الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْحَجُّ، وَلَوْ كَانَتْ لَهُ صَنْعَةٌ تَقُومُ بِهِ وَلَكِنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ اُعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ وُجُودُ الرَّاحِلَةِ انْتَهَى.
[تَنْبِيهَاتٌ حَجُّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْمَشْيِ]
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْمَشْيِ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَشْيُ مِنْ شَأْنِهِ وَعَادَتِهِ، وَهَكَذَا قَالَ اللَّخْمِيُّ وَسَيَأْتِي الْخِلَافُ فِيهِ فِي التَّنْبِيهِ الَّذِي بَعْدَهُ.
(الثَّانِي) يُشْتَرَطُ فِي الصَّنْعَةِ الَّتِي يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ مَعَهَا أَنْ لَا تَزْرِيَ بِهِ قَالَ اللَّخْمِيُّ: قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى مَكَّةَ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ بِذِلَّةٍ يَخْرُجُ بِهَا عَنْ عَادَتِهِ لَزِمَهُ الْحَجُّ، قَالَ اللَّخْمِيُّ: أَمَّا الْخُرُوجُ عَنْ عَادَتِهِ فِي الْمَشْيِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَادَتَهُ وَشَأْنَهُ فَغَيْرُ مُرَاعَى وَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ وَالصَّحَابَةُ يَعُدُّونَ ذَلِكَ شَرَفًا وَإِنْ أَرَادَ التَّكَفُّفَ وَالسُّؤَالَ فِيمَنْ لَيْسَ ذَلِكَ شَأْنُهُ فَحَسَنٌ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: " بِذِلَّةٍ " مُتَعَلِّقٌ بِتَكَلُّفٍ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَفِي كَوْنِ قُدْرَةِ غَيْرِ مُعْتَادِ الْمَشْيِ عَلَيْهِ اسْتِطَاعَةً، قَوْلَا اللَّخْمِيِّ وَالْبَاجِيِّ مَعَ الْقَاضِي انْتَهَى.
((قُلْتُ)) وَافَقَهُمَا صَاحِبُ الطِّرَازِ فَإِنَّهُ ذَكَرَ كَلَامَ الْقَاضِي ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: وَاَلَّذِي قَالَهُ بَيِّنٌ فَإِنْ قِيلَ: الْمَشْيُ فِي الْحَجِّ فَضِيلَةٌ، قُلْنَا: نَعَمْ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ وَالْقَاضِي تَكَلَّمَ فِيمَا يَلْزَمُ انْتَهَى.
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا وَفِي مَنَاسِكِهِ اللُّزُومُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَادًا كَمَا قَالَ اللَّخْمِيُّ، وَأَمَّا كَوْنُ الصِّنَاعَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا يُعْتَبَرُ فِيهَا أَنْ لَا تَزْرِيَ بِهِ فَظَاهِرٌ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ: أَمَّا مَنْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ وَهُوَ حَاجٌّ وَلَا يَزْرِي ذَلِكَ بِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) تَقْيِيدُهُ هُنَا الْأَعْمَى بِوُجُودِ الْقَائِدِ وَإِدْخَالُهُ عَلَيْهِ الْكَافَ أَحْسَنُ مِنْ تَرْكِهِ الْأَمْرَيْنِ فِي مَنَاسِكِهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ وَلَكِنْ يُحْمَلُ كَلَامُهُ هُنَاكَ عَلَى مَا قَالَ هُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الرَّابِعُ) إذَا قَدَرَ أَنْ يَمْشِيَ بَعْضَ الطَّرِيقِ وَيَرْكَبَ الْبَعْضَ وَوَجَدَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا لَزِمَهُ الْحَجُّ قَالَهُ فِي الطِّرَازِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
(الْخَامِسُ) إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الرُّكُوبِ عَلَى الْقَتَبِ وَالزَّامِلَةِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ اُعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ وُجُودُ الْمَحْمَلِ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ قَالَ: وَلَوْ لَحِقَتْهُ الْمَشَقَّةُ الْعَظِيمَةُ فِي رُكُوبِ الْمَحْمَلِ أَيْضًا اُعْتُبِرَ فِي حَقِّهِ وُجُودُ الْكَنِيسَةِ انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ الشَّافِعِيُّ: وَالْكَنِيسَةُ كَمَا قَالَ الْمُطَرِّزِيُّ شِبْهُ الْهَوْدَجِ انْتَهَى. وَقَالَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ: وَهِيَ أَعْوَادٌ مُرْتَفِعَةٌ بِجَوَانِبِ الْمَحْمَلِ عَلَيْهِ سِتْرٌ يَدْفَعُ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ وَيُسَمَّى فِي الْعُرْفِ مَجْمُوعُ ذَلِكَ مَحَارَةٌ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْكُنُسِ وَهُوَ السِّتْرُ، وَمِنْهُ رحمه الله {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 16] أَيْ الْمَحْجُوبَةِ انْتَهَى.
