الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولقد أدى كل هذا إلى إهمال التنظير، فلا البحوث تبدأ من نظرية معينة، ولا هي تنتهي إلى بلورة نظرية خاصة بنا.. وبمرور الوقت نمت الاتجاهات المعادية للتنظير، على أساس أنه "كلام إنشائي" أو "عبارات خطابية"! "واعتبرت دراسة الماجستير والدكتوراه تدريبا على استخدام أدوات البحث، كأن التنظير لا يحتاج إلى تدريب، ولهذا اختلطت الأمور، واتجهت البحوث إلى معالجة الأعراض على أنها الأمراض، واهتمت بالموضوعات المحدودة الصغيرة، لأنها أكثر مناسبة لاستخدام أدوات البحث1.
والخلاصة: أن التصور الإسلامي لمناهج البحث العلمي لا يقف بمصادر المعرفة عند المنهج التجريبي وحده، إنه لا يهمله، ولا يقلل من شأنه ولا من شأن ثمراته المعرفية وإنجازاته التقانية الرائعة، فهو أحد ثمرات الحضارة الإسلامية الرائعة للإنسانية كلها. لكنه لا يقول بأنه السبيل الوحيد للمعرفة؛ فهناك المعرفة الربانية اليقينية المتمثلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهناك المنهج الاستقرائي الاستنباطي، وهناك المنهج العلمي للنظر العقلي، وهو منهج التفكير القائم على العلم والخبرة، وتمحيص الحقائق، وعدم التأثر بمقررات سابقة لا برهان عليها، وعدم الاعتماد على الظن، وطلب الدليل في كل اعتقاد.
1 المرجع السابق.
25-
إدراك الطلاب لمفهوم الفن والأدب:
الفنون تجارب شعورية نقلت إلينا عبر تجارب لفظية أو عملية بطريقة موحية. والتجارب الفنية هي تعبير عن تصور الفنان لحقائق الألوهية والإنسان والحياة. فإن كانت التجارب الفنية -أدبية كانت أو غير ذلك- متسقة مع التصور الإسلامي فهذه فنون إسلامية، وإن كانت غير ذلك فهي بحسب ذلك. والأدب في ذلك كالفنون الأخرى؛ حسنه حسن، وقبيحه قبيح. إن الفن الحقيقي إحياء للوقت وليس قتلا للوقت، وهو ثقافة فنية وليس مجرد تسلية.
ولقد يكون الأدب أشد المؤثرات في تكوين فكرة وجدانية عن الحياة، وفي طبع النفس البشرية بطابع خاص، ومن هنا يجب أن يكون لنا أدب نابع من التصور الإسلامي.
ومن العبث محاولة تجريد الأدب أو الفنون عامة من القيم التي تحاول الذود عنها، كذلك من العبث محاولة فصل تلك القيم عن التصور الكلي للوجود والحياة. ولو أفلحنا في هذا الفصل -وهذا مستحيل- فلن نجد سوى عبارات خاوية، أو جوفاء، أو أصوات غفل، أو إشكال بلا معنى.
والإسلام تصور معين للحياة، تنبثق منه قيم خاصة لها. فمن الطبيعي إذن أن يكون التعبير عن هذه القيم، أو عن وقعها في نفس الفنان، ذا لون خاص1.
وأهم خاصية للإسلام أنه عقيدة ضخمة جادة فاعلة خالقة منشئة، تملأ فراغ النفس والحياة، وتستنفد الطاقة البشرية في الشعور والعمل، وفي الوجدان والحركة، فلا تبقي فيها فراغا للقلق والحيرة، ولا للتأمل الضائع الذي لا ينشئ سوى الصور والتأملات.
وأبرز ما فيه هو الواقعية العملية حتى في مجال التأملات والأشواق، فكل تأمل هو إدراك أو محاولة لإدراك طبيعة العلاقات الكونية أو الإنسانية وتوكيد الصلة بين الخالق والمخلوق، أو بين مفردات هذا الوجود. وكل شوق هو دفعة لإنشاء هدف، أو لتحقيق هدف، مهما علا واستطال.
وقد جاء الإسلام لتطوير الحياة وترقيتها، لا للرضى بواقعها في زمان ما أو في مكان ما، ولا لمجرد تسجيل ما فيها من دوافع وكوابح، ومن نزعات وقيود، سواء في فترة خاصة أو في المدى الطويل.
مهمة الإسلام دائما أن يدفع بالحياة إلى التجديد والنمو والترقي، وأن يدفع بالطاقات البشرية إلى الإنشاء والانطلاق والارتفاع.
