الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعبر عنها تارة بالإلهام: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس، 7، 8] ويعبر عنها تارة أخرى بالهداية: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] ، وما الرسالات والعوامل الخارجية إلا إيقاظ وشحذ وتوجيه لهذه القدرة الكامنة.
إن هذه القدرة الواعية الكامنة في كيان الإنسان وفي صميمه، والقادرة على التمييز والتوجيه الحر، هي التي يناط بها التبعة والمسئولية، فمن استخدمها في تزكية نفسه، فقد أفلح، ومن خبأها وأضعفها، فقد خاب، فهي حرية تقابلها تبعة، وقدرة يقابلها تكليف، ومنحة يقابلها واجب1.
1 سيد قطب: في ظلال القرآن، ط10، دار الشروق، 1403هـ-1983، ص3917-3918.
دافع السلوك
…
دوافع السلوك:
السلوك الإنساني ذهنيا كان أو معرفيا أو وجدانيا أو حركيا، لا بد له من دوافع تحركه نحو غايات يحققها، فدوافع السلوك هي كل ما يدفع إلى السلوك من أجل تحقيق هدف أو أهداف معينة.
نظرية الغرائز:
يرى مكدوجل أن جميع الدوافع التي تثير نشاط الفرد يمكن أن ترد إلى دوافع أساسية نهائية هي الغرائز. فالغرائز هي المحركات الأولى لكل نشاط حركي أو عقلي أو وجداني، فردى أو جماعي، وهي لا تزود الإنسان بالقوة الدافعة فقط، بل تحدد غايات سلوكه أيضا.
والغريزة كما يعرفها هي استعداد فطري نفسي جسمي يدفع الفرد إلى أن يدرك ويتنبه إلى أشياء من نوع معين، وأن يشعر بانفعال خاص عند إدراك هذه الأشياء، وأن يسلك نحوها مسلكا خاصا، إذن فلكل غريزة مثير ينشطها، وانفعال يصاحبها، وسلوك يصدر عنها.
ويشترك الإنسان مع الثدييات العليا في مجموعة من الغرائز كالتماس الطعام، والراحة، والتنفس، والجنس، والإخراج، والوالدية، والاستطلاع، والاجتماع والسيطرة، والمقاتلة.. إلخ.
والغرائز عامة يشترك فيها الناس جميعا، في كل سلالة، وفي كل حضارة، وفي كل عصر، وهي دوافع فطرية لا تكتسب ولا يمكن استئصالها أو القضاء عليها.
وتتعدل الغرائز عند الإنسان، فتشتق منها العواطف والعادات والميول والحاجات الفرعية المختلفة، فهي ليست المحركات الوحيدة للسلوك، لكنها المحركات الأساسية الأولى.
إن ارتقاء الحيوان وزيادة ذكائه نتيجة للنمو والتدريب لا يؤدي إلى ضمور الغرائز أو زوالها، بل إلى زيادة قدرة الحيوان على التحكم فيها.
المدرسة السلوكية:
إن مدرسة الغرائز فرع "مكدوجل" خاصة هي أقرب مدارس النفس إلى علم النفس الإسلامي بسبب تأكيدها على أن الغرائز هي دوافع فطرية موروثة لا تكتسب، ولا يمكن استئصالها أو القضاء عليها، وهي لهذا السبب قد تعرضت لهجوم شرس من المدرسة السلوكية، أدى إلى اختفائها تقريبا من كتب علم النفس الغربي.
وهجوم المدرسة السلوكية على نظرية الغرائز لا يقوم على أساس أن هناك حقائق علمية موضوعية تصادم هذه النظرية، بل يقوم على أساس أن المدرسة السلوكية لا تؤمن بالفطرة، ولا تؤمن بالسجايا التي فطر الله الناس عليها، بل تؤمن بأن البيئة هي التي تصنع الإنسان، وهي التي تكسبه دوافع وميوله وشخصيته، فالنقد قائم إذن على أساس اعتقاد معين، وليس على أساس حقائق قررها العلم، وهذا الاعتقاد يقوم أساسا على إنكار أن الله خلق كل إنسان بقدرات واستعدادات كامنة فيه تجعله يختلف عن غيره، وأن لكل إنسان كماله الخاص به، الذي وهبه الله له.