(السَّادِسُ) أَطْلَقَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ فِي وُجُوبِ تَحْصِيلِ الْمَرْكُوبِ بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَمْ يُقَيِّدُوا ذَلِكَ بِوُجُودِهِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَأُجْرَةِ الْمِثْلِ وَقَيَّدَهُ غَيْرُهُمْ بِأَنْ يَحْصُلَ ذَلِكَ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَأُجْرَةِ الْمِثْلِ، كَمَا نَقَلَهُ ابْنُ جَمَاعَةَ فِي مَنْسَكِهِ الْكَبِيرِ وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إذَا طُلِبَ مِنْهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَنَصُّ ابْنِ جَمَاعَةَ وَحَيْثُ اعْتَبَرْنَا الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَرْكُوبِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فَالْمُرَادُ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ أَنْ يَمْلِكَهُ أَوْ يَتَمَكَّنَ مِنْ تَمَلُّكِهِ أَوْ اسْتِئْجَارُهُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ أَوْ زِيَادَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَقَالَ فِي الزَّادِ: وَقَالَ الْمَالِكِيَّةُ: إنَّهُ يَحْصُلُ ذَلِكَ بِشِرَاءٍ وَأَطْلَقُوا وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَا يَصْرِفُهُ فِي ذَلِكَ فَاضِلًا عَمَّا يُشْتَرَطُ كَوْنُ الزَّادِ فَاضِلًا عَنْهُ وَسَيَأْتِي بَيَانَهُ انْتَهَى.
وَقَالَ فِي الزَّادِ: وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ غَيْرَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا عَنْ قَضَاءِ دَيْنٍ عَلَيْهِ حَالٌّ أَوْ مُؤَجَّلٌ وَأَطْلَقَ الْحَنَفِيَّةُ اشْتِرَاطَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَاضِلًا عَنْ الدُّيُونِ وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إذَا كَانَ مَالُهُ دَيْنًا يَتَيَسَّرُ تَحْصِيلُهُ فِي الْحَالِ فَهُوَ كَالْحَاصِلِ فِي يَدِهِ وَإِلَّا فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي مَنْسَكِهِ: فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى مَكَّةَ إمَّا رَاجِلًا أَوْ رَاكِبًا بِشِرَاءٍ أَوْ كِرَاءٍ فَقَدْ لَزِمَهُ فَرْضُ الْحَجِّ انْتَهَى.
(السَّابِعُ) قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي التَّهْذِيبِ: رَأَيْت لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مِنْ تَمَامِ الِاسْتِطَاعَةِ وُجُودُ الْمَاءِ فِي كُلِّ مَنْهَلٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ لِكُلِّ أَحَدٍ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُهُ فِي كُلِّ مَنْهَلٍ لَا دُفْعَةٍ وَاحِدَةٍ
كَالزَّادِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّادِ حَيْثُ اُعْتُبِرَ دُفْعَةً وَاحِدَةً هُوَ أَنَّ الْعَادَةَ فِي الزَّادِ أَنْ يُحْمَلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً لِطُولِ الطَّرِيقِ، وَالْمَاءُ إنَّمَا يُحْمَلُ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ وَأَيْضًا لِحَمْلِ الزَّادِ دُفْعَةً لَا يُشَقُّ، وَفِي حَمْلِ الْمَاءِ لِطُولِ الطَّرِيقِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ وَمُؤْنَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ الْمَاءَ أَكْثَرَ مِنْ الزَّادِ فَيَشُقُّ حَمْلُهُ فَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَ وُجُودُهُ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ كَلَامٌ مُسْتَقِيمٌ فَاعْلَمْهُ، انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَوْضِيحِهِ بِلَفْظٍ، وَنَقَلَ عَبْدُ الْحَقِّ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ وُجُودُ الْمَاءِ فِي كُلِّ مَنْهَلٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِلَفْظٍ وَصَوَّبَ عَبْدُ الْحَقِّ قَوْلَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ وُجُودُ الْمَاءِ فِي كُلِّ مَنْهَلٍ. وَنَقَلَهُ الْجُزُولِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ بِلَفْظٍ مِنْ شَرْطِ الْحَجِّ أَنَّهُ يَجِدُ الْمَاءَ فِي كُلِّ مَنْهَلٍ، قَالَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلْمَذْهَبِ وَنَقَلَهُ التَّادَلِيُّ وَالْأَقْفَهْسِيُّ وَالْبَرْزَلِيُّ وَقَبَلُوهُ، قَالَ الْبُرْزُلِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَعْنِي ابْنَ عَرَفَةَ: وَلِهَذَا لَمْ يَحُجَّ أَكْثَرُ شُيُوخِنَا لِكَوْنِ الْمَاءِ يَتَعَذَّرُ غَالِبًا فِي بَعْضِ الْمَنَاهِلِ، وَحَكَاهُ فِي الشَّامِلِ بِقِيلَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَضْعِيفَهُ، وَأَنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ وَكَلَامُ الْجَمَاعَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ يَقْتَضِي اعْتِمَادَهُ وَأَنَّهُ الْمَذْهَبُ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْمَنَاهِلِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِوُجُودِ الْمَاءِ فِيهَا غَالِبًا لَا وُجُودُهُ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فَتَأَمَّلْهُ، وَقَالَ الْأَبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ قُلْت: وَمَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ وُجُودُ الْمَاءِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ لَا يُرِيدُ بِهِ مَنْزِلَ كُلَّ يَوْمٍ إنَّمَا يُرِيدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَيْهِ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: فِي كُلِّ مَنْزِلٍ، يَعْنِي الْمَنْهَلَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ عَبْدِ الْحَقِّ حَيْثُ عَبَّرَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ بِالْمَنْهَلِ وَفِي آخِرِهِ بِالْمَنْزِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (وَإِنْ بِثَمَنِ وَلَدِ زِنًا)
