الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مفهوم التربية:
الإنسان عبد الله وسيد الكون، وهو خليفة الله في الأرض، فهو مستخلف من الله فيها للعبادة، ومقتضى العبادة أن يسهم الإنسان -بإيجابية وفاعلية- في عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله، ولكي يقوم الإنسان بواجبات الخلافة على نحو رباني وإيجابي وواقعي، فلا بد من تربيته تربية إيمانية.
والتربية هنا عملية متشعبة، ذات نظم وأساليب متكاملة، تنبع من التصور الإيماني لحقائق الألوهية والكون والإنسان والحياة، وتهدف إلى إعداد الإنسان للقيام بحق الخلافة عن الله في الأرض، عن طريق إيصاله إلى درجة كماله التي هيأه الله لها.
وبالرجوع إلى الأصول اللغوية نجد أن لكلمة "التربية" أصولا لغوية ثلاثة:
أ- ربا يربو، بمعنى: زاد ونما: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] .
ب- ربا يربي، بمعنى: نشأ وترعرع.
جـ- رب يرب، بمعنى: أصلحه وتولى أمره، وساسه وقام على رعايته.
وقد اشتق بعض المفكرين المسلمين من هذه الأصول اللغوية تعريفا اصطلاحيا للتربية، قال الإمام البيضاوي في تفسيره "أنوار التنزيل وأسرار التأويل": الرب: في الأصل بمعنى التربية، وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا، ثم وصف به تعالى للمبالغة.
وفي كتاب "المفردات" للراغب للأصفهاني: "الرب: في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام".
وقد استند الأستاذ الباني1 من هذه الأصول اللغوية، ومما قاله البيضاوي والأصفهاني، أن التربية تتكون من مجموعة من العناصر، أهمها ما يلي:
1-
المحافظة على فطرة الناشئ ورعايتها.
2-
تنمية مواهبه واستعداداته كلها، وهي كثيرة ومتنوعة.
3-
إيصال كل مربي إلى درجة كماله الخاصة التي هيأه الله لها.
4-
توجيه هذه الفطرة وهذه المواهب للعمل في الأرض والقيام بحق الخلافة فيها عن الله.
5-
التدرج في هذه العملية، وهو ما يشير إليه البيضاوي بقوله:"شيئا فشيئا" والراغب الأصفهاني بقوله: "حالا فحالا..".
1 عبد الرحمن الباني: مدخل إلى التربية في ضوء الإسلام، المكتب الإسلامي، بيروت، 1403هـ-1983م، 7-14.
من هذه العناصر يمكن استخلاص مجموعة من النتائج الأساسية في فهم عملية التربية أهمها ما يأتي:
النتيجة الأولى: أن التربية عملية هادفة، فهي تهدف إلى تحقيق أغراض الإسلام ومقاصده في المتعلم، وفي مجتمعه.
النتيجة الثانية: أن المربي الحق على الإطلاق هو الله الخالق، خالق الفطرة، وواهب المواهب، الذي سن سننا وقوانين لنموها، وتدرجها، وتفاعلها
…
وشرع شرعا لتحقيق كمالها وصلاحها وسعادتها.
النتيجة الثالثة: أن عمل المربي تال وتابع لخلق الله وإيجاده، كما أنه تابع لمنهج الله وشريعته1.
النتيجة الرابعة: أن "التربية" هي حيثية إيماننا بالله، فنحن آمنا بالله معبودا لأننا آمنا به ربا، فنحن نوجه الحمد لصاحب النعمة قائلين:"الحمد لله" وحيثية ذلك أنه "رب العالمين".
النتيجة الخامسة: أن التربية تقتضي خططا متدرجة، تسير فيها الأعمال التربوية، وفق منهج منظم صاعد، ينتقل مع الناشئ من طور إلى طور، ومن مرحلة إلى أخرى، حتى يصل كل إلى درجة كماله الخاصة به.
