الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المناسبة:
بعد ذكر الموعد وهو يوم الزينة وذكر مجيئهم صفا، حدثت المبارزة بين السحرة وموسى، فخيروه بين بدئه بالإلقاء، وبدئهم به، وكان ذلك أدبا منهم وتواضعا، رزقوا الإيمان ببركته، فقابلهم موسى أدبا بأدب، وقدمهم في الإلقاء؛ لأنه الطريق إلى إزالة الشبهة، فما كان منهم إلا الإيمان، لمعرفتهم بأن فعل موسى معجزة وليس سحرا، وصمدوا على إيمانهم هازئين بتهديد فرعون بالتقطيع والصلب.
التفسير والبيان:
لما بدأت المبارزة، والتقى الفريقان، قالت السحرة لموسى:
{قالُوا: يا مُوسى، إِمّا أَنْ تُلْقِيَ، وَإِمّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى} أي قالت السحرة لموسى حين تقابلوا معه: اختر أحد الأمرين: إما أن تلقي أنت أولا ما تريد، وإما أن نلقي نحن ما معنا من العصي والحبال على الأرض.
وهذا التخيير مع تقديمه في الكلام أدب حسن وتواضع له، ألهمهم الله به، ورزقوا الإيمان ببركته، فقابل موسى عليه السلام أدبهم بأدب، فقال:
{قالَ: بَلْ أَلْقُوا} قال لهم موسى: بل ألقوا أنتم أولا، لنرى سحركم وتظهر حقيقة أمركم، ولتكون معجزته أظهر إذا ألقوهم ما معهم، ثم إذا ألقى عصاه فتبتلع ما ألقوه كله، وليظهر عدم المبالاة بسحرهم.
{فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى} أي فألقوا ما معهم من الحبال والعصي، فتوهم موسى ومن رآهم من الناس أنها تتحرك بسرعة كالأفاعي. ففي بدء الكلام حذف، أي فألقوا، وقوله:{فَإِذا} في رأي الزمخشري أنها إذا المفاجأة، وتعقبه الرازي فقال: والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها.
وجاء في آية أخرى أنهم لما ألقوا {وَقالُوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ، إِنّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ} [الشعراء 44/ 26] ونظير الآية التي هنا: {فَلَمّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّاسِ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف 116/ 7].
وذلك أنهم حشوها بالزئبق الذي يتأثر بحرارة الشمس، أو بمادة أخرى تتأثر بالحرارة، فيخيل للناظر أنها تسعى باختيارها، وكأن الوادي امتلأ حيات يركب بعضها بعضا.
{فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى} أي أحس موسى بالخوف من أن يغلب، تأثرا بالطبيعة البشرية. وابتهج فرعون وقومه، وظنوا أنهم قد نجحوا، وأن السحرة فازوا على موسى وهارون.
{قُلْنا: لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى} أي قال الله لموسى: لا تخف، فإنك أنت المستعلي عليهم بالظفر والغلبة.
{وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَلا يُفْلِحُ السّاحِرُ حَيْثُ أَتى} أي وألق يا موسى العصا التي في يمينك، تبتلع بعد أن تصير حية جميع ما صنعوه من الحبال والعصي، وسحروا بها أعين الناس، إن الذي صنعوه ليس إلا سحرا خيالا لا حقيقة له ولا بقاء، ولا يفوز الساحر حيث أتى من الأرض، أو حيث احتال، وأنه لا يحصل مقصوده بالسحر، خيرا كان أو شرا. وإنما أبهم العصا تهويلا لأمرها، وأنها ليست من جنس العصي المعروفة.
فقامت المعجزة، واتضح البرهان، وظهر الحق، وبطل السحر، ودهش الناس الذين ينظرون، وأدرك السحرة أن السحر لا يفعل هذا أبدا، وأن هذا خارج عن طاقة البشر، وأنه من فعل الإله خالق الكون، فآمنوا كما قال تعالى:
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً، قالُوا: آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى} أي فلما ألقى
موسى عصاه، وابتلعت عصيهم وحبالهم، علموا أن فعل موسى ليس من قبيل السحر والحيل، بل هو عن أمر الله القادر على كل شيء، فسجدوا لله وآمنوا برسالة موسى، قائلين: آمنا برب العالمين، رب هارون وموسى، مفضلين الآخرة على الدنيا، والحق على الباطل. قال ابن عباس وعبيد بن عمير: كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة. وروى عكرمة عن ابن عباس أيضا أنه قال: كانت السحرة سبعين رجلا، أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء. قال الأوزاعي: لما خر السحرة سجدا، رفعت لهم الجنة، حتى نظروا إليها.
الله أكبر! ففعل الله أعجب وأدهش، والإيمان البسيط سبب للمجد العظيم، والفضل الكبير، والنعم الخالدة في جنان الله. وليس المراد بقوله:
{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً} أنهم أجبروا على السجود، وإلا لما كانوا محمودين، بل إنهم من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا، قال صاحب الكشاف: ما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!! وإنما قالوا:{آمَنّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى} ولم يقولوا برب العالمين فقط؛ لأن فرعون ادعى الربوبية في قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى} [النازعات 24/ 79] وادعى الألوهية في قوله: {ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي} [القصص 38/ 28] فلو أنهم قالوا: آمنا برب العالمين فحسب، لقال فرعون إنهم آمنوا بي، لا بغيري، فاختاروا هذه العبارة لإبطال قوله، والدليل عليه: أنهم قدموا ذكر هارون على موسى؛ لأن فرعون كان يدعي ربوبيته لموسى؛ لأنه رباه في صغره كما حكى تعالى عنه: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً} [الشعراء 18/ 26].
