الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
5-
فهم حقيقة الحياة الدنيا والآخرة:
لا بد أن تعمل التربية على تفهم الأجيال الناشئة حقيقة الحياة: غيبها وشهودها، دنياها وأخرها.
ولا بد أن يفهموا أن "الحياة ليست إلها! ليست قوة مدبرة في ذاتها تنشأ وتنشئ وفق إرادتها المستقلة، كذلك هي ليست تلقائية، وجدت مصادفة وتمضي خبط عشواء!
إنما هي خليقة أنشأها الله -سبحانه- بقدر، وتمضي كذلك وفق قدر، وهي مودعة خصائصها الذاتية التي تفرقها من الموت، أعطاها هذه الخصائص الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، والذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، والذي يتوفى الأنفس حين موتها، والذي خلق الموت والحياة، والذي يبدأ الخلق ثم يعيده1.
كذلك لا بد أن تفهم الأجيال أن "الطبيعة ليست إلها، ليست هي التي خلقت نفسها، وليست هي التي خلقت الحياة، إنما الله -سبحانه- هو الذي خلق الطبيعة، وجعلها مناسبة لظهور الحياة، وهيأ الأرض لنوع الحياة الذي نشأ فيها، وجعل التناسق بين الطبيعة والحياة، وبين الأحياء بعضها وبعض، هو الأصل والقاعدة.
كذلك لا بد أن تفهم الناشئة أنه كما أن الحياة حادثة وصادرة عن إرادة الله وحده وبقدره، فهي ناشئة -بتلك الإرادة وهذا القدر- من أصل واحد وهو الماء:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30] .. {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45] . أما كيف تسلسلت الحياة، وهل تطورت عبر الزمان أم نشأت واحدة هكذا أنواعا، فهذا مما لم يتعرض له القرآن.. ومجال الدراسة فيه مفتوح.
على أن ذلك لا يجب أن يختلط بنشأة الإنسان الصريحة القاطعة. فالنصوص القرآنية ترينا كيف خلق الله الإنسان، وإن كانت لم تدلنا متى كان ذلك. فخلق الله للإنسان صريح في قوله -سبحانه:{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71، 72] .
وكما تقوم الحياة على قاعدة النشأة من الماء، وكذلك تقوم على قاعدة "الزوجية" التي لا تشمل الأحياء فقط، ولكنها كذلك تشمل الأشياء {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] . وتقدير الزوجية هذا، واشتمال الحياة على الضمانات التي تجددها وتكثرها عن طريق هذه الزوجية، وتوافر الجنسين في كل نوع بالنسبة الكافية للبقاء والتكاثر دليل على القصد والتدبير، يكرر القرآن ذكره، وهو دليل لا يواجهه المنكرون إلا بالإنكار أو الهروب في كل حال.
"وهذه الحياة مقدرة أقواتها في بنية الأرض، وفي نظام الكون.. وهي حقيقة واقعة تكذب كل ادعاء آخر، وتسخر من نظريات المتشائمين والداعين إلى تحديد
1 سيد قطب: مقومات التصور الإسلامي، مرجع سابق، ص358.
النسل "نظرية مالتوس".. فهناك موافقات في كيان الحياة ذاته، وفي الظروف المحيطة بها، تجعل حقيقة تقدير الأقوات أوسع من مادة الأقوات ذاتها.. وتمد محيطها إلى ما في بنية الكون من طاقات ومدخرات، وما في تكامل الأحياء من عمليات تعويض، وما في ضوابط الحياة من ضمانات للتناسق بين بعض الأحياء وبعض، وبين الأحياء جميعا والأقوات المدخرة"1.
وكما تقوم الحياة على قاعدة النشأة من "الماء" وعلى قاعدة "الزوجية" كذلك تقوم على قاعدة "الأمة المنظمة" فكل ما يدب على الأرض من أحياء أمم ذات تنظيمات كأمة الإنسان، فهي كلها من أصل واحد، وهي كلها تخضع للخالق العظيم الذي أودع هذه الأمم فطرتها وضوابطها، والإنسان هو قمة هذه المخلوقات، وهي كلها مسخرة له.. "لكنه إنما يرتفع إلى مقامه هذا باحتفاظه بسبب امتيازه، وهو اتصال روحه بمصدر امتيازه، فإذا فارق هذا المقام صار أضل من الحيوان"!
والأحياء مكفولون برزق الله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]، محاطون بعلم الله ورعايته:{وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6]، وخاضعون لسلطان الله:{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود: 56] .
والأحياء كلها في عبادة الله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49] .
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] .
"هناك عوالم أخرى من الأحياء -غير دواب الأرض التي تشمل الإنسان- وهي عوالم أخبرنا الله بوجودها. وليس لنا من مصدر آخر للعلم بها إلا ما أخبر الله عنها، هي الملائكة والجن، ومن الجن الشياطين، وإبليس على رأس الشياطين! والإنسان يتعامل مع هذين الخلقين، ويتأثر بهما في الدنيا والآخرة"2.
هذه هي حقيقة الحياة التي يتعامل معها "الإنسان" خليفة الله فيها، ومهمة مناهج التربية هي ترسيخ هذه الحقيقة في عقول وقلوب الناشئة، حتى يفهموا أن مهمتهم في الحياة -كخلفاء الله في الأرض- هي إعمارها وترقية الحياة على ظهرها وفق منهج الله.. وأن وسيلتهم في ذلك بمعايير العلم، والعدل، والحرية والشورى والإحسان في العمل.
1 المرجع السابق، ص359.
2 المرجع السابق، ص359.