الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والخلاصة أنه مما يشكل عظمة أمة الإسلام، وشرفها وامتيازها هو أن الله جعلها "أمة وسطا".. قائمة على الإيمان بالله والأخوة في الله.. داعية إلى الخير.. آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر.. أمة موحدة، متميزة بالتزامها بالقيام بمقتضيات كل هذا، وتبعاته، وتكاليفه.
لكن علاقة الأمة بالكون لا تستقيم أبدا ما دامت علاقتها بخالق الكون لا تسير في مسارها السليم، فعندها تفقد أمة حيثيات العظمة والشرف والامتياز التي أنيطت بها من قبل الله، فإنها تعزل عن قيادة الدنيا وزعامتها، كما حدث لبني إسرائيل عندما عزلهم الله عن القيادة وأسندها لأمة الإسلام، التي توافرت فيها هذه الحيثيات اللازمة لإمامة الدنيا، وإقامة منهج الله في الأرض، وهو الهدف النهائي الذي من أجله أنشئت الجماعة المسلمة الأولى بيد الله وعلى عينه.
إن المسلم المعاصر بحاجة إلى أن يكون قادرا على المساهمة بإيجابية وفاعلية في تحقيق هذه الأهداف التي بها تعلو أمة الإسلام كما كانت، وتقيم منهج الله في الأرض، إن ذلك هو ما تقتضيه خلافة الأرض.
11-
إعداد الإنسان للجهاد في سبيل الله:
لا بد من إدراك الأجيال لمفهوم الجهاد في سبيل الله، هل هو مجرد قتال الكافرين وحرب المعتدين، ودفاع عن المظلومين؟ أم أنه مفهوم أكبر وأشمل من كل هذا، إن مهمة مناهج التربية هي إيضاح هذا المفهوم نظريا وإعداد الإنسان -عمليا- لتطبيق مفهوم الجهاد بمعناه السليم، وهذا يعني ما يلي:
أولا: إن الإسلام هو رسالة السلام الحقيقية والعدل والطمأنينة. فالإسلام من السلام، وقد وضع للسلام، فتحية المسلمين ونهاية صلاتهم السلام، وتحيتهم في الجنة السلام، فالإسلام دين السلام:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16] .
والسلام الذي جاء الإسلام لإقراره في الأرض إنما جاء ليعالج ناحيتين هامتين، وبين للناس فيهما وجه الحق، وهاتان الناحيتان -كما يقول الشيخ حسن البنا- هما: الناحية الأخوية الإسلامية والناحية الأخوية الإنسانية العامة1. لقد جاء الإسلام فرأى الناس يتفاضلون ويتمايزون على أساس من اللحم والدم والقوم،
1 المرجع السابق، ص426.
والأرض والطين، فقرر أن هذا وهم باطل، وأن الناس جميعا لآدم، وآدم من تراب:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] .
ثانيا: إن الإسلام هو خاتم الرسالات الإلهية للإنسان، وقد جاء حينما بلغت البشرية سن الرشد. إن الاعتقاد بأن هذه الرسالة هي الخاتمة قد بث في الإنسان روح الثقة ببلوغه سن الرشد، وحفزه على التقدم في مضمار عمارة الأرض، وترقية الحياة على ظهرها، والاعتماد على العلم والتجربة في الحياة اليومية، فالإنسان ليس في حاجة اليوم إلى أن ينتظر وحيا جديدا من السماء فيرفع بصره إليها في حالة انتظار وترقب، وإنما حاجته اليوم أن يفكر وأن يستخدم مواهبه في استثمار طاقات الكون وكنوز الأرض لسعادته وترقية حياته. إن الاعتقاد بأن الرسالة المحمدية هي خاتمة الرسالات يبعث في الإنسان روح الطموح والتقدم، ويحثه على استخدام مواهبه بكفاءة، ويعين له المجال السليم لكفاحه وكدحه1.
إنه لولا هذا الاعتقاد لفقد الإنسان ثقته بنفسه، وبقي في ريب دائم، وظل شاخصا إلى السماء، بدلا من أن يعمر في الأرض، وفقد ثقته بمستقبله، وثارت شكوك وشبهات حوله، ووقع فريسة المتنبئين على الدوام!
ووظيفة الجهاد هنا هي الحفاظ على الرسالة الخاتمة. وتثبيت حاكميتها في الأرض، فهي ما نزلت إلا لتحكم الحياة، وتنظم شئون الناس على أساسها، ويعم خيرها البشرية جميعا. والجهاد حماية للرسالة الخاتمة من أصحاب الفلسفات والنظريات التي تنفي وجود الله أصلا، أو في أحسن الأحوال تجعل لله ملوكت السماء، وتتصرف هي في ملكوت الأرض!
