الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: الطبيعة الإنسانية وطبيعة المتعلم
الإنسان والفطرة الإنسانية
…
الفصل الثالث: الطبيعة الإنسانية
الإنسان والفطرة الإنسانية:
الإنسان عبد الله، وسيد الكون، وهو مخلوق من طين الأرض، وفيه نفخة علوية من روح الله، فالإنسان هو هذان العنصران المختلفان، مترابطان ممتزجان في كيان كلي واحد:
وهو كان من كائنات الملأ الأعلى، لأن إنسانيته لم تتكون ولم تتشكل إلا بعد أن نفخ الله فيه من روحه، فقد نشأ في الملأ الأعلى، ثم هبط على الأرض اختيارا:{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124] .
وقد عقدت له الخلافة في الأرض ليعمرها ويرقيها وفق منهج الله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] .
وهو معان من الله على القيام بحق الخلافة، فالكون كل مسخر له:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] .
وهو أكرم خلق الله على الله:
ولأن الإنسان كريم على الله، ومعقودة له خلافة الأرض، فهو محسوب حسابه في تصميم الكون قبل أن يكون:{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 15] .
والإنسان -كما أسلفنا- يكون في أرفع مقاماته، وفي خير حالاته، حين يحقق مقام العبودية لله، إذ إنه -في هذه الحالة- يكون في أقوم حالات فطرته، وأحسن حالات كماله، وأصدق حالات وجوده1.
والبشر جميعا من أصل واحد: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] .
ولقد خلق الله البشر أمما، وقبائل، وشعوبا؛ ليتعارفوا، ويتعاونوا، لا ليتنافروا ويتناحروا {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] .
1 سيد قطب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، مرجع سابق، ص132.
والعقل الإنساني هو مناط التكليف، وهو شرف الإنسان وامتيازه، وقدرة الإنسان على التفكير والاختيار، هي التي أهلته لهذا الاستخلاف، ولحمل مسئولية تنفيذ منهج الله في الأرض، فالعقل هو مناط التكليف والمسئولية.
الحرية فطرة:
والعقيدة هي رابطة التجمع الإنساني الرئيسية، وليس الجنس، ولا القوم، ولا اللغة، ولا الأرض، ولا اللون، ولا الطبقة الاجتماعية أو المصالح السياسية أو الاقتصادية؛ ذلك لأن العقيدة مرتبطة بحرية الإنسان واختياره وإرادته، أما روابط القوم، والأرض أو اللحم، والدم، والطين، فلا إرادة للإنسان فيها، فالإنسان ليس حرا في اختيار بلده أو أهله وقومه، ولكنه حر تماما في اختيار عقيدته وفكرته ومنهجه.
والإنسان حر لأنه مسئول، فالحرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة، فالحرية تستلزم المسئولية، والمسئولية تستلزم الحرية.
وحرية الإنسان ليست حقا من حقوقه، يمكن أن يمنح له أو يمنع عنه، وإنما هي فطرة في طبيعته، وجزء من إنسانيته، بها يصير إنسانا مسئولا، وبدونها يهبط إلى درجات أدنى بكثير من الحيوان، فهو حر حتى في العقيدة التي يؤمن بها:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] ، {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] .
وقد عبر سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن فطرة الحرية في الطبيعة الإنسانية، عندما قال:"متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار؟! ".
إن الحرية من أثمن ما جاء به الإسلام، فالتوحيد قرين التحرير، وشهادة "لا إله إلا الله" إعلان عن ميلاد الإنسان الحر في هذا الكون الذي يسجد لله وحده، ويخشى الله وحده، ومن هذا المنطلق فإن الاستبداد يصبح قرين الشرك، لأنه يحيل الناس عبيدا لآلهة من البشر، ويدفعهم إلى السجود لغير الله!
الشعور بألوهية الله شعور فطري:
وشعور الإنسان بألوهية الله، وبوجود الله الواحد الأحد هو شعور فطري مستقر في أساس تكوينه، فالإنسان في تكوينه نفخة من روح الله، وعلاقته بخالقه هي علاقة المخلوق بخالقه الرحمن الرحيم، وهي علاقة لا يستطيع أي مخلوق دفعها، أو الحياد عنها1.
1 حسن البنا: مرجع سابق، ص48.
فشعور الإنسان بوجود الله خالقه، هو قانون من قوانين وجوده الروحي، وضرورة من ضروراته التي لا يستطيع أن يتخلى عنها، فحاجة الإنسان إلى الإيمان بالله كحاجته إلى التنفس، وإلى الطعام والشراب، والراحة، فإذا كانت حاجاته هذه قانونا من قوانين وجوده المادي، فإن إيمانه بالله الخالق، الرحمن، الرحيم، هو قانون من قوانين وجوده الروحي، وضرورة من ضروراته.
