب والترهيب.
{اِذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى} اذهبا إلى فرعون، وأبطلا دعواه الألوهية بالحجة والبرهان؛ لأنه جاوز الحد في الكفر والتمرد، وتجبر على الله وعصاه، حين قال:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} [النازعات 24/ 79].
وبدأ بفرعون لأنه الحاكم، فإذا آمن تبعه الرعية، ثم بين الله تعالى أسلوب الدعوة، فقال:
{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} أي فكلماه كلاما رقيقا لطيفا لا خشونة فيه، وخاطباه بالقول اللين، فذلك أدعى به وأحرى أن يفكر فيما تبلغانه، ويخشى عقاب الله الموعود به على لسانكما. والمراد تركهما التعنيف، كقولهما:{هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى.} .
[النازعات 18/ 79 - 19] لأن نفس الحاكم مستعلية قاسية، لا تقبل القسر والقسوة، وتلين للمديح والاستعطاف. وكلمة «لعل» هنا لتوقع حصول ما بعدها، واحتمال تحققه، فالتوقع فيها من البشر، أي على أن تكونا راجيين لأن يتذكر أو يخشى. والخطاب وإن كان مع موسى، فإن هارون تابع له، فجعل الخطاب معه خطابا مع هارون.
وفي هذه الآية عبرة وعظة وهي أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا
بالملاطفة واللين، كما قال تعالى:{اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل 125/ 16].
فأجاب موسى وهارون بقولهما:
{قالا: رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى} أي قال موسى وهارون: يا ربنا، إننا نخاف من فرعون إن دعوناه إلى التوحيد وعبادتك، أن يعجل ويبادر بعقوبتنا، ويشتط في أذيتنا ويعتدي علينا، لتجبره وعتوه وقساوته.
{قالَ: لا تَخافا، إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى} أي قال الله لموسى وهارون:
لا تخافا من فرعون، فإنني معكما بالنصر والتأييد، والحفظ والعون عليه، وإنني سميع لما يجري بينكما وبينه، ولست بغافل عنكما، وأرى كل ما يقع، فأصرف شره عنكما. والمراد أنه تعالى حثهما على التبليغ بجرأة وحكمة، وتكفل لهما بالحفظ والمعونة والنصرة والوقاية من شر فرعون وغضبه. وتدل هذه الآية على أن كونه تعالى سميعا بصيرا صفتان زائدتان على العلم؛ لأن قوله:{إِنَّنِي مَعَكُما} دل على العلم، و {أَسْمَعُ وَأَرى} على السمع والبصر.
{فَأْتِياهُ فَقُولا: إِنّا رَسُولا رَبِّكَ} أي فأتياه في مجلسه وقابلاه وقولا له:
إن الله أرسلنا إليك. وقوله {رَبِّكَ} إشارة إلى أن الرب الحقيقي هو الله، وأن دعواك الربوبية لنفسك لا معنى لها.
{فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} أي أطلق سراح بني إسرائيل من الأسر، وخل عنهم، ولا تعذبهم بتذبيح أبنائهم، واستحياء نسائهم، وتكليفهم مالا يطيقون من السخرة في أعمال البناء والحفر ونقل الأحجار. وإنما بدأ موسى وهارون بهذا الطلب لأنه أخف وأسهل من الدعوة المباشرة إلى الإيمان بالله تعالى.
{قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى} أي قد أتيناك بمعجزة ودلالة وعلامة من ربك على أنا مرسلون لك، والسلامة والأمن من سخط الله ومن عذابه على من اتبع هدى ربه، فآمن برسله، واسترشد بآياته الداعية إلى الحق والخير وترك الظلم والضلال. وهذا ليس بتحية. والعبارة الأخيرة كانت تكتب في مكاتبات النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الملوك والأمراء يدعوهم فيها إلى الإسلام.
مثل كتاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل عظيم الروم، ونصه:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:
فإني أدعوك بدعاية الإسلام، فأسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين».
ولما كتب مسيلمة الكذاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابا صورته:
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
{إِنّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلّى} أي إننا وجهنا لك النصح والإرشاد؛ لأن الله أخبرنا فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم: أن العذاب متمحض خالص لمن كذب بآيات الله وبما ندعو إليه من توحيده، وتولى عن طاعته، كما قال تعالى:{فَأَمّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى} [النازعات 37/ 79 - 39]، وقال سبحانه:{فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظّى، لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلّى} [الليل 14/ 92 - 16]، وقال