الحقيقة أن الجهاد في الميدان ما هو إلا لون من ألوان الجهاد الكثيرة: فطلب العلم النافع الذي تعمر به الحياة وترقى جهاد في سبيل الله، لذلك كان رسوله صلى الله عليه وسلم يدعو ويقول:"اللهم علمني ما ينفعني، وانفعني بما علمتني". وكان عليه الصلاة والسلام يعتبر طالب العلم مجاهدا في سبيل الله: "من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع"[رواه الترمذي] .
ويربط الحق -سبحانه- التفقه في الدين -وهو قمة العلم- بالحركة الإيجابية الفاعلة: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
1 أبو الحسن علي الحسيني الندوي: النبوة والأنبياء في ضوء القرآن، الطبعة السادسة، دمشق، دار القلم، 1404هـ-1984م، ص244-245.
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . "إن المؤمنيون لا ينفرون كافة، ولكن ينفر من كل فرقة منهم طائفة -على التناوب- لتتفقه في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة، وتنذر الباقين من قومهم إذا رجعت إليهم بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة".
"وجهاد النفس لون من أشق ألوان الجهاد؛ لأنه جهاد ضد النفس الأمارة بالسوء، والهوى الغلاب، والغريزة الطاغية، والشهوة المنحرفة، والمواريث الساقطة، والتقاليد الهابطة، والعادات السيئة، والثقافات المنحرفة الوافدة"، والصبر على الفترات التي يعلو فيها الباطل وينتفش ويبدو كالمنتصر؛ والصبر على طول الطريق وبعد المشقة وكثرة العقبات في طريق محفوف بالمكاره.
إن هذا اللون من الجهاد هو الذي يحدث تفاعلا داخليا وخارجيا يتولد عنه إنسان متميز متبوعا لا تابعا، ورأسا لا ذليلا، ومغيرا بإرادته وطاقاته التي منحه الله إياها، وليس مجرد ترس في عجلة الحتمية التاريخية أو الحتمية المادية أو أية حتمية أخرى!
وحين يفقد الإنسان هذا اللون من جهاد النفس، فإنه يتحول إلى مسخ مشوه للإسلام ولكل الفلسفات والنظريات الأخرى، فتجد المسلم الاشتراكي، والمسلم الشيوعي، والمسلم الرأسمالي، والمسلم الوجودي، وهلم جرا..!
ومن أهم ألوان الجهاد المطلوبة اليوم، الجهاد الاجتماعي، أي: الجهاد من أجل تعديل أوضاع المجتمع المسلم التي انحرفت عن طريق الله. ويكون ذلك عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، إنه من الضروري أن نتعامل بإيجابية وفاعلية من أجل تصحيح الأوضاع الاجتماعية التي لا تستقيم مع منهج الله. فالاستغلال -ضد التوحيد- والتفاوت الاجتماعي البغيض ضد التوحيد. والجوع الكافر قد لا يترك للمرء لحظة يتذكر فيها الله، ولذلك كان التوحيد النقي دائما حربا على الجوع والاستغلال.
والاستبداد يتنافى مع منهج الله تماما، لأن الاستبداد في جوهره تقزيم للذات البشرية وحصر لدائرة تطلعاتها، وإنكار لمبدأ المساواة والعدالة بين الناس.. القهر السياسي يتصادم بالضرورة مع تكريم الله للإنسان؛ لأنه يحرم الإنسان من اكتشاف حقيقة الوجود، والاستقامة مع مقتضياتها، فالإنسان -حينئذ- يستبدل الخوف من الله بالخوف من البوليس، واستشعار رقابة الله، بالاحتياط من رقابة المخابرات1.
وإذا كان المجتمع الإنساني كله في كل مكان وزمان هو موضع للدعوة، والجهاد في سبيلها فإن ذلك يستوجب ضرورة أن يتسع مفهوم الجهاد طبقا لظروف المجتمع ومتطلبات العصر وحاجات الناس ومشكلاتهم، فهو ليس مجرد قتال من أجل الدعوة في ميدان القتال، وإنما هو أيضا جد في طلب العلم، وإحسان في العمل، وإحسان في تربية الأجيال، وبذل للنفس، وبذل للمال.. وهكذا كل نشاط تستقيم به حياة الإنسان على منهج الله، هو جهاد في سبيل الله.
1 علي أحمد مدكور: "الثقافة والحضارة في التصور الإسلامي ودورهما في محتوى المناهج التربوية "دراسات تربوية"، المجلد السابع، الجزء "41"، 1992م، ص57.