إذن فالمدرسة السلوكية تنطلق من إنكار الخلق والفطرة التي فطر الله الناس عليها، وذلك لحساب البيئة والمجتمع، وسيادة هذه المدرسة في ميدان علم النفس الغربي لا يرجع إلى تفوقها العلمي، وإنما يرجع إلى التفوق الأمريكي والروسي، وإلى الإمكانيات الهائلة التي وضعت في خدمة هذه المدرسة من أجل تحقيق السيطرة على العالم.
إن المدرسة السلوكية تنكر كل دوافع خارج حدود البيئة والمجتمع، وبذلك تنكر وجود قوى داخلية في النفس التي هي -كما سبق أن قلنا- جماع شخصية الإنسان بروحه وجسمه، وبذلك تنكر الإيمان بالله كدافع للسلوك، وكذلك كل ما هو غيبي، كالجن، والملائكة، والنفس الأمارة، والنفس اللوامة، والضمير الإنساني، والإرادة.
وتتبنى المدرسة السلوكية بدلا من الغرائز ما يسمى بالحوافز، فالحافظ هو نمط من الاستثارة الملحة تنتج عن حاجة في الجسم أو في الأنسجة.. وكل الحوافز تنشأ من ظروف جسمية فسيولوجية مثل الجوع والعطش وغيرها، ترى ما هي الحاجة الملحة التي تدفع لصا ليس جائعا إلى السرقة؟ والحافظ الجسمي الذي يدفع الأمريكي الأبيض إلى قتل الأسود وسرقته؟ وما المثير البدني الذي دفع الروس إلى
قتل الأفغان واحتلال أرضهم؟ ترى ما الذي يدفع المتعبد إلى العبادة، والمتدين إلى التدين، والشاعر إلى الشعر، والكريم للبذل، والأمين للأمانة، والصادق للصدق.. إلخ؟
إن موضوع التربية -بناء على مفاهيم هذه المدرسة- هو الإنسان والحيوان، التي لا تربو تصرفاته عن أن يكون ردود أفعال أو استجابات آلية لمثيرات خارجية، فلا ضمير ولا حرية، ولا إرادة إنسانية، ولا إرادة إلهية، ولا نفس أمارة بالسوء، ولا نفس لوامة، ولا شيء غير التفاعلات الكيميائية والنبضات الكهربائية؟
وأهداف التعليم كلها منصبة على تكوين عادات ذهنية وحركية واجتماعية، تمكن الإنسان الحيوان من أن يعيش في القطيع الاجتماعي، وأن يتصرف مع الأشياء حسب مفاهيم الفلسفة البراجماتية النفعية، التي ترى أن المصلحة هي المقياس لكل شيء، فلا أخلاق خارج حدود المصلحة الاجتماعية القومية، ولا معايير ثابتة للحكم على السلوك والأخلاق!
مدرسة الإسلام:
في علم النفس الإسلامي هناك عوامل غيبية، وهناك عوامل مشهودة، كلها تعمل كدوافع للسلوك، وإذا أخذنا التقسيم المشهور للدوافع إلى دوافع غريزية، ودوافع مكتسبة، ودوافع غير شعورية، فإننا نجد ما يلي:
أولا: بالنسبة للدافع الغريزية، فإن مدرسة الغرائز وإن كانت قد اتفقت مع الإسلام في أنها فطرية وموروثة، إلا أنها لم تقل بأن الله غرزها في النفس الإنسانية، وإنما هي مغروزة في الإنسان بحكم الطبيعة، لكن الإسلام يقول إن الله قد أودعها في خلق النفس وفطرتها:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10] .
ثانيا: بالنسبة للدوافع المكتسبة، فإن الإسلام يفرق بين العواطف والميول مثل الحب والكره والرضا والسخط.. إلخ، فكل هذه غرائز فطرية خلقها الله في الإنسان:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14] .
وهكذا، فالعواطف والميول خلقها الله في النفس، لكن توجيهها إلى أشخاص أو أشياء بعينها هو المكتسب، فالإنسان مفطور على الحب، لكن البيئة قد توجهه إلى حب الله ورسوله، وقد توجهه إلى حب الأصنام أو دجال أو فنان.. إلخ.
ثالثا: يطلق على الدوافع غير الشعورية عموما بأنها الدوافع التي لا يشعر الفرد بها أثناء قيامه بالسلوك مثل الحاجات الوجدانية والاتجاهات المعرفية والعادات القوية، ومستوى الطموح.. إلخ.
