الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: طبيعة الحياة والمجتمع
مفهوم الحياة
…
الفصل الرابع: طبيعة الحياة والمجتمع
في هذا الفصل نتناول الأساس الثالث من أسس بناء مناهج التربية، وهو طبيعة الحياة والمجتمع، وسنحاول هنا الإجابة عن الأسئلة التالية: ما مفهوم الحياة؟ وما العلاقة بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة؟ وما مفهوم المجتمع، وما مكوناته؟ وما المعايير التي يجب أن توجه السلوك الفردي والجمعي في المجتمع؟ وكيف يتغير المجتمع، وما دور التربية في هذا؟ وما المبادئ التي يجب أن تراعيها مناهج التربية في كل كذلك.
مفهوم الحياة:
الحياة دنيا وآخرة، شهود وغيب، والحياة الدنيا هي دار التكليف والعمل وعمارة الأرض، والآخرة هي دار القرار، فيها يكون الثواب والعقاب على مقدار حسن الأداء في الدنيا.
والحياة الدنيا هي مجموع أنشطة الكائنات التي خلقها الله خلال أعمارها الزمنية، وعمارة الأرض، وترقية الحياة على ظهرها إنما تكون باستثمار ما أودعه الله في الكائنات من طاقات استثمارا صالحا، وتوجيه ألوان النشاط البشري لاستخدام تلك الطاقات بالرفق واللطف وفق منهج الله، وبذلك يتحقق التناسق والتكامل بين أنشطة الكائنات من إنسان، وحيوان، ونبات، وجماد في أعمارها الزمنية من أجل إعمار الحياة.
وكل شأن من شئون الحياة ينبغي أن يسير وفق منهج الله، فسياسة الاقتصاد والمال، ونظام السياسة، ونظام الأسرة، وجميع ألوان التشريعات المدنية والإدارية، يجب أن تسير وفق هذا المنهج حتى تكون الحياة إنسانية حقا، إن الضابط الوحيد للحركة البشرية، والتطورات الحيوية، حتى لا تمضي شاردة على غير هدي، هو أن تسير كل هذه الأوضاع وفق الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة، ومع
اعتبار الخبرات الإنسانية المتغيرة تبعا لمقتضيات الزمان والمكان والناس: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] .
تربية الإنسان وعمارة الأرض:
لا شك أن هناك علاقة ضرورية بين إعداد الإنسان وتربيته وفق منهج الله، وبين عمارة الأرض وترقية الحياة على ظهرها1. ويمكن تأصيل هذه العلاقة من عدة جوانب:
الجانب الأول: أن الله قد كرم الإنسان وجعله مفضلا على كثير من مخلوقاته: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] وسخر له كل ما في السموات وما في الأرض لخدمته: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] .
الجانب الثاني: أن الإنسان ليس مستهلكا فقط، بل هو منتج لنفسه ولغيره، فالأمة التي يعمل أبناؤها بجد وإتقان -ولا أقول يحسن أبناؤها العمل، فالإحسان في العمل أدق وأشمل من مجرد الجد والإتقان فيه- تكفي نفسها وتصدر فائض إنتاجها للآخرين من الجهلة والكسالى والمتواكلين، والأمثلة على ذلك كثيرة، فألمانيا بدأت من الصفر بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الآن من أقوى الدول اقتصاديا على الأقل، واليابانيون وصلوا بجدهم وإتقانهم إلى درجة أن حولوا العالم كله إلى سوق لتصريف منتجاتهم، وكوريا وهونج كونج وتايوان وغيرهم في سباق على نفس الطريق.
الجانب الثالث: هو أن الله قد أودع الإنسان طاقات كثيرة، منها ما هو ظاهر ومنها ما هو خفي، ليستخدمها في العمارة وترقية الحياة، كما أنه قد أودع الكون من الخيرات ما يكفي حاجة البشر وزيادة، وما الندرة النسبية للموارد الطبيعية إلا نتيجة للفقر في استخدام الطاقات الإنسانية بكفاءة وفاعلية في استخراج طاقات الكون، وكنوزه المذخورة فيه.
ويسود الحياة -عموما- نظامان متكاملان: نظام اجتماعي، ونظام بيئي، وهذا يحتم علينا ضرورة تحديد طبيعة المجتمع العربي، وطبيعة المعرفة التي يجب أن تسود هذا المجتمع، وفي هذا الفصل نفصل القول في القضية الأولى:
1 هذه العلاقة يشار إليها هذه الأيام عادة بـ"التربية والتنمية" وهي عبارة قاصرة عن إدراك المعاني التي نتحدث عنها هنا.