ثم إن فرعون لما شاهد السجود والإقرار بالله تعالى، خاف متابعة الناس لهم واقتداءهم بهم في الإيمان بالله وبرسوله، فألقى شبهة أخرى في النبي ونبوته، فقال:
{قالَ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ، إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أي قال فرعون الذي أصر على كفره وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل حين رأى المعجزة الباهرة، وإيمان من استنصر بهم من السحرة، وهزيمته الساحقة: هل صدقتموه أو صدقتم قوله واتبعتموه على دينه من غير إذن مني لكم بذلك؟ فلم تؤمنوا عن بصيرة وتفكير، إنما أنتم أخذتم السحر عن موسى، فهو معلمكم وأستاذكم، وأنتم تلاميذه، واتفقتم وتواطأتم أنتم وإياه علي وعلى رعيتي لتظهروه وتروجوا لدعوته، كما قال تعالى:{إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ، لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف 123/ 7].
أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس، حتى لا يؤمنوا، وإلا فإنه قد علم أنهم لم يتعلموا من موسى، ولا كان رئيسا لهم، ولا بينه وبينهم صلة أو مواصلة.
ثم لجأ فرعون إلى التهديد والتنفير عن الإيمان قائلا:
{فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى} أي أقسم أني لأمثلن بكم، فأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، أي بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو عكسه. قال ابن عباس: فكان أول من فعل ذلك، وهذا تعطيل للمنفعة، وأيضا لأصلبنكم على جذوع النخل، زيادة في الإيلام والتشهير، وإنما اختارها لخشونتها وأذاها، ولتعلمن هل أنا أشد عذابا لكم أو رب موسى؟ وفي هذا تحد لقدرة الله، وتحقير لشأن موسى، وإيماء إلى ماله من سلطة وقهر واقتدار.
ولما صال عليهم بذلك وتوعدهم، هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل:
- {قالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا} أي لن
نختارك على ما جاءنا به موسى من البينات الواضحة من عند الله تعالى، والمعجزات الظاهرة كاليد والعصا، وعلى ما حصل لنا من الهدى واليقين، ولن نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم، فهو المستحق للعبادة والخضوع، لا أنت.
- {فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا} أي فافعل ما شئت، واصنع ما أنت صانع، إنما لك تسلط ونفوذ علينا في هذه الدنيا التي هي دار الزوال، بما تريد من أنواع القتل، ولا سبيل لك علينا فيما بعدها، ونحن قد رغبنا في دار القرار.
- {إِنّا آمَنّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا، وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى} أي إننا صدقنا بالله ربنا المحسن إلينا، ليتجاوز ويستر ويعفو عن سيئاتنا وآثامنا وذنوبنا، خصوصا ما أجبرتنا عليه من عمل السحر، لنعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه، والله خير لنا منك جزاء وأدوم ثوابا، مما كنت وعدتنا، وأبقى منك عقابا.
ذكر أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين، اثنان من القبط، والباقي من بني إسرائيل، فقالوا لفرعون: أرنا موسى نائما، فرأوه فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بساحر، الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه.
ولم تدل الآيات على تنفيذ فرعون ما هدد به السحرة، ولكن الظاهر أنه نفذ ذلك، لقول ابن عباس المتقدم: أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء بررة.
وتابع السحرة وعظ فرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم، ويرغبونه في ثوابه الأبدي الخالد، فقالوا:
{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ، لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} أي إن من يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم، فعذابه في جهنم، لا يموت فيها ميتة
مريحة، ولا يحيا حياة ممتعة، فهو يألم كما يألم الحي. وهذا من قول السحرة لما آمنوا، وقيل: ابتداء كلام من الله عز وجل.
ونظير الآية قوله تعالى: {لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها، كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر 36/ 35] وقوله سبحانه: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النّارَ الْكُبْرى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} [الأعلى 11/ 87 - 13] وقوله عز وجل: {وَنادَوْا يا مالِكُ، لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ} [الزخرف 77/ 43].
وأخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب، فأتى على هذه الآية، فقال: «أما أهلها الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا بأهلها، فإن النار تميتهم إماتة، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم ضبائر
(1)
على نهر، يقال له: نهر الحياة أو الحيوان، فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل».
وفي الخبر الصحيح: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان» .
{وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ، فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى} أي ومن يلقى ربه يوم المعاد مؤمن القلب، قد صدق ضميره بقوله وعمله، فعمل الطاعات، فأولئك لهم بإيمانهم وعملهم الصالح الجنة ذات الدرجات والمنازل العالية الرفيعة، والغرف الآمنة، والمساكن الطيبة.
أخرج الإمام أحمد والترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
(1)
الضبر: الجماعة، جمع ضبور، وضبائر: جمع الجمع.