ويرى بعض المفكرين أنه لا يوجد "لا شعور" في النفس، وإنما هناك جانب مغيب في النفس، وهو الجانب الذي لا نعرف عنه إلا القليل -لأن النفس أصلها الروح، وهي علمها عند الله- وقد بين الإسلام أن النفس تتأثر بالمؤثرات الخارجية، وأن الأحداث تترك أثرها في النفس، وأن هذا الأثر قد يكون حميدا وقد يكون سيئا، كما ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالا حسية لهذا الأثر بالنكتة البيضاء والنكتة السوداء، كما ضرب لنا المثل في حديث القلوب الثلاثة والتي هي الأحوال الثلاثة للنفس، فالقلوب تمرض ويكون من أمراضها الكره والحقد والغيرة والحسد والقلق والاكتئاب، كما أنها تصح ومن علامات صحتها حب الخير، والإيثار، والاطمئنان والرضا، وأساس ذلك كله أن الله قد ابتلى الإنسان بالخير والشر فتنة:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وأنه أمد الإنسان بأسباب هذا وذاك، فمن سلك طريق الخير صحت نفسه، ومن سلك طريق الشر مرضت نفسه.
وعلى هذا فليس هناك ما يسمى "باللاشعور" وليس هناك ما يسمى "بالعقد المكبوتة" وإنما هي أمراض تغلب على النفس من أحوال الشر التي تصيبها، وأنه يستعان عليها بالأدوية التي وصفها العلماء بعلاج النفوس والقلوب كما يقول ابن تيمية في الحسد والغيرة وغيرهما.
ضبط الدوافع لا كبتها:
ليس الضبط في الإسلام هو الكبت لدى مدرسة التحليل النفسي، وإنما الضبط هو عملية نفسية: عقلية وإرادية، وليس مجرد عملية بيولوجية شعورية أو غير شعورية، فقصر الضبط على الجانب البيولوجي يعني قصر الضبط على الجسم وحده، في حين أن الأصول الصريحة تدل على أن الضبط هو وظيفة النفس التي هي جماع شخصية الإنسان فيما في ذلك عقله وإرادته:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10] .
ويشبه ابن القيم ضبط الدوافع الفطرية بالنهر الذي يهدد حياة قرية مجاورة، ويختلف أهلها حول ما يجب عمله لدرء خطره، الفئة الأولى ترى ترك النهر على ما هو عليه، وهذه سوف يجرفها النهر عاجلا أو آجلا، وهذه الفئة حالها كحال من يسمح للدوافع الفطرية بالتعبير عن نفسها بغير ضبط ولا تهذيب.
وترى الفئة الثانية درء الخطر عن طريق سد منابع النهر تماما، وهؤلاء حالهم كحال من يكبت الدوافع الفطرية التي هي غريزة في خلق الإنسان وفطرته، وكبتها لا يعني القضاء على وجودها، ولذلك تظل تتحين الفرص للظهور والإشباع، فإذا ما قاومها الإنسان طويلا فإنها قد تورث الأمراض النفسية أو الجسمية أو العقلية.
وتعتقد الفئة الثالثة أن درء الخطر يكون عن طريق بناء سد في مجرى النهر لحجز المياه فترة من الزمن، وهؤلاء يؤجلون الغرق بعض الوقت، وقد ينهار السد ويصبح الانهيار محققا.
والفئة الرابعة ترى درء الخطر عن طريق تحويل مجرى النهر إلى مكان آخر صالح للزراعة، وهذا هو الاقتراح الذي ينجي القرية من الغرق، فقد حولوا المياه "أو الدوافع الفطرية" عن طريق الضبط إلى قوة مثمرة خيرة.
وهكذا نرى أن هناك فرقا جوهريا بين الكبت الذي يمنع الدوافع الفطرية من التعبير عن نفسها مما يؤدي إلى الأمراض النفسية، وبين الضبط الذي يوجه الدوافع إلى التعبير عن نفسها بطريقة فيها خير الإنسان والناس جميعا.
إن العقل هو الأداة الأساسية في النفس للضبط، "ولذا سماه العرب عقلا.. لأنه يكف ويضبط.. يضبط الأهواء والشهوات والغرائز.. وتمده من الداخل النفس اللوامة بما فطرت عليه من كراهية الفجور والشر، وتمده من الخارج الشريعة والتربية السليمة"، لذا كان من السنة أن يكون أول ما يستقبل الطفل وأول صوت يسمعه هو صوت التكبير، الذي يسن التأذين به في أذنه، لأنه ينزل مدركا واعيا، لكنه يحتاج إلى نمو الأعضاء الجسمية التي تسمح له بالتعبير عن وعيه وإدراكه.