ومن ثم فالأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي للحياة، قد لا يحفل كثيرا بتصوير لحظات الضعف البشري، ولا يتوسع في عرضها، وبطبيعة الحال لا يحاول أن يبررها، فضلا عن أن يزينها بحجة أن هذا الضعف واقع، فلا ضرورة لإنكاره أو إخفائه.
إن الإسلام لا ينكر أن في البشرية ضعفا، ولكنه يدرك كذلك أن في البشرية قوة. ويدرك أن مهمته هي تغليب القوة على الضعف، ومحاولة رفع البشرية وتطويرها وترقيتها، لا تبرير ضعفها أو تزيينه.
والنظرية الإسلامية لا تؤمن بسلبية الإنسان في هذه الأرض، ولا بضآلة الدور الذي يؤديه في تجديد الحياة وترقيتها. ومن ثم فالأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي لا يهتف للكائن البشري بضعفه ونقصه وهبوطه، ولا يملأ فراغ مشاعره وحياته بأطياف اللذائذ الحسية، أو بالتشهي الذي لا يخلق إلا القلق والحيرة والحسد والسلب، إنما يهتف لهذا الكائن بأشواق الاستعلاء والطلاقة، ويملأ فراغ حياته ومشاعره بالأهداف البشرية التي تجدد الحياة وترقيها، سواء في ضمير الفرد أو في واقع الجماعة.
1 سيد قطب: نحو مجتمع إسلامي، مرجع سابق، ص65، 66.
كذلك ليست وظيفة هذا الأدب تزوير الشخصية الإنسانية أو الواقع الحيوي، وإبراز الحياة البشرية في صورة مثالية لا وجود لها. بل الصدق في تصوير المقدرات الكامنة أو الظاهرة في الإنسان، والصدق كذلك في تصوير أهداف الحياة اللائقة بعالم البشر، لا بقطيع من الذئاب.
والأدب أو الفن المنبثق من التصور الإسلامي أدب أو فن موجه باتجاه أن الإسلام حركة تجديد وترقية مستمرة للحياة، فهو لا يرضى بالواقع في لحظة أو جيل، ولا يبرره أو يزينه لمجرد أنه واقع، فمهمته الرئيسية تطهير هذا الواقع وتحسينه، والإيحاء الدائم بالحركة الخالقة المنشئة لصور متجددة من الحياة.
إنه لمن الأهمية بمكان "أن نقرر هنا أن الأدب أو الفن الإسلامي أدب أو فن موجه، موجه بطبيعة التصور الإسلامي للحياة وارتباطات الكائن البشري فيها، وموجه بطبيعة المنهج الإسلامي ذاته، وهي طبيعة حركية دافعة للإنشاء والإبداع، وللترقي والارتفاع. ولست أعني التوجيه الإجباري على نحو ما يفرضه أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ، وإنما أعني أن تكيف النفس البشرية بالتصور الإسلامي للحياة، هو وحده سيلهمها صورا من الفنون غير التي يلهمها إياها التصور المادي، أو أي تصور آخر، لأن التعبير الفني لا يخرج عن كونه تعبيرا عن النفس كتعبيرها بالسلوك في واقع الحياة.
وأخيرا فالإسلام لا يحارب الفنون ذاتها، ولكنه يعارض بعض التطورات والقيم "المنحرفة" التي تعبر عنها هذه الفنون. ويقيم مكانها -في عالم النفس- تصورات وقيما أخرى، قادرة على الإيحاء بحركات جمالية إبداعية، وعلى إبداع صور فنية أكثر جمالا وطلاقة، تنبثق انبثاقا ذاتيا من طبيعة التصور الإسلامي، وتتكيف بخصائصه.
ولا ينبغي أن نفهم من هذا تحريم الآداب الأوربية على الناشئة المسلمة. فالذي نعنيه هو مجرد الاختيار والانتقاء. ففي هذه الآداب ما تلتئم روحه من بعض الجوانب مع الروح الإسلامية، لا لأنه حث على الفضائل وتقبيح للرذائل، فالأدب ليس منبرا خطابيا للوعظ والإرشاد. ولكن لأنه ينظر إلى الحياة نظرة روحية أرفع من المادة، ولأنه يعترف بالقيم المعنوية للحياة. فهذا اللون من الأدب يتفق في روحه مع المنهج الإسلامي في عمومه. ويمكن دراسته مع حسن الاختيار.