التربية علم، وفن، وصناعة:
وإذا كانت التربية هي إيصال المربي إلى درجة الكمال التي هيأه الله لها، عن طريق مراعاة فطرته، وتنمية مواهبه، وقدراته وطاقاته -بطرق متدرجة، وتوجيهها للعمل في إعمار الحياة على عهد الله وشروطه، فإن ذلك كله يتم وفق وسائل وغايات العلم، والفن، والصناعة.
فالتربية علم "إخبار" من حيث إنها إخبار عن الحقائق الكلية، والمعايير والقيم الإلهية الثابتة، التي يتلقاها الإنسان، فيؤمن بها إيمان تسليم ويتكيف معها. وهي علم إخبار -أيضا- من حيث إنها معرفة بقوانين الله في الكون التي تم اكتشافها في الزمن الماضي.
والتربية علم "إنشاء" من حيث إنها محاولة للكشف عن "الحقيقة"، ومعرفة للقوانين والسنن التي خلق الله الكون عليها، والتي يكتشفها الإنسان من آن لآخر، كلما ارتقى في سلم المعرفة، فالتربية هنا علم من علوم البحث، ومناهج البحث التي تعين الإنسان على الاكتشاف والاختراع والإبداع، ويدخل فيها "العلم" في العلوم الإنسانية، التي تكتسب فيها المعرفة عن طريق الملاحظة، والتفكير، وإدراك العلاقات،
1 عبد الرحمن النحلاوي: أصول التربية الإسلامية وأساليبها في البيت والمدرسة والمجتمع، دار الفكر العربي، بدون تاريخ، ص12-14.
ويدخل فيها "العلم" في العلوم الطبيعية والكونية، الذي يهدف إلى الوصول إلى معرفة آيات الله وقوانينه بالملاحظة والتجربة والتطبيق من أجل إعمار الحياة وفق منهج الله.
إذن فالعلم وسيلة من وسائل التربية، وإذا كان ذلك كذلك، فإن من السفاهة المزرية جعل العلم أو العقل مصدرا للمعرفة، فالمصدر هو الله، ومن الجهل القول بأن العلم قد انتصر على الطبيعة أو قهرها، فالعلم ما هو إلا الوصول إلى القانون الطبيعي الذي طبع الله الكون عليه، والطبيعة ما خلقها الله لتقهر، بل لتكون في خدمة الإنسان، والإنسان لا يستطيع أن يقهرها، ولكنه يستطيع أن يتلطف معها بالتعرف على قوانين الله فيها، واستثمار ذلك في عمارة الأرض، وترقية الحياة على ظهرها وفق منهج الله، وهذه مهمة المناهج التربوية.
والتربية "فن"، وعندما نتكلم عن التربية كفن، فإننا لسنا بإزاء مجرد الإخبار عن واقع، أو الكشف عن حقيقة، ولسنا بإزاء مجرد تحقيق أهداف عملية لسد حاجتنا الإنسانية، وإنما نحن أيضا أمام تحقيق أهداف تتصل بتحسين الحياة وترقيتها وتجميلها كما يقول الإمام الشاطبي، فالفن تعبير موح هادف عن تجارب إنسانية منبثقة عن التصور الإيمان للكون والإنسان والحياة، فهو ذو أثر يمتع أنفسنا ويغني حياتنا، ويزيح عنا آثار البلادة والرتابة التي تصيبنا نتيجة اتصالنا الدائم بقبضة الطين التي هي جزء من طبيعتنا.
والتربية كفن، تهدف إلى الوصول بالمربي إلى درجة الإتقان أو الإحسان في الأداء، فقيمة كل إنسان بما يحسن، والوصول بالإنسان إلى درجة أن يكون محسنا، هو أعلى درجات الفن، وأرقى ما يهدف إليه العمل التربوي.