ش: يَعْنِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الِاسْتِطَاعَةِ هُوَ إمْكَانُ الْوُصُولُ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ وَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ الْإِمْكَانُ بِثَمَنِ مَمْلُوكٍ لِلْمُكَلَّفِ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَمْلُوكُ وَلَدَ زِنًا؛ لِأَنَّ ثَمَنَ وَلَدِ الزِّنَا حَلَالٌ لِمَالِكِهِ لَا شُبْهَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ وَإِثْمُ الزِّنَا عَلَى أَبَوَيْهِ، وَإِنَّمَا نَبَّهَ عَلَى هَذَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ كَوْنَ الْوَلَدِ نَاشِئًا عَنْ الزِّنَا مَانِعٌ مِنْ الْحَجِّ بِثَمَنِهِ وَلِأَنَّ كَلَامَ ابْنِ رُشْدٍ الْآتِي يَقْتَضِي أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ لَا يَحُجَّ بِهِ، يَعْنِي مِمَّنْ يَمْلِكُ غَيْرُهُ كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَفِي الْعُتْبِيَّةِ فِي رَسْمِ الْمُحْرِمِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ وَفِي كِتَابِ الْجَامِعِ أَيْضًا، وَلَفْظُ الرِّوَايَةِ سُئِلَ مَالِكٌ هَلْ يَحُجُّ بِثَمَنِ وَلَدِ الزِّنَا؟ قَالَ: أَلَيْسَ مِنْ أَمَتِهِ وَلَدَتْهُ مِنْ زِنًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ بِثَمَنِ وَلَدِ الزِّنَا وَأَنَّهُ يُعْتَقُ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْبَابُ عِنْدَهُ غَيْرَ ذَلِكَ وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْهُ فِي سَمَاعِهِ مِنْ كِتَابِ الْعِتْقِ أَنَّهُ اُسْتُحْسِنَ أَنْ لَا يُعْتَقَ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] وَإِنَّمَا مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ مَنْعِهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ» وَحَدِيثِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زَانِيَةٍ» وَحَدِيثِ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عَنْ عِتْقِهِ قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِ نَعْلَانِ يُعَانُ بِهِمَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا» وَلَيْسَتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى ظَاهِرِهَا فَإِنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا قَالَهُ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ كَانَ يُؤْذِيهِ وَبِذَلِكَ فَسَّرَتْهُ عَائِشَةُ رضي الله عنها لَمَّا بَلَغَهَا مَا حَدَّثَ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا هُرَيْرَةَ أَسَاءَ سَمْعًا فَأَسَاءَ إجَابَةً.
وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: بَلْ هُوَ خَيْرُ الثَّلَاثَةِ قَدْ أَعْتَقَهُ عُمَرُ وَلَوْ كَانَ خَبِيثًا مَا فَعَلَ وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِمَا اقْتَرَفَهُ أَبَوَاهُ وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَاهُ: إنَّهُ حَدَثَ عَنْ شَرِّ الثَّلَاثَةِ أَبَوَاهُ وَالشَّيْطَانُ لَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ شَرٌّ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ الزِّنَا حَتَّى نُسِبَ إلَيْهِ كَمَا يُنْسَبُ إلَى الشَّيْءِ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ حَتَّى يُقَالُ لِلْمُتَحَقِّقِينَ بِالدُّنْيَا: الْعَامِلِينَ لَهَا أَبْنَاءُ الدُّنْيَا، وَلِمَنْ أَكْثَرَ مِنْ السَّفَرِ: ابْنُ السَّبِيلِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ انْتَهَى مُخْتَصَرًا.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) لَفْظُ الرِّوَايَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجُوزُ الْحَجُّ بِثَمَنِ وَلَدِ الزِّنَا إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ وَهَذَا إذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ
وَهُوَ الظَّاهِرُ وَقَالَ الْبِسَاطِيُّ: لَوْ تَرَكَ يَعْنِي الْمُصَنِّفَ خُشُونَةَ هَذَا اللَّفْظِ فِي مِثْلِ الْحَجِّ لَكَانَ أَحْسَنَ اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ هُوَ الْأَحْسَنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) قَوْلُ ابْنِ رُشْدٍ وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْبَابُ عِنْدَهُ غَيْرَ ذَلِكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى عِتْقِهِ وَإِلَى الْحَجِّ بِثَمَنِهِ وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَنْ يَمْلِكُ غَيْرَهُ كَمَا ذَكَرْنَا وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْحَجِّ غَيْرَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى عِتْقِهِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَلِيهِ فَتَأَمَّلْهُ.
(الثَّالِثُ) قَوْلُ ابْنِ رُشْدٍ أَيْضًا وَإِنَّمَا مَنْعُ ذَلِكَ مَنْ مَنَعَهُ يَقْتَضِي أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ مَنَعَ مِنْ عِتْقِهِ، وَنَحْوُهُ لِلْقَاضِيَّ عَبْدِ الْوَهَّابِ وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ فِي الْمَذْهَبِ بَلْ وَلَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ مِنْ غَيْرِهِ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي أَوَاخِرِ سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الْعِتْقِ: وَأَمَّا وَلَدُ الزِّنَا فَعِتْقُهُ جَائِزٌ فِي الْكَفَّارَةِ بِإِجْمَاعٍ مِنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: هُوَ قَوْلُنَا وَقَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَحَكَى عَنْ قَوْمٍ مَنْعَ ذَلِكَ انْتَهَى.
