الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
لا بد أن يكون للأمة الإسلامية بأقطارها المتنوعة استراتيجية ثابتة في التعامل مع بعضها البعض، وفي التعامل مع الآخرين، بحيث يكون التعامل فيما بينها قائما على أساس الإيمان بالله، والاعتصام بحبل الله المتين، ويكون تعاملها مع الآخرين على أساس الأخوة في الإنسانية، والتعاون، والتكامل، والتآزر في إقامة العدل، ونبذ الاستغلال والاحتكار والربا والظلم في كل مكان. على أن يكون واضحا للجميع أن سلوك الأمة هذا نابع من تصورها العقدي، وتصورها الاجتماعي المشتق منه. والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.
22-
ترسيخ مفاهيم العدل والسلام في عقول الطلاب:
إنه لا بد من ترسيخ مفاهيم العدل والسلام في عقول الطلاب وضمائرهم وسلوكياتهم. إن إنسان هذا العصر يعاني من الفقر الشديد في السلام مع نفسه، ومن فقر مماثل في السلام مع الكون من حوله. ومن أوضح مظاهر الفقر في السلام مع النفس، انتشار الأمراض النفسية والعقلية والعصبية نتيجة عدم الإيمان بالله، وعدم وضوح المنهج والهدف، وكثرة الإضلال والتضليل. وما ترتب على ذلك من شيوع الإدمان، والانتحار والاغتصاب -رغم الإباحية الجنسية- والإيدز والمخدرات والتلوث
…
إلخ.
ومن أوضح مظاهر الفقر في السلام مع الكون، الاختلال الواضح الآن في توازن البيئة، بسبب الكم الهائل من مخلفات المصانع والمواد الكيماوية المنطلقة في الجو، وما أدى إليه من تآكل طبقة "الأوزون" في الغلاف الجوي المحيط بالأرض مما يعتبر خطرا داهما يهدد البشرية كلها بآثار لا يفوقها في المخاطر والأهوال سوى النتائج المترتبة على قيام حرب نووية تبيد سكان هذا الكوكب، وتقضي على حضارة الإنسان. ويمكن الإضافة إلى هذا تلاحق الحوادث الخطيرة التي باتت تهدد الإنسان مثل كوارث المفاعلات النووية، ودفن النفايات الكيماوية السامة في قيعان البحار أو في بلاد العالم الفقيرة!
والحقيقة أنه إذا كان كل نذر الفوضى والخراب والدمار تندلع شرارتها من عقول البشر، فإن استحكامات العدل والأمن والسلام ودفاعاتها يمكن أن تبنى أيضا في عقول البشر وضمائرهم. ومنهج التربية في الإسلام هو المنهج الوحيد القادر على بناء قواعد العدل واستحكامات السلام في عقول البشر وضمائرهم. فالذي لا شك فيه أنه إذا اكتملت تربية الإنسان واكتمل تأهيله وفق منهج الله، فإن الاستقامة على العدل والسلام تصبح طابعه الحضاري.
إن إرساء قواعد العدل والسلام في العالم وإيقاف الحروب والصراعات والمؤامرات حفاظا على الأجيال الحالية من البشر، والحفاظ على البيئة ووقف استنزافها، وتجريم تخريبها حماية لمستقبل الإنسانية -كل هذا لا يمكن أن يتم دون تصحيح تصور الإنسان للكون والإنسان والحياة، وفهم مركز الإنسان في الكون ووظيفته في الحياة.
إن بناء قيم العدل والسلام في عقول البشر وضمائرهم لا يمكن أن يتم من خلال مناهج للتربية تقوم على أساس عدم الإيمان بالله، وإنكار حقيقة الألوهية، واعتبار الطبيعة خالقة، وأنها الجوهر الأول، وأصل كل شيء، ومصدر كل شيء كما يعتقد أنصار المدرسة المادية التي تنكر الغيب ولا تعترف بغير القوى المادية المحسوسة. كما لا يمكن أن يتم هذا من خلال مناهج تقوم على أساس فصل الدين عن الحياة، واعتبار أن للبشر ملكوت الأرض، ولله ملكوت السماء!
إنه لا ضمان لعدل ولا أمل في الإسلام عندما يعزل الدين عن الحياة، أو تغتصب الحاكمية والسيادة من شريعة الله لحساب النظام العالمي الجديد، أو لحساب الرغبة في الهيمنة والاحتكار والقهر كما تفعل ذئاب الكون المعاصرة.
