الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: المفاهيم الأساسية لمناهج التربية
مدخل
…
الفصل الأول: المفاهيم الأساسية لمناهج التربية
مقدمة:
إن تربية الإنسان المعاصر التي يمكن أن تحفظ له الاستقامة على الفطرة التي فطره الله عليها لن تأتي إلا عن طريق تصحيح منهج التلقي الذي يستقي منه الإنسان فهمه لطبيعة الكون والإنسان والحياة، وإدراكه لطبيعة مركزه في الكون ودوره في الحياة. كما تقتضي إدراكه للمفاهيم الحاكمة والمؤثرة في منهج التلقي. ومن أهم هذه المفاهيم، مفهوم الدين، ومفهوم العبادة، ومفهوم التربية، ومفهوم الفلسفة، ومفهوم اللغة، وعلاقة كل ذلك بمنهج التربية، لكننا نبدأ بمفهوم المنهج وخصائصه، مع التفريق بين مفهوم "المنهج" ومفهوم "البرنامج".
إن أي منهج للتربية لا بد أن يعتمد على نظرية تربوية، والنظرية التربوية تعتمد بالضرورة على فلسفة تربوية، والفلسفة التربوية لمجتمع ما، لا بد أن تعتمد على عقيدة المجتمع وفلسفته وتصوره العام للكون والإنسان والحياة. وكل ذلك لا بد أن يعتمد على لغة قوية، هي في واقع الأمر للتفكير والتعبير والاتصال.
مفهوم المنهج وخصائصه:
يعرف ابن منظور المنهج بأنه الطريق البين الواضح "ومنهج الطريق وضحه1 والمنهاج كالمنهج، وفي التنزيل: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] ، والمنهاج -كما يقول ابن كثير- هو: "الطريق الواضح السهل، والسنن والطرائق".
لكن تعريف المنهج بأنه الطريق السهل الواضح، وأنه السنن والطرائق، هو تعريف عام يصلح لكل جوانب الحياة ومجالاتها، كالزراعة والصناعة والتجارة والتربية وغير ذلك. ومن هنا كان لا بد من السير خطوة نحو التخصص.. نحو التربية.
ويرى كثير من المتخصصين في المناهج وطرائق التدريس، أن المنهج التربوي هو "مجموع الخبرات والأنشطة التي تقدمها المدرسة للتلاميذ بقصد تعديل سلوكهم وتحقيق الأهداف المنشودة"2.
1 ابن منظور: لسان العرب، الجزء الخامس، ص4554.
2 محمد عزت عبد الموجود، وزملاؤه: أساسيات المنهج وتطبيقاته، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، 1981م، ص11.
ويلاحظ على هذا التعريف أمران: الأول: أنه فقد صفة النظام أو المنظومة، والثاني: أنه قصر المنهج على الخبرات والأنشطة ولم يشر إلى فلسفة المنهج وأسسه الموجهة للممارسة التربوية فيه، فهو تعريف ينحو منحي سلوكيا وضعيا.
مفهوم منهج التربية:
ومن هذا تظهر الحاجة إلى تعريف مناسب لمنهج التربية، وهنا يمكن القول: إن منهج التربية في تصورنا هو: "نظام متكامل من الحقائق والمعايير والقيم الثابتة، والخبرات والمعارف والمهارات الإنسانية المتغيرة التي تقدمها مؤسسة تربوية إلى المتعلمين فيها بقصد إيصالهم إلى مرتبة الكمال التي هيأهم الله لها، وتحقيق الأهداف المنشودة فيهم".
الخصائص التي يتميز ويتفرد بمجموعة من الخصائص أهمها ما يلي:
الخاصية الأولى: هي أن منهج التربية "نظام" أي: إنه بمفهومه، وخصائصه، وأسس بنائه، وعناصره، يكون كلا متكاملا، كل جزء فيه يتأثر ببقية الأجزاء ويؤثر فيها، وكل جزء يؤثر في الكل ويتأثر به.