(الرَّابِعُ) حَدِيثُ وَلَدِ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَتَأَوَّلَهُ الْخَطَّابِيُّ بِمَا ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ أَبَوَيْهِ كُلٌّ مِنْهُمَا يُنْسَبُ إلَى أَبَوَيْنِ وَهُوَ لَا يُنْسَبُ إلَى أَبٍ وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ: إنَّهُ شَرُّ الثَّلَاثَةِ إذَا عَمِلَ بِعَمَلِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَالْمُرَادُ أَنَّهُ إذَا أَعْلَمَتْهُ أُمُّهُ أَنَّهُ وَلَدُ زِنًا أَوْ عَلِمَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ حَالٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُفَّ عَنْ الْمِيرَاثِ مِنْ نَسَبِ أَبِيهِ وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَإِلَّا كَانَ شَرُّ الثَّلَاثَةِ قَالَ: وَقَدْ تَأَوَّلَ الْحَدِيثَ عَلَى وُجُوهٍ هَذَا أَقْرَبُهَا إلَى الصَّوَابِ وَفِي آخَرِ كِتَابِ الزِّنَا مِنْ النَّوَادِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ إنَّمَا قِيلَ: شَرُّهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَوْ كَانَ شَرَّهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَا انْتَظَرَ بِأُمِّهِ أَنْ تَضَعَ وَقَالَ عُمَرُ أَكْرِمُوا وَلَدَ الزِّنَا وَأَحْسِنُوا إلَيْهِ. وَقَالَ أَيْضًا أَعْتِقُوا أَوْلَادَ الزِّنَا وَأَحْسِنُوا إلَيْهِمْ وَاسْتَوْصُوا بِهِمْ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُوَ عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ اللَّهِ إنْ أَحْسَنَ جُوزِيَ وَإِنْ أَسَاءَ عُوقِبَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: وَلَدُ الزِّنَا خَيْرُ الثَّلَاثَةِ إذَا اتَّقَى اللَّهَ فَقِيلَ لَهُ: إنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ شَرُّ الثَّلَاثَةِ، قَالَ: هَذَا شَيْءٌ قَالَهُ كَعْبٌ لَوْ كَانَ شَرَّ الثَّلَاثَةِ لَمْ يُنْتَظَرْ بِأُمِّهِ وِلَادَتُهُ.
وَحَدِيثُ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زِنْيَةٍ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ حِبَّانَ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَإِنَّ مُجَاهِدًا لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَعَمَ ابْنُ طَاهِرٍ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ، قَالَ الْحَافِظُ السَّخَاوِيُّ وَلَيْسَ بِجَيِّدٍ قَالَ: وَقَالَ شَيْخُنَا يَعْنِي ابْنَ حَجَرٍ: قَدْ فَسَّرَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ إذَا عَمِلَ بِعَمَلِ أَبَوَيْهِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَنْ يُوَاظِبُ عَلَيْهِ كَمَا يُقَالُ لِلشُّهُودِ بَنُو صُحُفٍ، وَلِلشُّجْعَانِ بَنُو الْحَرْبِ وَلِأَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ بَنُو الْإِسْلَامِ، وَالْحَدِيثُ الثَّالِثُ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ مِنْ سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ مَوْلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَفْظُهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ وَلَدِ الزِّنَا فَقَالَ: نَعْلَانِ أُجَاهِدُ فِيهِمَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ وَلَدَ الزِّنَا» وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَأَنْ أُحْمَلَ عَلَى نَعْلَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ وَلَدَ الزِّنَا وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: وَلَدُ زِنْيَةٍ هُوَ بِكَسْرِ الزَّايِ وَفَتْحِهَا، وَيُقَالُ أَيْضًا: وَلَدَ لِغَيَّةٍ فَاللَّامُ الْجَرِّ وَفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا وَوَلَدَ فِعْلٌ مَاضٍ، وَيُقَالُ فِي ضِدِّهِ وَلَدَ شِرَّةٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا.
(الْخَامِسُ) قَالَ فِي الشَّامِلِ: وَقِيلَ بِثَمَنِ كَلْبٍ يُشِيرُ بِهِ لِقَوْلِ سَحْنُونٍ فِي الْكَلْبِ: أَبِيعُهُ وَأَحُجُّ بِثَمَنِهِ. وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ بَيْعِهِ وَقَدْ شَهَرَهُ بَعْضُهُمْ لَكِنَّ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْبَيْعِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَالْمَعْلُومُ وَعَلَيْهِ فَلَوْ بِيعَ فَرَوَى أَشْهَبَ يُفْسَخُ إلَّا أَنْ يَطُولَ وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ يُفْسَخُ وَإِنْ طَالَ وَصَدَّرَ فِي الشَّامِلِ بِالْأَوَّلِ وَعَطَفَ الثَّانِيَ بِقِيلَ فَعَلَى أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ مَعَ الطُّولِ إذَا بَاعَهُ وَطَالَ الْأَمْرُ لَزِمَهُ أَنْ يَحُجَّ بِثَمَنِهِ، وَلَوْ قَتَلَهُ شَخْصٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَكَانَتْ حَلَالًا لِمَالِكِهِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِهَا إنْ كَانَ فِيهَا كِفَايَةٌ أَوْ كَمَّلَ بِهَا مَا عِنْدَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْكَلْبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا
خِلَافَ فِي عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ ثَمَنُهُ وَأَنَّهُ لَا قِيمَةَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (أَوْ مَا يُبَاعُ عَلَى الْمُفَلَّسِ)