إذنن فشعور الإنسان بوجود الله فطرة، في الطبيعة الإنسانية:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] .
فالإيمان بالله، والشعور بوجود الله، فطرة مستكنة في الطبيعة الإنسانية، أصلها الروح التي هي جزء في كل تكوينه، وهي شيء من روح الله.
ولذلك لا غرابة أن نجد الإنسان يلجأ إلى الله حين ييأس من كل الأسباب الظاهرة، حين يمسه الضر، وحين ييأس من حوله وقوته، ومن حول الناس وقوتهم، فهذا اللجوء هو هتاف تهتف به الفطرة الإنسانية من جوانب نفسه.. أن يلجأ إلى الله:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] .
ضرورة دراسة الفطرة الإنسانية:
إن التقدم العلمي الهائل في علوم الطبيعة والكيمياء والفلك وعلوم الجماد عموما يتسم بعدة أمور، أهمها ما يلي:
أنه لا يتبع أية خطة معينة، إنه يتطور دون إدراك للنتائج المترتبة عليه إنسانيا.
أنه لا يتحرك تبعا للرغبة في تحسين أحوال البشر.
أنه لا تحكمه قيم من خارجه.
إن هذا التقدم العلمي الهائل في علوم الجماد قد تزامن مع تقدم علمي بطيء، لم يكد يتعدى كثيرا حد الجهل في دراسة علوم الإنسان والطبيعة الإنسانية، أو العلوم الحيوية عموما، وقد تمخض هذا عن حضارة إنسانية معاصرة، زودت الناس بكل وسائل الحياة الحديثة، لكنها أهدرت -في نفس الوقت- القيم الخلقية، وأخفقت في النهوض، بالمستويات الروحية والأدبية والعقلية لعامة الناس وخاصتهم.
فكيف أمكن الحصول على هذه النتيجة المتناقضة؟
إن الإجابة البسيطة عن هذا السؤال تجيء على لسان أحد علماء هذه الحضارة والمشاركين في صنعها، هو "ألكسيس كاريل" حيث يقول:"إن الحضارة الحديثة تجد نفسها في موقف صعب؛ لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقة؛ إذ إنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم ورغباتهم، وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشلكنا".
لقد أدى تطبيق الاكتشافات العلمية إلى تغير العوالم المادية والعقلية بصورة هائلة، لكن التأثير التعس لهذه التغيرات إنما هو نتيجة لأنها نمت وتطورت دون أدنى تفكير في فطرتنا.
"لقد أهمل تأثير المصنع على الحياة الفسيولوجية والعقلية للعمال إهمالا تاما عند تنظيم الحياة الصناعية، إذ إن الصناعة العصرية تنهض على مبدأ: "الحد الأقصى من الإنتاج بأقل التكاليف"، حتى يستطيع فرد أو مجموعة من الأفراد أن يحصلوا على أكبر مبلغ مستطاع من المال، وقد اتسع نطاقها دون أي تفكير في طبيعة البشر الذين يديرون الآلات، ودون اعتبار للتأثيرات التي تحدثها طريقة الحياة الصناعية التي يفرضها المصنع على الأفراد وأحفادهم.."1.
وتشكل التقانات الحديثة من مجالات نقل واستزراع الأنسجة والأعضاء البيولوجية، وتلقيح البويضات في الأنانيب، أو زرع الأجنة بالأرحام، والتلقيح الصناعي، والعلاج الجيني، وتجارب اختبار فاعلية العقاير المستحدثة وغيرها، آفاقا جديدة لدعم صحة الإنسان ومقومات استمرارية حياته على الأرض، إلا أنه تجدر الإشارة إلى ما ينطوي على العبث بالمجين البشري، وطمس معالم تأصيل الأنساب من تهديد خطير للجنس البشري، ومعالمه الأسرية، كما تجدر الإشارة إلى بعض الممارسات الطبية الدوائية التي تتعارض مع الأسس الأخلاقية للمهن الطبية التي يجدر الالتزام بها، الأمر الذي تترب عليه مشكلات أخلاقية خطيرة وافتئات على قوانين الفطرة، الأمر الذي أدى إلى إثارة الجدل حول مدى أحقية الطبيب في الإنهاء العمري لحياة المرضى اليائسين من الشفاء بعد الحصول على الموافقة منهم أو من ذويهم، وحول مفهوم الموت! أهو توقف جذع المخ والغيبوبة الطويلة، أم توقف نبض القلب..؟! 2.