الخاصية الثانية: هي أن هذا المنهج "رباني" في مصدره وغايته، فهو يعتمد على الوحي؛ لذلك فهو يزود الإنسان "المتعلم" بمجموعة الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة التي توجه عمله وإسهامه، بل وتعينه على عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله. إن من الضروري أن يفهم المتعلم الحقائق الثابتة كحقيقة الألوهية، وحقيقة الكون، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الحياة. فبدون فهم هذه الحقائق، لا يستطيع الإنسان أن يفهم حقيقة وجوده، ولا دوره في هذا الوجود فضلا عن مصدر وجوده وغاية وجوده.
وخاصية الربانية التي تميز منهج التربية يراد بها هنا أمران:
1-
ربانية المصدر والمنبع.
2-
ربانية الوجهة والغاية1.
ربانية المصدر والمنبع:
إن أولى مقومات منهج التربية أنه صادر من التصور الإسلامي الذي هو نظام رباني "صادر من الله للإنسان، وليس من صنع الإنسان، تتلقاه الكينونة الإنسانية بجملتها من بارئها، وليست الكينونة الإنسانية هي التي تنشئه، كما تنشئ التصور
1 يوسف القرضاوي: الخصائص العامة للإسلام، مكتبة وهبة، ط2، 1401هـ-1981م، ص7.
الوثني، أو التصور الفلسفي -على اختلاف ما بينهما- وعمل الإنسان فيه هو تلقيه وإدراكه والتكيف به، وتطبيق مقتضياته في الحياة البشرية"1.
وإذا كان الفكر البشري لم ينشئ هذا النظام، فإن له وجودا قويا في مجاله للعمل فيه، "بيد أن عمله هو التلقي والإدراك والتكيف والتطبيق في واقع الحياة.. غير أن القاعدة المنهجية الصحيحة للتلقي.. هي هذه.. أنه ليس للفكر البشري أن يتلقى هذا التصور بمقررات سابقة، يستمدها من أي مصدر آخر، أو يستمدها من مقوماته هو نفسه، ثم يحاكم إليها هذا التصور ويزنه بموازينها.. إنما هو يتلقى موازينه ومقرراته من هذا التصور ذاته، ويتكيف به، ويستقيم على منهجه"2.
"وفي الوقت ذاته يعتبر الفكر البشري -في ميزان هذا التصور- أداة قيمة وعظيمة، يوكل إليها إدراك خصائص هذا التصور ومقوماته -مستقاة من مصدرها الإلهي- وتحكيمها في كل ما حوله من القيم والأوضاع، دون زيادة عليها من خارجها، ودون نقص كذلك منها.. ويبذل منهج التربية لهذه الأداة العظيمة من الرعاية والعناية، لتقويمها وتسديدها وابتعاثها للعمل في كل ميدان هي مهيأة له.. الشيء الكثير"3.
إذن فوظيفة الإنسان في هذا النظام هي التلقي في حدود طبيعته الإنسانية، وفي حدود وظيفته، "فالإنسان محكوم أولا بطبيعته: طبيعة أنه مخلوق حادث، ليس أزليا ولا أبديا، ومن ثم فإن إدراكه لا بد أن يكون محدودا بما تحدده طبيعته، ثم هو محدود بوظيفته، وظيفة الخلافة في الأرض لتحقيق معنى العبودية لله فيها.. ومن ثم فقد وهب من الإدراك ما يناسب هذه الخلافة بلا نقص ولا زيادة".
ربانية الوجهة والغاية:
أما ربانية الوجهة والغاية فنعني بها -كما يقول الدكتور القرضاوي: "أن الإسلام يجعل غايته الأخيرة وهدفه البعيد، هو حسن الصلة بالله تبارك وتعالى، والحصول على مرضاته، فهذه غاية الإنسان، ووجهة الإنسان، ومنتهى أمله وسعيه وكدحه في الحياة"4. {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق: 6] ، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42] .
