الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
24-
إدراك أهمية التفكير العلمي وفهم مناهجه، والتدريب على أساليبه:
لا بد أن يدرك الطلاب أن المنهج الترجيبي قد نشأ على يد علماء المسلمين لخدمة أغراض البحث العلمي في العلوم الطبيعية والحيوية. وكانت مهمة البحث عن طريق هذا المنهج هي اكتشاف قوانين الله في الكون، ثم استخدام هذه القوانين في إعمار الأرض وترقية الحياة على ظهرها.
وقد انتقل هذا المنهج إلى أوربا، ثم انتشر هناك إبان عصر النهضة على يد مجموعة من العلماء وعلى رأسهم "روجرز بيكون". وقد غطى هذا المنهج على المنهج الذي كان سائدا هناك حتى ذلك الوقت، وهو المنهج القياسي لأرسطو.
لكن الفصام النكد بين الكنيسة والحياة -والذي حدث في بداية عصر النهضة في أوربا كرد فعل للهيمنة والمظالم التي فرضتها الكنيسة هناك بغيا وعدوا باسم الله- جعل الباحثين يفصلون بين هذا المنهج وأصله الاعتقادي، ويتحررون من المقولة الدينية وهي: أن غاية البحث فهم قوانين الله في الكون والإنسان والحياة، ويستبدلون بها مقولة أخرى مؤداها أن المعارف تأتي وتنمو عن طريق الملاحظة والتجربة وحدهما. وأن الطريق الصحيح لتكوين المعارف هو طريق التحليل، أي: الملاحظة والتجربة، لا التركيب؛ أي: الاستقراء والبرهنة. ويستوي في ذلك العلوم الطبيعية والحيوية، والعلوم المتصلة بتفسير السلوك الإنساني مثل علوم النفس والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية، واللغات والفنون والآداب
…
إلخ.
وأخذ أنصار هذه المدرسة المحدثون يدعون إلى فهم حركة الكون على أساس أن في طبيعة الظواهر الطبيعية قوانين حتمية لا تتخلف وأن هناك "جبرية" طبيعية في خلق الكون وتسيير حركته. فالطبيعة هنا خالقة وليست مخلوقة لله! وغاية البحث في العلوم الطبيعية والحيوية هي كشف القوانين والنظريات التي تحكم الظواهر الحيوية والطبيعية بغية تفسير الأحداث، والتنبؤ بها والتحكم فيها.
لذلك فإن "المنهج التجريبي" لدى أصحاب النزعة الوضعية في أوربا هو المنهج الوحيد القادر على إثمار المعارف اليقينية، والصالح للبحث العلمي، والمستحق لاحترام العلماء والمفكرين. فأصحاب هذه النزعة قد اختزلوا الكون إلى الكون
المشهود، وأنكروا الكون المغيب، واختزلوا عالم الإنسان إلى "عالم الشهادة" وأنكروا الحياة الآخرة؛ واختزلوا مصادر المعرفة الصحيحة إلى الظواهر المادية فقط دون غيرها، ومن ثم اختزلوا أدوات المعرفة وقصروها على الحواس فقط.
لكن المنهج الإسلامي لا يقف بمصادر المعرفة عند المنهج التجريبي وحده.. إنه لا يهمله ولا يغض من شأنه، ولا من شأن ثمراته المعرفية -فهو أحد إبداعات الحضارة الإسلامية، فيها تبلور وأعطى ثمراته، قبل أن ينتقل ويتطور لدى الغرب- ولكنه لا يقول بتفرده كسبيل للمعرفة، ولا يرى أنه سبيل للمعرفة القطعية المطلقة، فهناك المعرفة اليقينية المتمثلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهناك المنهج الاستقرائي الذي يستنبط به الإنسان من الجزئيات المادية معارف تقطع بضرورة وجود غير مادي1.
وهناك المنهج العلمي للنظر العقلي، ويسميه الغزالي بمنهج "التفكير"، ويحدث إذا غلب نور العقل على أوصاف الحس، وهنا يستغني العالم بقليل من التفكير على كثير من إدراكات الحواس.
ويتطلب المنهج العلمي للنظر العقلي من الباحث المسلم أو المفكر المسلم أن يعمل على تمحيص الحقيقة، وعدم التأثير بمقررات سابقة، ولا مقررات ذاتية لا برهان عليها، ولا بمجرد الظن:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36] . {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] ، "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"[رواه البخاري] .
وهو منهج يحث العقل على طلب الدليل في كل اعتقاد: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} [الكهف: 15] .. وقال صلى الله عليه وسلم: "قيدوا العلم بالعقل، وقيدوا العقل بالكتاب".
كما يوجه العقل إلى عدم التسرع في إصدار الأحكام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] .
وإلى عدم نشر ما يسمع قبل دراسة المختصين له، وإصدار الحكم عليه:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
1 سيد قطب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، مرجع سابق، ص180.
وهناك "الإلهام" والإلهام هو تنبيه الله للنفس الإنسانية وإلهامها بالأفكار والعلاقات على قدر صفاتها وقبولها وقوة استعدادها، ومقدار سعيها، وتعلم الإنسان عن طريق إلهام الله له يمكن إدراكه في قوله تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] فالآية دعوة صريحة إلى المؤمنين بتقوى الله، فهو الذي يعلمهم ويرشدهم، وأن تقوى الله تفتح قلوبهم للمعرفة، وتهيئ عقولهم للتعلم. ويؤكد هذا أيضا قوله تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8] . فالإلهام -إذن- وسيلة من استعداداتها وطاقاتها المدركة إلى طريق الخير أو إلى طريق الشر.
إهمال دراسة المنهج العلمي للبحث في التصور الإسلامي:
لكن الباحثين والمفكرين المسلمين قد أهملوا في القرون الأخيرة -للأسف الشديد- دراسة مناهج البحث العلمي في التصور الإسلامي، وأهملوا بالتالي تطبيقاتها في حياتهم الفكرية والاجتماعية. وساروا بدلا من ذلك وراء المدارس الوضعية الغربية التي تنكر الوحي، وتتنكر لفكرة الرسالات والنبوات، وترفض التعامل مع الغيب، ولا تؤمن إلا بعالم الشهادة، وبذلك تسقط كل المعارف التي لا تخضع للتجريب المعملي وملاحظة المحسوسات!
ولقد كان من أهم آثار استخدام منهج البحث في العلوم الطبيعية والحيوية في العلوم الاجتماعية والتربوية، أن رسخ في أذهان الأجيال من العلماء والباحثين:"أن المعرفة العلمية المنضبطة في المجالات الاجتماعية والتربوية لا بد أن تكون نتاج التجريب والتحليل، وأن المعارف التي تفرزها عقول البشر وإبداعاتهم عن غير هذا الطريق ليست معارف، وأن ما تركب منها ليس علما"1. ولا شك أن هذا يمثل مفهوما متخلفا للعلم والمعرفة على سواء.
والذين يشجعون استخدام منهج التجريب والتحليل في البحوث الاجتماعية والتربوية يبنون نظريتهم على افتراضات أساسية يصعب الدفاع عنها، كالحياد العلمي، وموضوعية الحقيقة، وصدق الملاحظة، إلخ.
وقد سبق أن قلنا إن "الحقائق العلمية" ليست أكثر من مجرد افتراضات راجحة، ليست قطعية الدلالة ولا مطلقة الدلالة، وقد بدأ كثير من علماء الغرب يقللون من شأن التجريب ويؤكدون أنه لا توجد نظرية محايدة، وأن ملاحظة أي باحث تتأثر إلى درجة كبيرة بنظريته، وفروضه، وإطار عمله، وخلفيته المعرفية. وأن الحياد العلمي والملاحظة الموضوعية اللذين كثر الكلام عنهما أمران مشكوك فيهما. وقد أكد "جون
1 أحمد المهدي عبد الحليم: "نحو صيغة إسلامية للبحث الاجتماعي التربوي" العدد 23، السنة الثامنة، 1408هـ-1987م، ص37.
ديوي" أن الإدراك وهو أول ثمرة الملاحظة الحسية، ولا يمكن أن يكون محايدا، وإنما هو متأثر -دائما- بالمعرفة السابقة للملاحظ وذكائه. وبدون هذا يكون الإدراك مجرد استثارة حسية يستوي فيها الإنسان والحيوان.
ثم إن الصيغة التجريبية التحليلية إذا كان من الممكن الاعتماد عليها -كما يقول الدكتور أحمد المهدي عبد الحليم- في الحصول على المعارف الخاصة بالماهيات "Know What "S والكيفيات "Know how "S، فإنها تحمل تحديد المسارات والأهداف والغايات، وبذلك تهمل المعتقدات والقيم الإنسانية والقيم الخلقية النابعة منها.
ولقد أدى تبني هذا المنهج في البحث التربوي إلى مساوئ كثيرة من أهمها ما يلي1:
1-
تركيز البحث على اكتشاف العلاقة بين متغيرين أو ثلاثة -غالبا- في ظاهرة من الظواهر التربوية، مع أن الظواهر التربوية معقدة، ولا يمكن اختزال المتغيرات فيها إلى عاملين أو ثلاثة.
2-
إن الإجراءات المفتعلة في التحديد المسبق لمتغيرات التصميم التجريبي في العلوم الاجتماعية والتربوية منها على وجه الخصوص، قد أدى إلى تسييد تقنيات البحث وأدواته، وإلى أن تتم مواءمة مشكلات الدراسة لتخدم هذه التقنيات والأدوات، وليس العكس، وهو ما يجب أن يكون. وبذلك أصبحنا نرى بحوثا تجرى لخدمة صنعة البحث وأدواته وتقنياته، أكثر مما تخدم الإنسان أو المجتمع الذي أجري البحث من أجله أصلا. وقد أدى شيوع هذا في مجال البحث التربوي إلى الفصام النكد الموجود حاليا بين البحوث التربوية والممارسات التربوية.
3-
لقد أدى استخدام هذا المنهج إلى التأكيد على المغزى الإحصائي للفروق، بدلا من التركيز على المعنى الاجتماعي والتربوي، ولقد أدى هذا بدوره إلى نماء الاتجاه نحو الاستخدام الإحصائي على حساب التفكير والمناقشة والبرهنة.
4-
لقد أدى هذا الاتجاه في البحث التربوي والاجتماعي عموما إلى عدم الإيمان بقيمة البحث إلا إذا كان إمبريقيا، وإلى تركيز الجهود والطاقات في البحث على دراسة الواقع بطريقة مباشرة، والتحديد الإجرائي للمصطلحات، ودراسة العلاقة بين متغيرين أحدهما مستقل والآخر تابع، وتصميم الاستبانات على هيئة تحقيقات جنائية في معظمها!
1 المرجع السابق.