الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
تحقيق الإيمان والفهم لحقيقة الألوهية:
إن تعميق الإيمان بالله في نفوس الأجيال يتوقف -بلا شك- على فهمهم لحقيقة الألوهية، وبالرغم من أن الحقيقة الإلهية الكلية المطلقة أكبر من مجال إدراك الكينونة البشرية الجزئية المحدودة الحادثة الفانية، لكن حسب الإنسان منها ما يصلح به تصوره، وما يستقيم به فكره، وما يصلح به ضميره، وما تنتظم به حياته، وما يعرف به حقيقة مركزه، ودائرة سلطانه، ومقتضيات عبوديته لهذه الألوهية1.
إن منهج التربية يربي "الإنسان".. "والإنسان لا يملك أن يكون شيئا في واقع هذه الأرض، ولا يملك أن يكون شيئا في حساب هذا الوجود.. سواء في عالم الغيب أو في عالم الشهادة.. ولا يستطيع أن يكون قوة فاعلة، وأن يكون له دور إيجابي، وأن يحقق غاية وجوده الإنساني -كما أرادها الله- إلا أن يمتلئ حسه وضميره، وقلبه وعقله، وكينونته كلها بحقيقة الألوهية، وما لم يدرك على وجه اليقين الواضح، والجزم الحاسم، ما تتطلبه منه علاقته بهذه الحقيقة فإنه لن يقوى على الكفاح والصمود، والمضي قدما في الطريق الكئود، لإنشاء الواقع الجديد، ويشهد في نفسه وفي غير ميلاد الإنسان الجديد.
"إنه مطلوب منه أن يغير وجه العالم، وأن يقيم عالما آخر، يقر فيه سلطان الله وحده، ويبطل سلطان الطواغيت، عالما يعبد فيه الله وحده -بمعنى العبادة الشامل-
1 سيد قطب: مقومات التصور الإسلامي، مرجع سابق، ص187.
ولا يعبد معه أحد من العبيد، عالما يخرج فيه الناس.. من شاء الله منهم.. من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده -كما قال ربعي بن عامر، رسول قائد المسلمين، لرستم قائد الفرس الشهير- ومطلوب منه أن يقف في وجه الباطل والظلم والفساد، وأن يغير تصورات وأوضاعا، وقيما وموازين، وشرائع وقوانين، وأن يتعرض للغربة والوحشة، والأذى والابتلاء.. وهو لا يوجه هذا كله إلا إذا امتلأ كيانه كله بحقيقة الألوهية، بحيث ترجح في حسه كل شيء، وإلا إذا امتلأت نفسه "بوجود" الله سبحانه و"حضوره" في حسه وضميره، وقلبه وعقله، وفي كيانه كله، وحياته كلها"1.
إن مناهج التربية عموما ومناهج العلوم الشرعية على وجه الخصوص يجب أن تعتمد على المنهج القرآن في توضيح هذه الحقيقة للأجيال الناشئة: "إن المنهج القرآني يجلي هذه الحقيقة بآثارها الفاعلة في هذا الوجود.. في الخلق والتدبير، في تصريف هذا الكون وما فيه ومن فيه، في تسخير الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، في إيلاج الليل وفي النهار، وإيلاج النهار في الليل، في إرسال الرياح لواقح، وإنزال الماء من السماء، في انبثاق الحياة من الموت، وانبثاق الصبح من الظلام، في إخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي، في بدء الخلق وإعادته، في القبض والبسط، في البعث والنشور، في النعمة والنقمة، في الجزاء والحساب، في النعم والثواب، في كل حركة وكل انبثاقة، وكل تغير وكل تحور في عالم الغيب أو في عالم الشهادة، في هذا الوجود الكبير، ونادرا ما يتحدث المنهج القرآني عن الذات الإلهية والصفات في الصورة التجريدية التي تتحدث بها الفلسفة واللاهوت وعلم الكلام"2.
إن غياب التصور الإسلامي للكون والإنسان والحياة -عموما- في مناهج التربية وعدم فهم حقيقة الألوهية، وعدم التفريق بينها وبين حقيقة العبودية، قد أحدث كثير من الجهالات والانحرافات جهالات وانحرفات في العقيدة، وجهالات وانحرافات في الفكر والشعور، وجهالات وانحرافات في القول والعمل والسلوك، وجهالات وانحرافات في الثقافة، والفن، والأدب، والتربية!
إن غياب التصور الإسلامي، في تربية الإنسان، وعدم فهم حقيقة الألوهية والتفريق بينها وبين حقيقة العبودية، قد جعل كثيرا من الفنانين والأدباء يشعرون أنهم فلتة ضائعة في الكون الوسيع، وفي الحياة المجهولة والمصدر والمصير!
فها هو ذا إيليا أبو ماضي يقول:
جئت لا أعلم من أين أتيت ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت
وعلى هذا النمط الضائع المضيع.. سار كثير من الشعراء والأدباء والفنانين والعلماء والمثقفين والمربين!
1 المرجع السابق، ص188.
2 راجع نماذج النصوص القرآنية التي سبق عرضها عند الحديث عن "الألوهية والوحي" في الفصل الثاني.