الربانية والمنهج:
إن منهج التربية هنا منهج رباني في مصدره وغايته، ولذلك فهو يزود الإنسان "المتعلم" بمجموعة الحقائق والمعايير والقيم الثابتة التي توجه عمله وإسهامه، بل وتعينه على عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله. فلا مراء أنه من الضروري لكل
1 سيد قطب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، بيروت، دار الشروق، 1402هـ-1982م، ص41.
2 المرجع السابق، ص45.
3 المرجع السابق، ص47.
4 يوسف القرضاوي، مرجع سابق، ص7.
إنسان "متعلم" أن يفهم الحقائق الثابتة في الوجود: كحقيقة الألوهية وحقيقة الربوبية، وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان
…
إلى آخره. فبدون فهم هذه الحقائق لا يستطيع الإنسان أن يفهم حقيقة وجوده، ولا دوره في هذا الوجود، فضلا عن مصدر وجوده وغايته.
ومن الضروري أن يعرف الإنسان "المتعلم" المعايير التي يرجع إليها في إقامة الجوانب المختلفة لحياته على الأرض. فالشورى معيار لسياسة الحكم ونظامه، والعدالة الاجتماعية معيار للنظام الاقتصادي، والتراحم، والتكافل، والتعاون معايير لتنظيم الحياة الاجتماعية والعلاقات بين الناس.. وهكذا.
ومن الضروري أن يفهم الإنسان "المتعلم" مجموعة القيم الأساسية التي يقوم عليها نظام الحياة الإنسانية الراقية، فالعلم واستخدامه في إعمار الحياة وترقيتها "لا في خرابها"، الإحسان والدقة في العمل، والنظام، والنظافة، وصدق الشعور في القول والعمل، كل هذه قيم ثابتة، لا يمكن أن يقوم نظام إنساني راق -في أي وقت- على وجه الأرض بدونها.
الخاصية الثالثة: هي أن منهج التربية يعتمد أيضا على الخبرة، فالخبرة هي أساس بناء الإنسان وبناء المجتمع، والخبرة تقتضي من الفرد نشاطا ووعيا بأبعاد الموقف التعليمي وتفاعلا معه، والأصل هنا أن منهج التربية لا يعتمد في طرائقه وأساليبه على التلقين وحده، بل يهتم -بالدرجة الأولى- بالتعلم عن طريق الأحداث، وعن طريق الممارسة والعمل، وعن طريق الثواب والعقاب، وعن طريق القصة، وضرب المثل، والتجسيم والتصوير، والقدوة، وعن طريق استخدام قوى الإدراك الظاهرة والباطنة التي زود الله بها الإنسان، ليستخدمها إلى أقصى طاقاتها:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] . {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] .
إن مجرد المعرفة النظرية، أو العلم الذي لا يؤثر في سلوك الإنسان وفي واقع حياته لا قيمة لهما ولا يعتد بهما منهج التربية، إن ذلك العلم خاو من المعنى ولا قيمة له، وتلك المعرفة سطحية ولا قيمة لها أيضا، لأنها مجرد معرفة "ذهنية"، لا تؤثر في سلوك الإنسان، ولا تغير شيئا في واقع حياته على الأرض. إن تلك المعرفة وذلك العلم -باختصار- لا يعينان الإنسان على أداء وظيفته في عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله، ولهذا كان الوحي قاطعا في رده على المنافقين: إن كنتم مؤمنين حقا فآية
إيمانكم هي تنفيذ أحكام الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
الخاصية الرابعة: أن منهج التربية هذا منهج إيجابي، وواقعي، فهو "تصميم" لواقع مطلوب إنشاؤه على أساس هذا التصميم1 لإعداد الإنسان القادر على القيام بواجبات الخلافة في الأرض، فالإنسان هو المكلف بتنفيذ هذا "التصميم" عن طريق التفكر والتدبر والنشاط بإيجابية وفاعلية.
وينسحب هذا -بطبيعة الحال- على الموقف التعليمي، فمجرد تقديم الخبرة للمتعلم لا يعني -بالضرورة- تعلمه، وتعديل سلوكه في الاتجاه المطلوب، فلا بد من أن ينشط الإنسان ويتفاعل مع الموقف التعليمي، بل ولا بد أن ينعكس أثر ذلك الموقف على سلوك الإنسان بعد ذلك.
والأصل في هذا، أن التعلم لا يحدث وفقا لتصور منهج التربية الإسلامية إلا بعد تعلم خمس خطوات مرتبة ترتيبا سببيا، كما يلي:
1-
وجود دافع فطري، أو حاجة من حاجات النفس الغريزية أو المكتسبة.
2-
أن يحس الإنسان أو المتعلم بحاجته إلى الاستعانة بهدى الله، وهذه هي الخطوة الثانية.
3-
فإذا كان لديه هذا الاتجاه وهذا الشعور، فإنه يدفعه إلى النشاط وإلى التفاعل والأخذ بكل الأسباب من أجل التعرف على تفاصيل ما يريد أن يعرف، وهذه هي الخطوة الثالثة.
4-
ونتيجة للاستعانة بهدى الله، والأخذ بكل الأسباب الممكنة، يحدث الفهم، ويتم التحصيل، وهذه هي الخطوة الرابعة.
5-
فإذا جاء السلوك بعد ذلك موافقا للفهم والإدراك والتحصيل -وهذه هي الخطوة الخامسة- فإن التعلم يكون قد تم.
إن هذا ما نراه واضحا جليا في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] . {الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 1-3] ، وهكذا، فما لم يتكون الشعور والاتجاه، ويتم النشاط، ويحصل
1 المرجع السابق، ص157.
الإدراك والفهم، ويتحول ذلك إلى سلوك عملي في واقع الأرض، إذن، فالتعلم لم يقع.
الخاصية الخامسة: التي تميز منهج التربية، هي خاصية الشمول والتكامل لكل من المتعلم والمنهج، فالمنهج هو الجانب التطبيقي للأصول التربوية، وبذلك فهو ليس غاية في ذاته، ولكنه وسيلة لتحقيق غاية، وهي تنمية شخصية الإنسان كله وإيصاله إلى درجة كماله التي هيأه الله لها، وهذا يقتضي أن يكون المنهج المعد لهذا الغرض شاملا متكاملا في حقائقه وفي خبراته وجميع أوجه مناشطه.
ولا يعني ما سبق أن الجوانب المعرفية والوجدانية والحركية في الخبرة الإنسانية منفصلة بعضها عن بعض، فحقيقة الأمر أن كل فعل حلال يقوم الإنسان به في الأرض لا يخلو من الجوانب الثلاثة السابقة: فيه جانب الجسم، وجانب العقل، وجانب الوجدان، فالتحدث باللغة مثلا -وهو نشاط حركي- يستخدم فيه الإنسان عقله، وينفعل به أيضا، والرياضة البدنية يبدؤها الإنسان باسم الله، وينفعل بها، ويستخدم في أدائه لها عقله وجسمه، وكذلك القراءة والكتابة، وإجراء التجارب.. إلى آخره، فكل عمل تتوافر فيه العناصر الثلاثة، لكن مع الاختلاف في النسبة.
وتكامل جوانب الخبرة الإنسانية في منهج التربية يتفق مع فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان، فالوجود كله صادر عن الإرادة المباشرة لله. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] . وهذا الوجود الصادر عن الإرادة المطلقة، وحدة متكاملة، كل جزء فيه متناسق ومتكامل مع بقية الأجزاء.. {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] . {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] . {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] . {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 3، 4] .
وهكذا، فتكامل جوانب الخبرة الإنسانية في منهج التربية يجب أن يتماشى مع تصور الإسلام لوحدة الوجود، وتكامل أجزائه، لكونه صادرا عن الإرادة المباشرة للواحد المطلق وهو الله.
وتكامل جوانب الشخصية الإنسانية في مفهوم منهج التربية يجب أن يتفق أيضا مع تصور الإسلام لوحدة الإنسان الفرد، ووحدة الإنسانية جمعاء، فالإنسان الفرد وحدة متكاملة، وقواه المختلفة موحدة الاتجاه، فهو ليس جسما مستقلا بذاته عن الروح والعقل، وليس عقلا منفصلا لا علاقة له بالجسم والروح، وليس روحا هائمة بلا رابط من عقل وجسم. بل هو كيان واحد متكامل الأجزاء.
ويتفق هذا أيضا مع فكرة الإسلام عن وحدة الإنسانية وتكاملها، "فلأن الوجود الموحد صادر من إرادة واحدة، ولأن الناس جزء من الكون متعاون متناسق مع سائر أجزائه، ولأن أفراد الإنسان خلايا متعاونة متناسقة فيما بينها، لذلك كان تصور الإسلام أن الإنسانية وحدة تفترق أجزاؤها لتجتمع، وتختلف لتتسق، وتذهب شتى المذاهب للتتعاون في النهاية بعضها مع بعض، كي تصبح صالحة للتعاون مع الوجود الموحد"1: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] .
إذن، فهناك حكمة من وراء هذا الاختلاف والتجزؤ وهو التعاون والتكامل، وإلا فلو شاء الله لجعل الناس جميعا أمة واحدة:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48] . {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 93] . وهكذا خلق الله الناس أمما وشعوبا مختلفة لا ليتصارعوا ويختلفوا، ولكن ليتعارفوا ويتكاملوا.
ولكن الله لم يأخذ الناس قسرا إلى هذه الغاية، ولكنه جعل لكل منهم طريقا ومنهجا، وخلق لكل منهم استعدادا، ولكل منهم مشربا، لقد خلق الله الناس باستعدادات متفاوتة، نسخا غير مكررة ولا معادة، ثم أنزل لهم نواميس الهدى والضلال، تمضي لها مشيئته في الناس، وتركهم يستبقون، وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه، وهم إليه راجعون2.
إذن، فالأصل في الوجود الوحدة والتعاون والتناسق في حدود منهج الله وشريعته، ومن شذ عن هذه السنة من المؤمنين فليرد إليها بكل وسيلة؛ لأن سنة الله في الكون أولى بالاتباع من أهواء الأفراد والجماعات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ
1 سيد قطب: العدالة الاجتماعية في الإسلام، بيروت، دار الشروق، 1403هـ-1983، ص23.
2 سيد قطب: في ظلال القرآن، مرجع سابق، جـ6، ص903، وجـ14، ص219.
فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] . إن من الأمور الواردة أن تتقاتل طائفتان من المؤمنين، وأن تبغي إحداهما على الأخرى، لكن الكارثة تحل لا محالة إذا غابت الطائفة الثالثة المؤمنة القادرة على إيقاف الباغي، ووضع الحق في نصابه.
وهكذا تتفق وحدة الشخصية الإنسانية، ووحدة تكامل الخبرة الإنسانية في منهج التربية مع الأصل في الإسلام، وهو أنه دين التوحيد ودين الوحدة والتكامل بين القوى الكونية جميعا.
الخاصية السادسة: أن منهج التربية هو منهج تربية "الإنسان"، الإنسان الصالح الذي يستطيع أن يعيش في كل مكان. وليس فقط "المواطن" المحصور في حدود المواطنة الضيقة، وتربية الإنسان ليس فيها بالطبع إغفال لتربية المواطن، ولكنها أشمل وأكمل، فالحقيقة أنه لا خوف أبدا على المواطن من الإنسان، ولكن الخوف كل الخوف على الإنسان من المواطن الذي انحصر فكره وانتماؤه وسلوكه داخل الحدود الجغرافية لوطنه.
إننا في أمس الحاجة إلى تنمية النظرة "الإنسانية العالمية الشاملة" في التعليم، وتطوير المفهوم "الإنساني" في التربية، وهذا المفهوم لا تستطيع "فلسفة" أو "أيديولوجية" مرتبطة بمكان وزمان معينين تنميته وتطويره.
إن منهج التربية في التصور الإسلامي دون مناهج الأرض كلها، هو الذي يستطيع تحقيق مفهوم "الإنسانية" في نفوس الناشئة، فتحقيق إنسانية الإنسان يتمشى مع إنسانية المنهج الإسلامي، وعالميته التي تقررت في القرآن في سورة هي من أوائل السور المكية، وهي سورة التكوير في قوله تعالى:{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} ، وتقررت في خطاب الله -سبحانه- لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] .
لقد جنت الإنسانية ثمار التأكيد على "المواطنة الضيقة" في صورة صراعات دولية، وحروب عالمية وإقليمية، واستعمار واحتلال لأراضي الآخرين، واغتصاب لحقوقهم، وتسخير لجهودهم في خدمة غيرهم، وإذلال لآدميتهم وإنسانيتهم.. إلخ.
إننا نعيش في عصر جديد تماما، عصر سبقت قوة الإنسان يقظة ضميره، عصر لا يملك الإنسان فيه القدرة على إدارة الصراعات والحروب العالمية أو الإقليمية، دون أن يمتد خطرها ودمارها إلى ما حولها، نحن -إذن- في عصر نحتاج
فيه إلى تنمية وتطوير مفهوم "الإنسانية" بمعناه العالمي الشامل، لا إلى تنمية مفهوم "المواطنة" بمعناه الضيق المحدود بحدود المكان والزمان.
فالوطنية الضيقة، وتربية المواطن المحدود في قيمه وولائه بين حدود دولته أثمر كثيرا من الشرور التي نعاني منها الآن، فمشكلة الحرب والسلام التي يتوقف عليها مصير البشرية كله، تشتد وطأتها، ويزداد غليانها كل يوم، حتى وصلت إلى مرحلة تنذر بالخطر الحقيقي، وما ذلك إلا لأنها تدار بيد "مواطنين" يريدون تسخير خيرات العالم كله لصالح شخصياتهم أو مواطنيهم على حساب الآخرين.
وحتى بعد أن ظهرت نظرية استحالة الحروب النووية الساحقة الماحقة لكل شيء على وجه الأرض فقد بدأ الصراع يتحول من الحرب والقتال إلى صراع النظم والنماذج الاجتماعية والاقتصادية والعقائدية، وبمعنى آخر، فالصراع قد تحول من ميادين القتال إلى بيوت الناس، ومدارسهم وعقولهم.
ولا نتجاوز إذا قلنا إنه لا عاصم لنا اليوم في عصر العولمة والكوكبة و"الكنتكة" و"المكدنة" إلا بالتمسك بالمنهج الذي كرم الإنسان، وحفظ له شخصيته المستقلة حين قال صلى الله عليه وسلم:"لا يكن أحدكم إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا ألا تظلموا".
إن الولاء للمواطن والوطنية الضيقة وليس "للإنسان" في كل مكان، هو الذي يعرض "السفينة العالمية" -إذا جاز هذا التشبيه- للخطر، فبعد ثورة الاتصالات وما ترتب عليها من تفجر معرفي أصبحت الكرة الأرضية كسفينة واحدة تتعرض لمخاطر جسيمة في عرض البحر. فيها من يشكو من التخمة، وفيها من يشكو من الجوع إلى حد الهلاك.
فيها من يعانون وفرة الإنتاج. فماذا يصنعون وكيف يختزنون الفائض الهائل من الحبوب واللحوم والزبد والجبن والخضر؟! وفيها المحاصرون الذين يموتون جوعا، ويرجون فتوى تجيز لهم أكل الميتة ولحوم البشر!
فيها الأغنياء الدائنون الذين يفرضون شروطهم، ويشرعون سياطهم، وفيها الفقراء المدينون الذين يخضعون لكل عمليات الابتزاز والاستغلال والظلم، فيها من يصنع سلاح الدمار ويبيعه ليزداد ثراء، وفيها من يشتري هذا السلاح ليقاتل به حتى الموت.
وهكذا.. تحدق الأخطار "بالسفينة العالمية" من كل جانب، بسبب الأنانية، والشره والظلم، والطائفية، والعنصرية، والاستغلال، بسبب الحضور القوي "للمواطن" والغياب المستمر "للإنسان".
إن منهج التربية في التصور الإسلامي هو وحده بين كل مناهج الأرض الذي لا يفرق بين البشر على أساس طبقي أو عنصري أو طائفي، وإنما يتوجه إلى قلوبهم وضمائرهم مباشرة، حيث يكمن "الإنسان"، الجوهر الفذ، الذي تتكون منه الإنسانية. وهو بذلك الملجأ الوحيد الباقي لإنقاذ البشرية من الهول الرهيب المحدق بها.
بناء على ما سبق، فإننا -فيما أرى- لا نحتاج إلى تربية "المواطن الصالح"، "فالمواطن الصالح" عادل، مجد، أمين، متواضع، قانع. في موطنه، لكنه عادة ما يتحول إلى ظالم، مستبد، غاصب، شره، في غير موطنه، وقد رأينا صور ذلك، وما زلنا نراها كل يوم.
وخلاصة القول: إن المدرسة الإنسانية في التربية قديمة قدم الإسلام، فبينما كل مناهج الأرض تلتقي على أن هدف التربية هو إعداد "المواطن الصالح" نجد أن منهج التربية في التصور الإسلامي يسعى لتحقيق هدف أشمل وأعمق وهو إعداد "الإنسان الصالح"، "الإنسان على إطلاقه، بمعناه الإنساني الشامل، الإنسان بجوهره الكامن في أعماقه، الإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث هو مواطن في هذه البقعة من الأرض أو من ذلك المكان"1.
والإنسان الذي يهدف منهج التربية إلى بنائه هو الإنسان الذي يستمد منهج حياته وشعوره وسلوكه من منهج الله، وهو بالجملة الإنسان الذي يفي بشروط الخلافة التي فضله بها خالقه على كثير ممن خلق، فينشط في عمارة الأرض، وفق منهج الله، مستغلا كل الطاقات وقوى الإدراك الممنوحة له.
مفهوما "المنهج" و"البرنامج":
مما سبق يتضح أن مفهوم "المنهج" يتضمن الجانبين: النظري والتطبيقي، أو الأسس والمكونات فالمدرسة الإنسانية التي تستخدم مفهوم "المنهج أو المنهاج" تؤمن بأن وراء كل سلوك فكرة أو نظرية تحركه بشكل معين وفي اتجاه معين، قال تعالى:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، فالمنهج أو المنهاج مفهوم ذو شقين: شق فلسفي اعتقادي، وشق اجتماعي تطبيقي، وبناء على ذلك فعندما نقول:"منهج" فهذا يعني الانطلاق من الأسس والمصادر الفلسفية والإنسانية والاجتماعية التي تنعكس على المكونات التطبيقية للمنهج ابتداء بالأهداف، فالمحتوى فطرائق وأساليب التدريس والتقويم والتطوير.
أما مفهوم "برنامج" فقد شاع على يد أنصار مدرسة علم النفس السلوكي، وأصحاب المدرسة المادية السلوكية، مثل واطسون واسكنر، وجثري وغيرهم ممن
1 محمد قطب: منهج التربية الإسلامية، الجزء الأول، بيروت، دار الشروق، الطبعة السادسة، 1402هـ-1982م، ص13.