والتربية "صناعة"، فقد عقد ابن خلدون فصلا في "مقدمته" بعنوان:"فصل في أن التعليم للعلم من جملة الصنائع"، فالتربية عملية ذات قواعد وأصول، وهي تسير وفق منهج لتحقيق أهداف معينة، والتربية -بهذا المعنى- مهة أو صناعة تهدف إلى إقدار المتعلم على عمل معين، بحيث يتناوله بالتغيير والتعديل والتطوير والمعالجة ليصير على شكل معين.
وبهذا المعنى تكلم ابن خلدون عن التعليم باعتباره صناعة أو مهنة ذات مهمة عملية لها أصولها وقواعدها المحكمة التي تتحقق بمراعاتها أهداف المجتمع الإنساني ومقاصده.
بين التربية والتعليم:
إذن "فالتربية" -كما سبق أن رأينا- هي عملية تهدف إلى إيصال المربي إلى درجة الكمال التي هيأه الله لها، فهي تشمل جميع جوانب النفس الإنسانية، أي:
جميع جوانب الشخصية الإنسانية، وهي تستعين بوسائل منها "التعليم" فالتعليم وسيلة للتربية، ومدلوله أضيق من مدلولها؛ لأنه مرتبط بموضوع معين.
و"التعليم" قد يهدف إلى تحصيل المعرفة، أو إلى التدريب على مهارة، أو إلى حفظ نص من النصوص الأدبية، أو قانون من القوانين الرياضية أو الطبيعية، و"التربية" تتخذ كل ذلك وسيلة لتربية المشاعر، وتنمية الإحساس بالذوق والجمال في الكون الذي صنعه الله، وتربية الضمير والوجدان، وتربية الإرادة الحرة الواعية، والقيم الإيمانية والقيم الخلقية النابعة منها، وأنماط السلوك التابعة لها.
ومع ذلك "فإن كل عمل تعليمي جيد لا بد أن يكون له هدف تربوي.. أي: أن التعليم المثالي إنما هو تربية، ولكنه -في الاصطلاح- يظل مرتبطا "بموضوع ما"، في حين أن التربية تتناول النفس الإنسانية أو الشخصية الإنسانية كلها.
إذن فالتربية والتعليم ليسا متعارضين ولا منفصلين، بل هما متآزران ومتكاملان، ويترتب على هذه العلاقة تطبيقات كثيرة في تخطيط المناهج وتطويرها، وفي إعداد الكتب وتصميم الوسائل، واختيار طرق ووسائل التدريس والتقويم، وممارسة العمل التربوي عموما مع الناشئين في البيت والمدرسة والمجتمع.
الأصالة والمعاصرة في التربية:
لا شك أن مفهوم الأصالة والمعاصرة يختلف من منظومة حضارية إلى منظومة حضارية أخرى، ففي المعاجم العربية نجد أن الأصالة في الرأي: جودته والأصالة في الأسلوب: ابتكاره، والأصالة في النسب: عراقته، وأصل الشيء: أساسه الذي يقوم عليه، ومنشؤه الذي ينبت منه، وأصول العلم: قواعده التي تبنى عليها أحكامه، وبناء على ذلك فالأصالة في التربية اعتمادها على القواعد والأسس الأصيلة التي تقوم عليها، والأرض التي تنبت فيها، وأصالة التربية تعني أن يجيء التفكير التربوي بجميع ألوانه وأنماطه متسقا مع التصور الإيماني لحقيقة الألوهية وحقيقة الكون، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الحياة، فهذه هي القواعد التي تقيم نظم التربية وتهدي إلى مثلها، وطرائقها وأساليبها.
أما المعاصرة في التربية، فهي تحقيق التربية لأهدافها في زمن معين وفق معطيات الزمان والمكان وحاجات الناس في ذلك الزمن، ومع استخدام ما توافر لها من الوسائل والأدوات في ذلك الزمن.
وتتخذ النظم التربوية من هذا المفهوم للمعاصرة أحد الموقفين التاليين: فبعض النظم التربوية تجعل من "المعاصرة" معيارا أساسيا، فتتغير تغيرا كبيرا من