المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌طريقة الملاحظة والتجربة: - مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها

[على أحمد مدكور]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمات

- ‌تقديم

- ‌سلسلة المراجع في التربية وعلم النفس:

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: المفاهيم الأساسية لمناهج التربية

- ‌مدخل

- ‌مفهوم المنهج وخصائصه:

- ‌مفهوم الدين وعلاقته بمناهج التربية:

- ‌مفهوم العبادة وعلاقته بمناهج التربية:

- ‌مفهوم التربية:

- ‌مفهوم الفلسفة وعلاقته بمناهج التربية:

- ‌اللغة العربية ومناهج التربية:

- ‌الخلاصة:

- ‌الفصل الثاني: أسس مناهج التربية

- ‌مدخل

- ‌طبيعة المعرفة:

- ‌مصادر المعرفة

- ‌مدخل

- ‌الوحي مصدر المعرفة:

- ‌الكون هو المصدر الثاني للمعرفة:

- ‌العلم والمعرفة ومفهوم التعلم:

- ‌التطبيق غاية العلم والمعرفة

- ‌العلم والمعرفة وقيادة الإنسانية

- ‌الفصل الثالث: الطبيعة الإنسانية وطبيعة المتعلم

- ‌الإنسان والفطرة الإنسانية

- ‌مكونات النفس الإنسانية:

- ‌قواعد الفطرة الإنسانية:

- ‌دافع السلوك

- ‌الحاجات الإنسانية:

- ‌النمو والتعلم:

- ‌واجبات المنهج نحو الطبيعة الإنسانية وطبيعة المتعلم:

- ‌الفصل الرابع: طبيعة الحياة والمجتمع

- ‌مفهوم الحياة

- ‌طبيعة المجتمع ومكوناته:

- ‌العلم والمعرفة ومكونات المجتمع:

- ‌العدل بين الأفراد والنظم والمؤسسات:

- ‌العمل أساس التملك:

- ‌الحرية المسئولة أساس العلاقة بين الفرد والمجتمع

- ‌التغير الثقافي والحضاري

- ‌ واجبات المناهج التربوية

- ‌الفصل الخامس: أهداف المناهج

- ‌مدخل

- ‌معايير جودة الأهداف

- ‌أولا: الوضوح

- ‌ثانيا: الشمول

- ‌ثالثا: التكامل

- ‌أهداف منهج التربية

- ‌إدراك مفهوم "الدين" ومفهوم "العبادة" والعمل بمقتضاهما

- ‌ ترسيخ عقيدة الإيمان بالله والأخوة في الله:

- ‌ تحقيق الإيمان والفهم لحقيقة الألوهية:

- ‌ إدراك حقيقة الكون غيبه وشهوده:

- ‌ فهم حقيقة الحياة الدنيا والآخرة:

- ‌ تحقيق وسطية الأمة وشهادتها على الناس:

- ‌ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

- ‌ استعادة تميز الأمة:

- ‌ العمل على تحقيق وحدة الأمة:

- ‌ إعانة الطالب على تحقيق ذاته:

- ‌ إعداد الإنسان للجهاد في سبيل الله:

- ‌ إدراك أهمية العلم وقيمته في إعمار الحياة:

- ‌ تعميق شعور الإيمان بالعدل كقيمة لا تعمر الحياة بدونها:

- ‌ تأكيد شعور الطلاب بأن الحرية فطرة إنسانية:

- ‌ إدراك مفهوم الشورى وتطبيقاته:

- ‌ أن يتأكد لدى الطلاب المفهوم الصحيح للعمل:

- ‌ إدراك مفهوم التغير الاجتماعي:

- ‌ إدراك مصادر المعرفة والعلاقات بينها:

- ‌ إدراك الطلاب الفرق بين الإسلام والتراث الإسلامي:

- ‌ إدراك مفهوم الثقافة والحضارة:

- ‌ إدراك الفرق بين الغزو الثقافي والتفاعل الثقافي:

- ‌ ترسيخ مفاهيم العدل والسلام في عقول الطلاب:

- ‌ الاهتمام بالسيطرة على مهارات اللغة العربية:

- ‌ إدراك أهمية التفكير العلمي وفهم مناهجه، والتدريب على أساليبه:

- ‌ إدراك الطلاب لمفهوم الفن والأدب:

- ‌ بناء الشخصية القوية الكادحة لا الشخصية المترفة:

- ‌ فهم النظرية التاريخية:

- ‌ فهم الطلاب لطبيعة المجتمع:

- ‌ فهم أساسيات النظام السياسي:

- ‌ فهم أساسيات النظام الاقتصادي:

- ‌ إدراك الطلاب لأهمية نظام الأسرة:

- ‌ إدراك الطلاب لمهمة الإعلام الحقيقية في المجتمع:

- ‌ الاهتمام بالمدخل الحضاري في تعليم الكبار:

- ‌ تنمية شعور الطلاب وإدراكهم للمسئولية الاجتماعية:

- ‌الفصل السادس: محتوى مناهج التربية

- ‌مفهوم المحتوى ومصادره

- ‌طرائق اختيار المحتوى

- ‌أنواع المحتوى:

- ‌معايير جودة المحتوى:

- ‌الفصل السابع: طرائق وأساليب التدريس

- ‌عملية التدريس ومراحلها

- ‌الطريقة وعلاقتها بأسس المنهج وعناصره:

- ‌الوسائل التعليمية:

- ‌طرائق التدريس

- ‌مدخل

- ‌طريقة القدوة:

- ‌طريقة المحاضرة:

- ‌طريقة المناقشة:

- ‌طريقة حل المشكلات:

- ‌طريقة الملاحظة والتجربة:

- ‌تفريد التعليم:

- ‌التدريس بالفريق

- ‌التدريس المصغر

- ‌الفصل الثامن: طرائق وأساليب التقويم

- ‌مفهوم التقويم:

- ‌أسس التقويم:

- ‌أنواع التقويم ومستوياته

- ‌الاختبارات التحصيلية:

- ‌تفسير الدرجات:

- ‌الخلاصة:

- ‌الفصل التاسع: تطوير المناهج

- ‌بين التغيير والتحسين والتطوير

- ‌تطوير المنهج:

- ‌مراحل تطوير المنهج

- ‌مرحلة وضع المبررات لمشروع التطوير

- ‌ مرحلة تحديد الأهداف:

- ‌ مرحلة اختيار المحتوى ومنهجيات التعلم البديلة:

- ‌ مرحلة الاختبار الميداني:

- ‌ مرحلة المراجعة:

- ‌ مرحلة التنفيذ:

- ‌المراجع:

- ‌ المحتوى

الفصل: ‌طريقة الملاحظة والتجربة:

أ- تحديد المشكلة.

ب- التعرف على الحالات والشروط والظروف المحيطة بالمشكلة، عن طريق تحديد العوامل المؤثرة فيها والمتأثرة بها، وجمع كل المعلومات المتصلة بها، مما يؤدي إلى فهم المشكلة وتحديدها بصورة أكثر دقة.

جـ- وضع فرضيات للحلول الممكنة لهذه المشكلة.

د- دراسة كل فرضية من هذه الفرضيات على أساس القيمة المحتملة لكل منها، وعلى أساس التنبؤ بالنتائج المحتملة لكل حل.

هـ- اختبار صحة كل فرضية أو حل، على أساس السؤال الآتي: ماذا يمكن أن يحدث لو فعلنا كذا أو كذا؟ ثم اختيار الفرضية التي تنتج الحل الأمثل وفقا للإجابة عن هذا السؤال1.

1 انظر: محمود أحمد شوق: الاتجاهات الحديثة في تدريس الرياضيات، الرياض، دار المريخ للنشر، 1409هـ-1989م، ص201-219.

ص: 245

‌طريقة الملاحظة والتجربة:

المنهج الإسلامي يستوعب كل وسيلة كريمة من الوسائل المعينة على التعليم والتعلم، قديمة أو حديثة، ما دامت تسهل عملية التعليم، وتساعد على تنفيذ المنهج:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .

ولا ريب أن إنشاء جسر بين عالم المعاني والأفكار النظرية وعالم المدركات الحسية من الأمور الأساسية في عملية التعلم، منهج استخدام الوسائل قديم، استخدمه الحق -سبحانه- في تعليم أبناء آدم، ويعرض لنا القرآن الكريم مشهدا من مشاهد استخدام الوسائل التعليمية في تعليم ابني آدم: قابيل وهابيل، فعندما قتل قابيل هابيل، أرسل الله له غرابا ليعلمه كيف يواري سوأة أخيه:{فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ، فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 30، 31] .

هذا الحادث وقع في فترة الطفولة الإنسانية، حيث كان أول حادث قتل متعمد، وكان الفاعل فيه لا يعرف طريقة دفن الموتى.

وفي هذه الحادثة خسر القاتل نفسه، فأوردها مورد الهلاك، وخسر أخاه؛ ففقد الناصر والرفيق، وخسر دنياه، فما تهنأ له حياة، وخسر آخرته، فباء بإثمه الأول، وإثمه الأخير.

ص: 245

والقصة تقدم نموذجا لطبيعة الشر والعدوان، ونموذجا كذلك من العدوان الصارخ الذي لا مبرر له، وتثير الشعور بالحاجة إلى شريعة نافذة بالقصاص العادل.

وفي القصة هنا تمثيل لسوأة الجريمة في صورتها الحسية، صورة جثة فارقتها الحياة، وأصبحت لحما يسري فيه العفن، فهي سوأة لا تطيقها النفوس1.

وشاءت حكمة الله أن تضع القاتل أمام عجزه، فرغم أنه قاتل جبار، إلا أنه عاجز عن أن يواري سوأة أخيه، عاجز عن أن يكون كالغراب في أمة الطير.

{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] .

ومثال آخر في إبراز المعاني، وإنشاء التصور الصحيح للمنهج الإسلامي في ضمير المسلم عن طريق الحقائق الكونية التي تطالع الأنظار والمدارك كل يوم، نرى ذلك في الحوار الذي دار بين إبراهيم عليه السلام وملك من ملوك أيامه يجادله في الله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] .

فالآية -كما نرى- تمثل مشهدا لحوار إبراهيم عليه السلام وأحد الملوك، والمشهد يعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين من خلال التعبير القرآني العجيب.

وهذا الملك الذي يجادل إبراهيم في ربه، ليس منكرا لوجود الله أصلا، إنما هو منكر لوحدانيته ولتصريفه للكون وتدبيره لما يجري فيه وحده، كما كان الحال لدى بعض الناس في الجاهلية؛ يعترفون بوجود الله ولكنهم يجعلون له أندادا ينسبون إليها فاعلية وعملا في حياتهم:{قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} .

فالإحياء والإماتة ظاهرتان معروضتان لحس الإنسان وعقله في كل يوم وكل لحظة، فرد الملك على إبراهيم قائلا: أنا سيد هؤلاء القوم، وأنا المتصرف في شأنهم فأنا إذن الرب الذي يجب عليك أن تخضع له، وتسلم بحاكميته:

{قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} .

وعندئذ عدل إبراهيم عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة الإلهية في قوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} .. إلى طريقة التحدي، حتى يعرف الملك أن

1 انظر: سيد قطب: في ظلال القرآن، مرجع سابق، ج6، ص877.

ص: 246

الرب ليس حاكم قوم ما، في ركن من أركان الأرض، وإنما هو مصرف هذا الكون كله: قال إبراهيم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} .. وهذه حقيقة كونية تطالع الأنظار والمدارك كل يوم دون تخلف أو تأخر، وهو تحد يخاطب الفطرة، ويتحدث بلسان الواقع الذي لا يقبل الجدل:{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} .

والمثال القادم هو مشهد حي مرسوم بالكلمات، والمشهد تجسيد لمشاعر رجل مر على قرية محطمة، فجال في شعوره سؤال حائر: كيف تدب الحياة في هذا الموات؟ {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259] .

إن المشهد هنا ليرتسم للحس قويا واضحا موحيا، مشهد الموت والبلى والخواء.. يرتسم بالوصف {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} محطمة على قواعدها، ويرتسم من خلال مشاعر الرجل الذي مر على القرية، هذه المشاعر المتجسمة في تعبيره:{أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} كيف تدب الحياة في هذا الموات؟

{فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} .

لم يقل له كيف، إنما أراه في عالم الواقع كيف، فالمشاعر قوية، وعنيفة لدرجة أنها لا يجب أن تعالج بالبرهان العقلي.. وإنما يكون العلاج بالتجربة الشخصية الذاتية المباشرة، التي يمتلئ بها الحس ويطمئن بها القلب، دون كلام!

{قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} ، {قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} .

وتبعا لطبيعة التجربة، وكونها تجربة حسية واقعية، فلا بد أن تكون هناك آثار محسوسة تصور مرور مائة عام، هذه الآثار لم تكن إلا في طعام الرجل وشرابه، فلم يكونا آسنين متعفنين:{فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} .

{وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} .

ص: 247

لقد تعرت وتفسخت عظام الحمار، ثم كانت الخارقة هي ضم هذه العظام بعضها إلى بعض، وكسوتها باللحم وردها إلى الحياة، على مرأى من صاحبه الذي لم يمسسه البلى، ولم يصب طعامه ولا شرابه التعفن، ليكون هذا التباين في المصائر، والجميع في مكان واحد، معرضون لمؤثرات جوية وبيئية واحدة، آية أخرى على القدرة التي لا يعجزها شيء، والتي تتصرف مطلقة من كل قيد، وليدرك الرجل كيف يحيي هذه الله بعد موتها1!

ثم تجيء تجربة إبراهيم مع ربه:

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] .

إن هذا السؤال من إبراهيم لا يتعلق بوجود الإيمان وثباته وكماله في نفسه، وليس طلبا للبرهان أو تقوية الإيمان، بل هو تشوق إلى ملابسة سر الصنعة الإلهية:{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} إنه الشوق إلى رؤية السر الإلهي أثناء وقوعه العملي، لقد أراد إبراهيم أن يرى يد القدرة وهي تعمل "ليحصل على مذاق هذه الملابسة فيتروح بها، ويتنفس في جوها، ويعيش معها"2، لم يكن السؤال إذا من أجل تأكيد الإيمان، فقد كان الله يعلم حقيقة الإيمان لدى عبده وخليله إبراهيم، ولقد استجاب الله لهذا الشوق والتطلع من قلب إبراهيم، ومنحه التجربة المباشرة، أو الخبرة المباشرة:{قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .

لقد أمر الله إبراهيم أن يختار أربعة من الطير، فيقربهن منه، وينظر إليهن ليتأكد من أشكالهن وصفاتهن ومميزاتهن بحيث لا يخطئ في التعرف عليهن بعد ذلك، وأن يذبحهن ويمزق أجسادهن، ويفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة، ثم يدعوهن، فتتجمع أجزاؤهن مرة أخرى، وترتد إليهن الحياة، ويعدن إليه ساعيات.. ففعل، وقد كان.

لقد رأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه، طيور فارقتها الحياة، وتفرقت أجزاؤها في أماكن متباعدة، تدب فيها الحياة مرة أخرى، وتعود إليه سعيا، وهو سر نحن نرى آثاره بعد تمامه كل يوم، ولكننا لا ندرك طبيعته، ولا نعرف طريقته، إنه أمر الله3.

1 المرجع السابق، جـ3، ص30.

2 المرجع السابق، ص302.

3 المرجع السابق.

ص: 248

إن الصور والمشاهد والتجارب المباشرة السابقة تؤكد لنا أن الوسائل قد استخدمت منذ زمن مسرف في القدم.. منذ طفولة الإنسانية.

التصوير الفني:

القرآن كتاب الله الخالد إلى العالمين، وهو كتاب الله إلى الإنسانية جمعاء، ليهديها، ويرشدها، ويعلمها، فهو كتاب الله إلى الإنسان الفرد ليهديه ويعلمه ويزيح البلادة التي تزحف على عقله وقلبه من آن لآخر، لقد استخدم القرآن الوسيلة في عملية الهداية والتعلم، وضرب المثل، وقص القصة، وصور الوقائع، واستخدم الصور المجسمة، واللوحات الناطقة، والمشاهد المعبرة، والمواقف الصاخبة، وعبر عن الحالات النفسية، والنماذج الإنسانية، وأخرج المعاني المجردة في صور شاخصة متحركة، وعبر عن الفكرة الذهنية في صورة مرسومة مصورة.. نعم، فعل كل هذا وفعله بالكلمة فقط!

وهنا يحدثنا المرحوم الأستاذ سيد قطب عن "التصوير الفني في القرآن" وسنقتبس منه بعض النماذج التي عرضها في كتابه القيم "التصوير الفني في القرآن"1.

يقول: التصوير هو الأداة المفضلة في أسلوب القرآن، فهو يعبر بالصورة المحسة المتخيلة عن المعنى الذهني، والحالة النفسية، وعن الحادث المحسوس، والمشهد المنظور، وعن النموذج الإنساني، والطبيعة البشرية، ثم يرتقي بالصور التي يرسمها فيمنحها الحياة الشاخصة، أو الحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني هيئة أو حركة، وإذا الحالة النفسية لوحة أو مشهد، وإذا النموذج شاخص حي، وإذا الطبيعة البشرية مجسمة مرئية، فأما الحوادث والمشاهد، والقصص والمناظر، فيردها شاخصة حاضرة فيها الحياة وفيها الحركة، فإذا أضاف إليها الحوار فقد استوى لها كل عناصر التخيل، فما يكاد يبث العرض حتى يحيل المستمعين إلى نظارة، حتى ينقلهم نقلا إلى مسرح الحوادث الأول، الذي وقعت فيه أو ستقع، حيث تتوالى المناظر، تتجدد الحركات، وينسى المستمع أن هذا كلام يتلى، ومثل يضرب، ويتخيل أنه منظر يعرض، وحادث يقع، فهذه شخوص تروح على المسرح وتغدو، وهذه سمات الانفعال بشتى الوجدانات، المنبعثة من الموقف المتساوقة مع الحوادث، وهذه كلمات تتحرك بها الألسنة، فتنم عن الأحاسيس المضمرة.

"إنها الحياة هنا، وليست حكاية الحياة، فإذا ما تذكرنا أن الأداة التي تصور المعنى الذهني والحالة النفسية، وتشخص النموذج الإنساني أو الحادث المروي، إنما

1 سيد قطب: التصوير الفني في القرآن، مرجع سابق، ص36 وما بعدها.

ص: 249

هي ألفاظ جامدة، لا ألوان تصور، ولا شخوص تعبر، أدركنا بعض أسرار الإعجاز في هذا اللون من تعبير القرآن".

إن التصوير هو الأداة المفضلة، في أسلوب القرآن، فليس هو حيلة أسلوب، ولا فلتة تقع حيثما اتفق، إنما هو مذهب مقرر، وخطة موحدة، وخصيصة شاملة.

"ويجب أن نتوسع في معنى التصوير، حتى ندرك آفاق التصوير الفني في القرآن، فهو تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخييل، كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل، وكثيرا ما يشترك الوصف، والحوار، وجرس الكلمات، ونغم العبارات، وموسيقى السياق، في إبراز صورة من الصور، تتملاها العين، والأذن، والحس والخيال، والفكرة والوجدان".

"وهو تصوير حي، منتزع من عالم الأحياء، لا ألوان مجردة وخطوط جامدة، تصوير تقاس فيه الأبعاد والمسافات، بالمشاعر والوجدانات، فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية، أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة"1.

والآن نختار بعض الأمثلة لتوضيح ما سبق:

إخراج المعاني الذهنية في صورة حسية:

1-

يريد الله أن يبين أن قبول الذين كفروا عند الله، ودخولهم الجنة أمر مستحيل، هذا المعنى الذهني المجرد يعرضه الله -سبحانه- في أسلوب تصويري أخاذ كما يلي:{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ} [الأعراف: 40] .

ويدعك ترسم بخيالك صورة لتفتح أبواب السماء، وصورة أخرى لولوج الحبل الغليظ "الجمل" في سم الخياط، ويدع للحس أن يتأثر عن طريق الخيال بالصورتين معا، ليستقر في النهاية استحالة قبول الكفار عند الله، واستحالة دخولهم الجنة، ويستقر هذا المعنى في أعماق النفس، وقد ورد إليها -تصويرا- عن طريق العين والحس.

2-

ويريد الله أن يبين للناس أن الصدقة التي تبذل رياء، والتي يتبعها المن والأذى، لا تثمر شيئا ولا تبقى، فينقل إليهم هذا المعنى في صورة حسية متخيلة على النحو التالي:

1 المرجع السابق، ص36-38.

ص: 250

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264] .

فالمن والأذى يمحق الصدقة، ولا يبقي لها أثرا تماما كهيئة الحجر الصلب المستوى الذي غطته طبقة من التراب، فظن فيه الخصب والنماء، فإذا وابل من المطر يصيبه فيتركه صلدا، ثم يمضي القرآن في التصوير لإبراز المعنى المقابل لمعنى الرياء ومعنى الذهاب بالصدقة التي يتبعها المن والأذى:{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265] .

هنا الوجه الثاني للصورة، فالصدقات التي تنفق ابتغاء مرضاة الله، هي في هذه المرة كالجنة، والجنة فوق ربوة عالية، ورغم أن الوابل مشترك بين الحالتين، إلا أنه في الحالة الأولى محا ومحق، وفي الحالة الثانية أربى وأخصب، وفي الحالة الأولى يصيب الصفوان فيكشف عن وجه كالح كالأذى، وفي الحالة الثانية يصيب الجنة، فيمتزج بتربتها الخصبة فيخرج الثمار الوفيرة، وهي يكفيها الندى القليل ليبعث فيه الحياة1.

3-

ومن يشرك بالله لا منبت له ولا جذور، ولا أمن له ولا استقرار، يصور القرآن هذا المعنى بصورة سريعة الخطوات، عنيفة الحركات:

{حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] .

هكذا في لحظة، يخر من السماء من حيث لا يدري أحد، فلا يستقر على الأرض، بل تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق، حيث لا يدري أحد كذلك.

4-

ويصور الحالة النفسية للإنسان المتزعزع العقيدة، الذي لا يستقر على يقين ولا يحتمل ما يصادفه من الشدائد بقلب راسخ، ولا يبتعد بعقيدته عن ميزان الربح والخسارة، يرسم القرآن لهذه الحالة النفسية صورة تهتز وتترنح وتوشك على الانهيار:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] .

1 المرجع السابق، ص40.

ص: 251

التخييل الحسي والتجسيم:

وهكذا نرى أن قليلا من صور القرآن الذي يعرض صامتا ساكنا -لغرض فني يقتضي الصمت والسكون- أما أغلب الصور ففيها حركة مضمرة أو ظاهرة، حركة يرتفع فيها نبض الحياة، وتعلو بها حرارتها.. هذه الحركة.. حركة حية مما تنبض به الحياة الظاهرة للعيان أو الحركة المضمرة في الوجدان، هذه الحركة هي التي تسمى "التخييل الحسي" وهي التي يسير عليها التصوير في القرآن لبث الحياة في شتى الصور مع اختلاف الشيات والألوان.

"وظاهرة أخرى تتضح في تصوير القرآن الكريم وهي "التجسيم": تجسيم المعنويات المجردة، وإبرازها أجساما أو محسوسات على العموم"1.

1-

ومن التخييل ما يمكن تسميته "التشخيص"، ويتمثل في خلع الحياة على المواد الجامدة، والظواهر الطبيعية، والانفعالات الوجدانية.

ومن المناظر الطبيعية المتحركة في الجو، في خطوات، تمثل كل منها مشهدا:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ، فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 48-50] .

هكذا مشهد بعد مشهد: إرسال الرياح، إثارة السحاب، بسطه في السماء، جعله متراكما، خروج المطر من خلاله، نزول المطر، استبشار من يصيبهم بعد أن كانوا يائسين، إحياء الأرض بعد موتها.

وهذه هي الشمس والقمر والليل والنهار في سباق دائم لا يفتر ولا يتوقف: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] .

وهذه هي الأرض "هامدة" مرة، و"خاشعة" مرة، ينزل عليها الماء فتهتز وتحيا:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5] .

1 المرجع السابق، ص72، 73.

ص: 252