إن شريعة الله التي سنها لتنظيم حياة البشر، هي شريعة كونية متصلة بناموس الكون العام، ومتناسقة معه؛ ومن ثم فإن الالتزام بها ناشئ عن ضرورة تحقيق التناسق بين حياة الإنسان، وحركة الكون الذي يعيش فيه، وبذلك فإن العمل بهذه الشريعة واجب حتمي لتحقيق هذا التناسق.
إن هذا التناسق يحقق للإنسان السلام مع نفسه، كما يحقق له السلام مع الكون المحيط به. أما السلام مع النفس فينشأ من توافق حركته مع دوافع فطرته الصحيحة، وبذلك تنتظم حركة الإنسان الظاهرة مع فطرته المضمرة.
وأما السلام مع الكون فينشأ من تطابق حركة الإنسان مع حركة الكون المحيط به في الاتجاه والغاية. بذلك يتحقق الخير للبشرية عن طريق هدايتها وتعرفها في يسر إلى أسرار هذا الكون، والطاقات المكنونة فيه والكنوز المذخورة في أطوائه، واستخدام هذا كله وفق شريعة الله لتحقيق الخير البشري العام، بلا تعارض ولا اصطدام.
ولهذا فإنه عندما يحيد الإنسان عن هذه الشريعة فإنه يحدث نوعا من الشقاق الذي يؤدي حتما إلى كوارث نفسية وكونية، فالحياد عن شريعة الله يحدث الشقاق بين الإنسان وفطرته السليمة التي فطره الله عليها، فيصاب بأبشع الأمراض النفسية والجسمية.
والحياد عن شريعة الله يحدث الشقاق بين الإنسان من جانب، وبين الكون من حوله الخاضع لله بفطرته من جانب آخر؛ فتحدث الكوارث الطبيعية التي تدمر الإنسان في كل مكان؛ حيث تنقلب طاقات الكون وذخائره وقواه من وسائل لتعمير الحياة وترقيتها إلى عوامل تدمير وخراب وشقاء للإنسان والبيئة والكون جميعا.
وعلى هذا فإننا إذا أردنا بناء العدل والسلام في عقول البشر وضمائرهم، فعلينا ألا نسمح بالحياد عن رابطة العقيدة في مناهج التربية لحساب الروابط والولاءات الجغرافية والتاريخية، والسياسية والاجتماعية والشعوبية.. وما إلى ذلك من الروابط المتصلة بنواحي العنصرية البغيضة والعصبية المنتنة.
إنه لا يمكن بناء معايير العدل والسلام في عقول البشر عندما تختفي من مناهج التربية قيمة إعداد "الإنسان" ليكون خليفة لله في عمارة الأرض وترقية الحياة على ظهرها لحساب إعداد "المواطن" المقطوع الصلة بالله، الذي لا يتسع ولاؤه لأكثر من جماعة من الناس على رقعة ضيقة من الأرض في زمان ومكان معينين! إن هذا المواطن المقطوع الصلة بالله، مهما أتقن العمل وأقام المصانع والمزارع، ومهما اخترع وابتكر، فسوف تتحول نتائج أعماله وابتكاراته إلى عوامل تخريب وتدمير وشقاء؛ لأنه ابتغى العلم والعمل لغير وجه الله، والعلم يأبى أن يكون إلا الله.
إنه لا يمكن بناء العدل والسلام في عقول البشر وضمائرهم، عندما تختفي من مناهج التربية في العالم قيمة بناء الأسرة المتخصصة في العمل بين الزوجين. الأسرة التي تعتبر أن مهمتها الأساسية تربية الناشئة على أساس قويم من الإيمان بالله، والأخوة في الله، والأخوة في الإنسانية. إنه عمدما تختفي هذه القيمة لحساب العلاقات الجنسية "الحرة"! واختلاط الأنساب، وفقدان الولاء للأسرة، وإفراغ طاقة المرأة في الأعمال التي لا تناسب فطرتها.. إنه عندئذ لا ضمان لعدل، ولا أمل في سلام.
وباختصار إن العالم كله -ونحن في مقدمته- في حاجة إلى منهج الإسلام للتربية. فهذا المنهج هو المنهج الوحيد القادر على تربية الأجيال على أساس الإيمان بالله والأخوة في الله، والأخوة في الإنسانية، إنه المنهج الوحيد الذي يستطيع بناء عقول البشر وضمائرهم من خلال مفاهيم وقيم وسلوكيات إنسانية عادلة. وما ذلك إلا لأنه المنهج الوحيد الباقي، الذي يبدأ بسلام الإنسان مع الله، وسلامه مع نفسه، ومع المحيطين به.. وصولا للسلام مع البيئة والطبيعة والعالم كله من حوله، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل.