الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4-
إدراك حقيقة الكون غيبه وشهوده:
الهدف الرابع لمنهج التربية عموما، ولمنهج العلوم الشرعية بصفة خاصة هو أن تدرك الأجيال الناشئة حقيقة الكون الذي يعيشون فيه، وحقيقة مركز كل منهم فيه كإنسان، وأن يدركوا -أيضا- طبيعة العلاقة بينهم وبين مفردات هذا الكون غيبه وشهوده.
وإذا كان الحق -سبحانه- قد تكفل للإنسان ببيان أصول عقيدته، ونظام حياته؛ لأن علم الإنسان المحدود لا يكفي في هذا المجال الأساسي الذي تقوم عليه حياته، فإنه -سبحانه- قد ترك للعقل والإدراك البشري والضمير الإنساني أن يبحث وأن ينقب عن سنن الكون، وقوانينه، وأن يعرف منها ما هو مقدر له أن يعرف، لينتفع به في تنمية الحياة وترقيتها، لقد ترك الله للإدراك البشري معرفة الحقائق العلمية عن طريق الكد والكدح، والبحث والتجربة، والمحاولة والخطأ، ولم يتكفل -سبحانه- ببيان تفصيلاتها له، لأنها داخلة في طوقه بالقدر الذي يلزم له في أداء وظيفته الأساسية وهي الخلافة في الأرض.
وهذا يعني أننا لا يجب أن نسارع إلى تعليق مدلولات النصوص القرآنية بما وصل إليه علم البشر، وأو ما سيصل إليه علمهم في المستقبل. إن أقصى ما يمكن أن نتوقعه من علم البشر أن يصلوا إلى بعض الحقائق التي تتفق مع الحقائق النهائية المطلقة التي حدث بها خالق الكون العليم الخبير1.
أما شق الكون الآخر، فهو الكون المغيب، ومنه الروح، والملائكة، والجن والشياطين وإبليس، والجنة والنار، الملأ الأعلى.. إلخ، فهذا الجانب من الكون قد استأثر الله بعلمه، ويجب على المناهج التربوية وعلى الدارسين والباحثين عدم الخوض فيه. وقد وصف الله بعض مظاهر هذا الكون بالقدر الذي يمكن الإنسان من التعامل معه، والتفكير فيه والقرب منه أو الابتعاد عنه.
"إن عنصر الجمال مقصودا قصدا في بناء الكون، وفي ظواهره، وفي الحياة المبثوثة فيه، وإيقاظ حاسة الجمال في البشر مقصود كذلك قصدا في المنهج القرآني،
1 سيد قطب: مقومات التصور الإسلامي، مرجع سابق، ص329.
وفي التربية بهذا المنهج.. فالله سبحانه وتعالى جعل الجمال عنصرا من عناصر بناء الكون والحياة، والكمال في صنعته الباهرة يحقق هذا الجمال"1.
والمنهج القرآني يوجه أنظار البشر إلى "المنفعة" الحاصلة لهم من هذا الخلق الجميل للكون، وإلى دلالة هذا الخلق على خالقه.
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 97] .
ويوجه الأذهان إلى تنوع الألوان، وجمال هذا التنوع، وتوزعه بين الجوامد والأحياء سواء:
هذا هو الكون الذي خلقه الله لنتعرف عليه، ونتلطف معه، لا لنتصارع معه. فالسلام مع الكون مسألة ذات قيمة شعورية في حياة الإنسان الواقعية، فذلك يجعل الإنسان يمضي مطمئنا في هذا الكون لكشف سنن الله فيه، وجعلها كلها للخير.
إن هذا الهدف يجب أن يوجه مناهج التربية عامة ومناهج علوم الشريعة خاصة إلى نوعية النصوص التي تقرر وتدرس في كل مرحلة وفي كل عمر، وإلى
1 المرجع سابق، ص338.
نوعية الخبرات المرتبطة بها في واقع الحياة، وهذا بالإضافة إلى أنه يوجه الناشئة إلى كيفية التعامل مع مفردات الكون، بمعرفتهم لطبيعته، وفهمهم لعلاقتهم به ودورهم فيه.
إن مناهج التربية التي لا تأخذ في اعتبارها تحقيق هذا الهدف في الناشئة سوف تخرج أجيالا يرددون بلا وعي ما قاله الخيام:
لبست ثوب العيش لم استشر
…
وحرت فيه بين شتى الفكر
وسوف أنضوه برغمي ولم
…
أدرك لماذا جئت أين المفر!
أفنيت عمري في اكتناه القضاء
…
وكشف ما يحجبه في الخفاء
فلم أجد أسراره وانقضى عمري
…
وأحسست دبيب الفناء
أفق وصب الخمر أنعم بها
…
واكشف خبايا النفس من حجبها
ورو أوصالي بها قبلما
…
يصاغ دن الخمر من تربها
سأنتحي الموت حثيث الورود
…
وينمحي اسمي من سجل الوجود
هات اسقنيها يا منى خاطري
…
فغاية الأيام طول الهجود
"لقد تصور الكون مغلقا لا ينفذ العلم البشري إلى سطر واحد من سطوره، وغيبا مجهولا يقف الإنسان أمام بابه الموصد يدقه بلا جدوى، وفي هذا التيه لا يعلم الإنسان من أين جاء، ولماذا جاء؟ ولا يدري أين يذهب، ولا يستشار في الذهاب! "1.
كما يرى أن هذه الحياة المجهولة المصدر والمصير، في هذا العماء الذي يعيش فيه الإنسان، لا يستحق أن يحفل بها الإنسان أو يكدح من أجلها.. وإذن فلا ضرورة للوعي الذي لا يؤدي إلى شيء!
فهل يقبل المربون والمنهجون عندنا أن يتخرج على أيديهم أجيال بهذه الرؤية وبهذا التصور؟!
1 سيد قطب: في التاريخ فكرة ومنهاج، الطبعة السابعة، بيروت، دار الشروق، 10-1407هـ 1987م، ص12-13.