إن الإنسان يجب أن تعلو قيمته على كل شيء، كما يجب أن يكون مقياسا لكل شيء، لكن الواقع عكس ذلك، فهو غريب في العالم الذي ابتدعه؛ لأنه لم يستطع
1 ألكسيس كاريل: الإنسان ذلك المجهول، تعريب شفيق أسعد فريد، بيروت، مكتبة المعارف 1407هـ-1986م، ص37.
2 علي أحمد مدكور: "التربية الدينية والضوابط الأخلاقية للممارسات البيولوجية" اللجنة الوطنية المصرية للتربية والعلوم والثقافة، "يونسكو-أليسكو-إسيسكو" بالتعاون مع اليونسكو، الندوة المصرية عن أخلاقيات الممارسات البيولوجية، وإسهامات في حماية حقوق الإنسان ودعمها للتنمية المتواصلة، معهد الليرز، جامعة القاهرة، 27-30 سبتمبر 1997.
تنظيم العالم وفقا لطبيعته، لأنه لا يملك معرفة علمية دقيقة بفطرته التي فطره الله عليها.
وصفوة القول: إن التقدم الهائل الذي أحرزته علوم الجماد على علوم الحياة هو إحدى الكوارث التي تعاني منها الإنسانية، إذ ليس هناك ما يحميها من الظروف العدائية التي شيدها العلم حولها.
وإن العلاج الوحيد لهذا الشر المستطير هو معرفة أكثر عمقا بأنفسنا وبفطرتنا الإنسانية، وبذلك نتعلم كيف نكيف أنفسنا للمتغيرات المناسبة، وكيف نغير الظروف المحيطة بحيث تصبح الحياة حولنا ملائمة لفطرتنا الإنسانية، وعلى هذا فإن هذا الجزء هو رحلة عبر هذا الإنسان، ومحاولة لفهم فطرته الإنسانية التي فطره الله عليها.
الفطرة الإنسانية:
التربية عملية تهدف إلى إيصال المربي إلى درجة الكمال التي هيأه الله لها، والإنسان هو محور العملية التربوية، فالعملية التربوية بكل ما تشتمل عليه من أصول تربوية، ونظريات، ومناهج، وممارسات، ومربين، كلها تعمل وتتفاعل من أجل تهيئة الجو المناسب للمتعلم كي ينمو إلى درجة كماله الإنساني.
لكن المنهج التربوي يتأثر إلى حد بعيد بنظرة المخططين له والقائمين على تنفيذه إلى الفطرة الإنسانية، أو الطبيعة الإنسانية، والفطرة الإنسانية في الإسلام تختلف في مفهومها، وفي مصدرها، وفي غايتها عن الطبيعة الإنسانية في الفلسفات ومدارس علم النفس المختلفة.
يختلف مفهوم الفطرة الإنسانية في الإسلام عن مفهوم الطبيعة الإنسانية لدى الفلسفات ومدارس علم النفس المختلفة، ففي القاموس: فطر ناب البعير، أي: شق اللحم وطلع، وفطر النبات، أي: شق الأرض ونبت منها، وفطر الأمر، أي: ابتدأه واخترعه1، وفطر الله العالم، أي: أوجده ابتداء، وفي القرآن يقول الحق تبارك وتعالى على لسان سيدنا إبراهيم:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] .
والفطرة هي الخلقة التي يكون عليها كل موجود أول خلقه، والفطرة هي الخلقة السليمة لم تشب بعيب، وفي التنزيل العزيز:
{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] .
1 مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، مادة "فطر" ص694.
والفطرة في المفهوم الإسلامي هي خلق الله الإنسان على الإسلام، أي: شاهدا بعبوديته لله، ومقرا بربوبيته، ومزودا بالاستعدادا والطاقات الظاهرة والكامنة التي تمكنه من إصابة الحكم، والتمييز بين الحق والباطل وفقا لمعايير منهج الله.
أما مفهوم الطبيعة، ففي القاموس: طبع الشيء طبعا، وطباعة، أي: صاغه في صورة ما، ويقال: طبع الله الخلق1، أي: أنشأه. والطبيعة الإنسانية، أي: السجية، ومزاج الإنسان المركب من الأخلاط، والقوة والسارية في الأجسام التي يصل بها الجسم إلى كماله الطبعي الذي هيأه الله له، فالطبيعة الإنسانية بهذا المعنى هي مجموعة الخصال والسجايا التي خلق الله الناس وفطرهم عليها، سواء كان ذلك من خلق الله للإنسان في البداية، أو بتهيئة الإنسان كي يقوم بذلك في نفسه، أو من خلال البيئة والأشياء المحيطة به.
أما الطبيعة في المصطلح الغربي الذي قامت عليه مدارس علم النفس هناك، فهي الأشياء المادية المحسوسة حولنا من جماد وحيوان ونبات، ففي الاصطلاح اليوناني:"الفيزيقا" هي الطبيعة. و"الميتافيزيقا" ما وراء الطبيعة، أي: الأمور الغيبية وغير المحسوسة.
وكما يقول الدكتور محمد رشاد خليل: فقد أخذت الطبيعة معاني فلسفية لدى فلاسفة الإغريق، وأصبحت هي الأساس في الفكر الغربي الحديث.
فالطبيعة هو الجوهر المادي الأول الذي تصنع منه الأشياء، وهذا الجوهر المادي هو أصل الوجود، والعلة الأولى في وجود هذا الكون، وهي عند أفلاطون المثال، وعلة الوجود، والنفس الكلية، وعند أرسطو هي أصل الأشياء، ومصدر الحركة، والمادة التي تصنع منها الأشياء.
وقد استخدمت الفلسفات الغربية مفهوم الطبيعة، بهذا المعنى الإغريقي القديم، فالطبيعيون والمثاليون والواقعيون والدارونيون يرون "الطبيعة هي الأشياء، وهي القانون الطبيعي الذي يعمل في الأشياء، والطبيعة هل أصل الأشياء"2.
إذن فالطبيعة في الفلسفات الغربية ومدارس علم النفس القائمة عليها ليست من خلق الله، بل هي خالقة الكون وسبب وجوده الأول، وبذلك يتصادم مفهوم الطبيعة في هذه المدارس مع مفهوم الطبيعة في الإسلام.
مكونات الإنسان:
لقد بين القرآن أن الله خلق الإنسان من طين الأرض، ثم نفخ فيه من روحه ومن الطين تكون جسد الإنسان:{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71، 72] .
1 المرجع السابق مادة "طبع" ص549.
2 محمد رشاد خليل: علم النفس الإسلامي العام والتربوي، دراسة مقارنة، الكويت، دار القلم، 1407هـ-1987، ص103.
وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عوف، حدثنا أسامة بن زهير عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب وبين ذلك""رواه أبو داود والترمذي"1.
كان هذا بالنسبة لآدم عليه السلام، أما بالنسبة لذريته فإن الروح تخلق لكل جنين بعد أن يتم تخليق النطفة في الرحم:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12-16] .
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} أي: ثم نفخنا فيه الروح فتحرك، وصار خلقا آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} . ويقال: إن نفخ الروح في النطفة إنما يكون بعد أربعة أشهر. قال الإمام أحمد في مسنده، إنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن أحدكم ليجمع خلقه "نطفة" في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح" إلى آخر الحديث الذي أخرجه الشيخان.
ففي الإسلام إذن، الإنسان كائن مخلوق لله خلقا مستقلا متميزا متفردا، وهو أكرم خلق الله على الله، وقد نوه الله بذلك، حين جعل الإنسان خليفته في الأرض:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ، لكن الإنسان في معظم الدراسات النفسية في الغرب ليس هو المخلوق من الله، بل هو الحيوان المتطور عن الطبيعة التي هي أصل الأشياء وسبب وجودها، وهذا ما تدعيه نظرية التطور التي لا تعدو -كما يقول الدكتور محمد رشاد خليل- "أن تكون أسطورة يونانية قديمة قال بها الطبعيون اليونان، وأحياها ملاحدة التطوريين الطبعيين حديثا، وزيفوا لها الأدلة، أو لووا أعناق بعض النتائج التي أسفرت عنها البحوث الطبعية والحيوية"2.
إذن فالإنسان هنا ليس مخلوقا لله، مكونا من جسد وروح كما هو الشأن في الإسلام، وإنما مرده إلى وحدة الأصل الحيواني للإنسان، فوحدة الإنسان في علم النفس الحديث ترجع إلى كون الإنسان قد جاء نتيجة تطور الأحياء من الطبيعة، وهنا يتصادم الإسلام مرة أخرى مع الفلسفات التي تقوم عليها مدارس على النفس الحديثة فيما يتصل بمفهوم الإنسان.
1 تفسير ابن كثير، جـ3، ص240.
2 محمد رشاد خليل، مرجع سابق، ص68.