ش: هَذَا مُفَرَّعٌ عَلَى الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ وَيَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شُرُوطِ الِاسْتِطَاعَةِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ الدَّنَانِيرِ أَوْ الدَّرَاهِمِ مَا يَصْرِفُهُ فِي حَجِّهِ بَلْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ عُرُوضِهِ مَا يَبِيعُ الْقَاضِي عَلَى الْمُفَلَّسِ مِنْ رُبْعٍ وَعَقَارٍ وَمَاشِيَةٍ وَخَيْلٍ وَدَوَابَّ وَسِلَاحٍ وَمُصْحَفٍ وَكُتُبِ الْعِلْمِ وَفِي كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بَيْعُهَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا وَسَيَأْتِي كَلَامُهُ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ أَوْ بِافْتِقَارِهِ وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ كُتُبَ الْعِلْمِ تُبَاعُ عَلَى الْمُفَلِّسِ وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا وَيُبَاعُ عَلَيْهِ أَيْضًا ثِيَابٌ جَمَعْته إنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا وَكَانَ فِي ثَمَنِهَا مَا يَحُجُّ بِهِ أَوْ مَا يُكْمِلُ مَا يَحُجُّ بِهِ، وَالْمُفَلَّسُ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ أَفْلَسَ الْقَاضِي الْغَرِيمَ يُفَلِّسُهُ تَفْلِيسًا إذَا حَكَمَ بِفَلَسِهِ، قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: وَالتَّفْلِيسُ الْعَدَمُ، وَالتَّفْلِيسُ خَلْعُ الرَّجُلِ مِنْ مَالِهِ لِغُرَمَائِهِ، وَالْمُفَلَّسُ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُفَلَّسِ انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (أَوْ بِافْتِقَارِهِ أَوْ تَرْكِ وَلَدِهِ لِلصَّدَقَةِ إنْ لَمْ يَخْشَ هَلَاكًا)
ش: يَعْنِي أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَ الْمُكَلَّفِ مَا يَكْفِيهِ لِسَفَرِهِ لَكِنْ إذَا سَافَرَ وَحَجَّ يَبْقَى فَقِيرًا لَا شَيْءَ لَهُ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: الْمَشْهُورُ الْوُجُوبُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا يَئُولُ إلَيْهِ أَمْرُهُ انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ وَمَعَهُ مَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهِمْ فَإِذَا حَجَّ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَيْءٌ بِأَنْ يَتْرُكَهُمْ فِي الصَّدَقَةِ يَأْكُلُونَ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَيَتْرُكُهُمْ لِلصَّدَقَةِ أَنَّهُ يَصَدَّقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ إلَّا أَنْ يَخْشَى الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى أَوْلَادِهِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ حِينَئِذٍ الْفَرْضُ، فَقَوْلُهُ: إنْ لَمْ يَخْشَ هَلَاكًا، رَاجِعٌ لِلْمَسْأَلَتَيْنِ مَعًا، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي سَمَاعِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ وَنَصُّهُ سَأَلَ ابْنُ الْقَاسِمِ مَالِكًا عَنْ الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الْقَرْيَةُ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا أَيَبِيعُهَا فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَيَتْرُكُ أَوْلَادَهُ لَا شَيْءَ لَهُمْ يَعِيشُونَ بِهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ وَلَدَهُ فِي الصَّدَقَةِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مِنْ أَنَّ الرَّجُلَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَبِيعَ ضَيْعَتَهُ فِي الْحَجِّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ مِنْ مَالِهِ فِي الْحَجِّ مَا يَبِيعُهُ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ فِي الدَّيْنِ وَأَمَّا قَوْلُهُ وَيَتْرُكُ وَلَدَهُ فِي الصَّدَقَةِ فَمَعْنَاهُ إذَا أَمِنَ عَلَيْهِمْ الضَّيْعَةَ وَلَمْ يَخْشَ عَلَيْهِمْ الْهَلَاكَ إنْ تَرَكَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ فِي مَالِهِ كَمَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْحَجَّ فِيهِ فَهُمَا حَقَّانِ لِلَّهِ تَعَيَّنَا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ، فَإِذَا ضَاقَ عَنْهُمَا وَلَمْ يُحْمَلْ إلَّا أَحَدُهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْدَأَ بِنَفَقَةِ الْوَلَدِ لِئَلَّا يَهْلَكُوا؛ لِأَنَّ خَشْيَةَ الْهَلَاكِ عَلَيْهِمْ تُسْقِطُ عَنْهُ فَرْضَ الْحَجِّ كَمَا لَوْ خَشِيَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي بِلَا إشْكَالٍ فِي تَبَدُّئِهِ نَفَقَةَ الْوَلَدِ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَيَّدُوا تَقَيُّدَ الْحَجِّ عَلَى نَفَقَةِ الْوَلَدِ بِأَنْ لَا يُخْشَى عَلَيْهِمْ الْهَلَاكُ وَفِي التَّفْلِيسِ يُؤْخَذُ جَمِيعُ مَالِهِ وَلَا يَتْرُكُ لِنَفَقَةِ أَوْلَادِهِ إلَّا مَا يَعِيشُونَ بِهِ الْأَيَّامَ الْيَسِيرَةَ وَإِنْ خَشِيَ عَلَيْهِمْ الضَّيْعَةَ وَالْهَلَاكَ؟ (فَالْجَوَابُ) أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَالَ فِي الْفَلَسِ مَالُ الْغُرَمَاءِ، وَالْغُرَمَاءُ لَا يُلْزِمُونَهُ مِنْ نَفَقَةِ أَوْلَادٍ إلَّا مَا يَلْزَمُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُوَاسَاةِ، وَفِي الْحَجِّ الْمَالُ مَالُهُ وَهُوَ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ أَوْلَادِهِ مِنْ مَالِهِ فَافْتَرَقَا وَهَذَا بَيِّنٌ وَحُكْمُ نَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ حُكْمُ نَفَقَةِ الِابْنِ انْتَهَى.
وَقَالَ اللَّخْمِيُّ وَقَدْ قِيلَ فِيمَنْ لَهُ أَوْلَادٌ يَخْرُجُ وَيَتْرُكُهُمْ وَإِنْ تَكَفَّفُوا: يُرِيدُ مَا لَمْ يَخْشَ عَلَيْهِمْ الْمَوْتَ وَأَرَى أَنْ يُقِيمَ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ فِي خُرُوجِهِ عَنْهُمْ إذَا كَانُوا يُضَيِّعُونَ حَرَجًا وَالْحَجُّ سَاقِطٌ انْتَهَى.
وَإِلَى تَقْيِيدِ اللَّخْمِيِّ وَابْنِ رُشْدٍ قَوْلَ مَالِكٍ رضي الله عنه أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: إنْ لَمْ يَخْشَ هَلَاكًا وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: لَا يُعْتَبَرُ بَقَاؤُهُ فَقِيرًا، وَقِيلَ: مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى ضَيَاعِهِ أَوْ ضَيَاعِ مَنْ يَقُوتُ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي مَنَاسِكِهِ: وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَبْقَى لَهُ شَيْءٌ بَعْدَ مَا اسْتَطَاعَ بِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَقِيلَ مَا لَمْ يُؤَدِّ إلَى ضَيَاعِهِ أَوْ ضَيَاعِ مَنْ يَقُوتُ وَإِذَا حَمَلْنَا الضَّيَاعَ فِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْمُصَنِّفِ فِي مَنَاسِكِهِ عَلَى الْهَلَاكِ فَيَكُونُ كَلَامُهُمَا مُخَالِفًا لِمَا قَيَّدَ بِهِ اللَّخْمِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ قَوْلَ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُمَا جَعَلَاهُ خِلَافًا وَعَلَى هَذَا
حَمَلَ ابْنُ عَرَفَةَ كَلَامَ ابْنِ الْحَاجِبِ وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَسَمِعَ يَحْيَى يَجِبُ بَيْعُهُ قَرْيَةً لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا لِحَجِّهِ، وَيَتْرُكُ وَلَدَهُ لِلصَّدَقَةِ ابْنُ رُشْدٍ إنْ أَمِنَ ضَيْعَتَهُمْ، وَنَقْلَ ابْنُ الْحَاجِبِ لَا يُعْتَبَرُ ضَيَاعًا أَوْ ضَيَاعَ مَنْ يَقُوتُ لَا نَعْرِفُهُ انْتَهَى.
(قُلْت) وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ الضَّيَاعُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَالْمُصَنِّفِ فِي مَنَاسِكِهِ بِالتَّكَفُّفِ وَلَوْ لَمْ يَخْشَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى أَوْلَادِهِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْمَحْكِيُّ بِقِيلَ فِي كَلَامِهِمَا هُوَ اخْتِيَارُ اللَّخْمِيِّ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَأَرَى أَنْ يُقِيمَ مَعَهُمْ إلَى آخِرِهِ لَكِنْ يَبْقَى الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فِي كَلَامِهِمَا مُحْتَاجًا إلَى التَّقْيِيدِ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ اللَّخْمِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ وَعَزَا ابْنُ عَرَفَةَ الْمَسْأَلَةَ لِسَمَاعِ يَحْيَى وَلَمْ أَرَهَا إلَّا فِي سَمَاعِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ وَعَزَا الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ الْقَوْلَ الْمَشْهُورَ لِأَبِي الْقَاسِمِ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) هَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ وَهَكَذَا قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ قَالَ: وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّرَاخِي فَيُعْتَبَرُ مَا يُنْفِقُهُ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ وَمَا يُنْفِقُهُ عَلَى مَنْ يَخْلُفُهُ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ لَهُ حِرْفَةٌ تُوَصِّلُهُ وَتَعُودُ بِهِ فَيُعْتَبَرُ مَا يَخْلُفُهُ لِنَفَقَةِ أَهْلِهِ، وَسَيَأْتِي كَلَامُهُ بِرُمَّتِهِ فِي التَّنْبِيهِ الَّذِي بَعْدَهُ.
(الثَّانِي) تَقَدَّمَ كَلَامُ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّ حُكْمَ نَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ حُكْمُ نَفَقَةِ الْوَلَدِ، وَأَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ فَقَالَ اللَّخْمِيُّ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَصَاحِبُ الطِّرَازِ: إنْ قُلْنَا: الْحَجُّ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى يَجِدَ مَا يَتْرُكُهُ لَهَا وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَإِنْ شَاءَتْ صَبَرَتْ وَإِنْ شَاءَتْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا، وَلَفْظُ اللَّخْمِيِّ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ وَلَهُ مِنْ الْمَالِ كِفَافُ حَجَّةٍ فَإِنْ خَلَفَ مِنْهُ نَفَقَتُهَا لَمْ يَبْلُغْهُ الْبَاقِي وَإِنْ لَمْ يَخْلُفْ النَّفَقَةَ قَامَتْ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَحُجُّ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِمَهْلٍ حَتَّى يَجِدَ انْتَهَى.
وَلَفْظُ صَاحِبِ الْبَيَانِ فِي رَسْمِ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ وَلَوْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَةٌ فَهُوَ إنْ تَرَكَ عِنْدَهَا نَفَقَةً لَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَحُجُّ بِهِ وَإِنْ خَرَجَ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهَا نَفَقَةً طَلَّقَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ يَجْرِي ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي؟ وَلَفْظُ صَاحِبِ الطِّرَازِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ عِنْدَهُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَقُلْنَا: الْحَجُّ عَلَى التَّرَاخِي اُعْتُبِرَ قُدْرَتُهُ عَلَى مَا يُنْفِقُهُ فِي ذَهَابِهِ وَعَوْدِهِ وَمَا يُنْفِقُ عَلَى مُخَلَّفِيهِ فِي غِيبَتِهِ هَذَا إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حِرْفَةٌ فِي سَفَرِهِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حِرْفَةٌ تُوَصِّلُهُ وَتَعُودُ بِهِ اُعْتُبِرَ مَا يُتْرَكُ لِنَفَقَةِ أَهْلِهِ، فَإِنَّ النَّفَقَةَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَهُمْ أَحْوَجُ إلَيْهَا، وَقَالَ عليه السلام:«كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» . هَذَا عَلَى قَوْلِنَا: إنَّ فَرِيضَةَ الْحَجِّ عَلَى التَّرَاخِي فَيَكُونُ حَقُّ الْوَلَدِ وَالزَّوْجَةِ تَقَدَّمَا عَلَيْهِ كَمَا يُقَدَّمُ عَلَى الْكَفَّارَةِ، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَى الْفَوْرِ كَانَ أَوْلَى مِنْ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ لَمْ تَتَعَيَّنْ إنْ شَاءَتْ صَبَرَتْ وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْ، وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ مُوَاسَاةٌ تَجِبُ فِي الْفَضْلَةِ فَلَا يُتْرَكُ لَهَا مَا تَعَيَّنَ فِعْلُهُ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ فِيمَنْ لَا يَمْلِكُ إلَّا قَرْيَةً وَلَهُ وَلَدٌ قَالَ: يَبِيعُهَا لِحَجِّ الْفَرِيضَةِ وَيَدَعُ وَلَدَهُ فِي الصَّدَقَةِ انْتَهَى.
((قُلْتُ)) وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ مِنْ مُفَارَقَتِهَا بِأَنْ يَقَعَ فِي الزِّنَا مَعَهَا أَوْ مَعَ غَيْرِهَا فَيُقَدِّمُ نَفَقَتَهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي التَّنْبِيهِ الَّذِي بَعْدَهُ وَعَزَا بَيْعَ الْقَرْيَةِ الَّتِي لَا يَمْلِكُ غَيْرَهَا لِابْنِ الْقَاسِمِ كَمَا فَعَلَ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لِمَالِكٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) مَنْ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ لِلْحَجِّ أَوْ لِلزَّوَاجِ فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ الْحَجَّ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ تَأْخِيرُهُ إلَّا أَنْ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ فَيَتَزَوَّجُ وَيُؤَخِّرُ الْحَجَّ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ الْعَنَتَ وَقَدَّمَ التَّزْوِيجَ أَثِمَ وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَرْأَةِ الصَّدَاقُ. قَالَ فِي رَسْمِ تَأْخِيرِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ: وَسُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ أَيَتَزَوَّجُ أَوْ يَحُجُّ؟ قَالَ: بَلْ يَحُجُّ، قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهَذَا كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّ التَّزْوِيجَ وَإِنْ كَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ فَالْحَجُّ آكَدُ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَأَمَّا عَلَى الْفَوْرِ فَهُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ دُونَ التَّزْوِيجِ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيُؤَخِّرَ الْحَجَّ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ آثِمًا وَلَمْ يُفْسَخْ النِّكَاحُ وَلَا يُؤْخَذُ
مِنْ الزَّوْجَةِ الصَّدَاقُ إلَّا أَنْ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ إنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيُؤَخِّرَ الْحَجَّ حَتَّى يَجِدَ مَا يَحُجُّ بِهِ مِنْ الزَّادِ وَشِرَاءِ رَاحِلَةٍ أَوْ كِرَائِهَا إنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِاخْتِصَارٍ مُجْحِفٍ وَفِي الْبَرَاذِعِيّ فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ الثَّانِي، وَيَنْبَغِي لِلْأَعْزَبِ يُفِيدُ مَا لَا أَنْ يَحُجَّ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْكِحَ انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ اخْتَصَرَهَا ابْنُ يُونُسَ وَابْنُ أَبِي زَيْدٍ بِلَفْظِ يَنْبَغِي، وَقَالَ الْقَاضِي سَنَدٌ: وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ عَزَبًا فَيُفِيدُ مَا يَكُونُ كَفَافَ الْحَجِّ أَوْ التَّزْوِيجِ بِأَيِّهِمَا يَبْدَأُ قَالَ: يَحُجُّ وَلَا يَتَزَوَّجُ، وَكَذَلِكَ اخْتَصَرَهَا التُّونُسِيُّ وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: قَالَ مَالِكٌ: إنَّهُ يَبْدَأُ بِالْحَجِّ وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ، فَعَلَى قَوْلِهِ: إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ يَكُونُ وَاجِبًا وَعَلَى الْقَوْلِ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي يَكُونُ مُسْتَحَبًّا وَلَا أَعْلَمُهُمْ يَخْتَلِفُونَ بَعْدَ الْقَوْلِ إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، إنْ قَدَّمَ التَّزْوِيجَ أَنَّهُ مَاضٍ وَلَا يَرُدُّ الْمَالَ مِنْ الزَّوْجَةِ انْتَهَى.
وَقَالَ سَنَدٌ أَيْضًا فِي شَرْحِ مَسْأَلَةِ الْحَجِّ الثَّانِي الْمُتَقَدِّمَةِ فِي بَابِ تَبْدِئَةِ الْحَجِّ عَلَى غَيْرِهِ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْحَجِّ وَهُوَ صَرُورَةٌ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ إذَا قُلْنَا: عَلَى التَّرَاخِي وَعَلَى الْقَوْلِ: بِالْفَوْرِ، يَحْرُمُ التَّأْخِيرُ مَا لَمْ يَخَفْ الْعَنَتَ فَيَبْدَأُ بِالتَّزْوِيجِ، فَإِذَا لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ فَنَكَحَ فَنِكَاحُهُ صَحِيحٌ وَلَا يَنْزِعُ الصَّدَاقَ مِنْ الزَّوْجَةِ وَذَلِكَ بِمَثَابَةِ مَا لَوْ تَصَدَّقَ بِالْمَالِ أَوْ اشْتَرَى بِهِ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مَاضِيَةٌ وَالْبَيْعَ وَالْعِتْقَ لِوُقُوعِ الْعَقْدِ عَلَى شَرَائِطِهِ، وَيُجْرَحُ فِي بَابِ الْحَجِّ انْتَهَى.
وَيُرِيدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِقَوْلِهِ: وَيُجْرَحُ فِي بَابِ الْحَجِّ، أَنَّ ذَلِكَ جُرْحُهُ فِي شَهَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ مُحَرَّمًا فَقَدْ صَرَّحَ فِي الْمَدْخَلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَدُّقُ بِالْمَالِ الَّذِي حَصَلَتْ بِهِ الِاسْتِطَاعَةُ قَالَ: وَأَمَّا التَّوْفِيرُ وَالْجَمْعُ لِيَصِيرَ مُسْتَطِيعًا فَلَا يَجِبُ وَقَالَهُ غَيْرُهُ هَذَا حُكْمُ الرَّجُلِ، وَقَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنْ قُلْنَا: لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا فَمَتَى قَدَرَتْ عَلَى الْحَجِّ وَعَرَضَ لَهَا النِّكَاحُ فَلَا تَنْكِحُ حَتَّى تَحُجَّ، فَإِنْ نَكَحَتْ قَبْلَهُ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ عَلَى شَرَائِطِهِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ مَنْعَهَا مِنْ الْحَجِّ فَلَا يُكْرَهُ لَهَا النِّكَاحُ انْتَهَى.
((قُلْتُ)) وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ الْفَرِيضَةِ.
(الرَّابِعُ) إذَا خَشِيَ الْعَنَتَ لَمْ يُجَزْ لَهُ تَزَوُّجُ الْأَمَةِ لِيَسْتَبْقِيَ مَا يَحُجُّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَا تَنْكِحُ مَعَ اسْتِطَاعَةِ الطُّولِ لِلْحُرَّةِ.
(الْخَامِسُ) لَوْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ يَسْكُنُهَا وَخَادِمٌ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لَا فَضْلَ فِيهِمَا عَنْ كِفَايَتِهِ وَإِذَا بَاعَهُمَا وَجَدَ مَسْكَنًا وَخَادِمًا يَكْتَرِيهِمَا وَيَفْضُلُ لَهُ مَا يَحُجُّ بِهِ قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: فَعَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْحَجُّ عَلَى الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ؛ لِأَنَّهُ يَجِدُ السَّبِيلَ إلَيْهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَ بِيَدِهِ مَالٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ حَاجَتُهُ عَلَى الدَّوَامِ أَوْ كَانَ حَاكِمًا وَعِنْدَهُ كُتُبٌ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا انْتَهَى.
يَعْنِي فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَيْعُ ذَلِكَ لِيَحُجَّ بِهِ وَلَوْ كَانَ يَجِدُ بِبَعْضِ ثَمَنِ الدَّارِ أَوْ الْخَادِمِ دَارًا أَوْ خَادِمًا دُونَهُمَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
(السَّادِسُ) لَوْ كَانَ ثَمَنُ الدَّارِ أَوْ الْخَادِمِ قَدْرَ كِفَايَةِ الْحَجِّ وَلَا يَجِدُ مَا يُكْتَرَى بِهِ لِأَهْلِهِ دَارًا وَلَا خَادِمًا كَانَ الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي النَّفَقَةِ، فَيَجْرِي ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي فَوْرِيَّةِ الْحَجِّ وَتَرَاخِيهِ قَالَ فِي الطِّرَازِ: فَإِنْ قُلْنَا: الْحَجُّ عَلَى الْفَوْرِ لَمْ يُنْظَرْ لِذَلِكَ كَمَا لَا يُنْظَرُ لِنَفَقَةِ الْأَهْلِ، وَإِنْ قُلْنَا: عَلَى التَّرَاخِي لَمْ يَجِبْ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ عَنْ الْحَقَّيْنِ كَانَ حَقُّ الْآدَمِيِّ فِي مَالِهِ أَوْلَى مِنْ حَقِّ الْحَجِّ، كَمَا تَقُولُ: لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الْكَفَّارَةِ، انْتَهَى.
(السَّابِعُ) مَنْ كَانَ لَهُ دَرَاهِمُ يَتَسَبَّبُ بِهَا وَيَأْكُلُ مِنْ رِبْحِهَا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْقَرْيَةِ الَّتِي لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا، قَالَهُ فِي الطِّرَازِ يَعْنِي فَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِذَلِكَ إلَّا أَنْ يَخْشَى الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى أَوْلَادِهِ.
(الثَّامِنُ) قَالَ سَنَدٌ: فَلَوْ كَانَتْ لَهُ بِضَاعَةٌ لَا يُحْسِنُ إلَّا التَّقَلُّبَ فِيهَا وَرِبْحُهَا بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ أَوْ ضَيْعَةِ غَلَّتِهَا بِقَدْرِ كِفَايَتِهِ فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ بَيْعُ ذَلِكَ وَصَرْفُهُ فِي الْحَجِّ أَوْ لَا؟ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا غَيْرَ مُحْتَمَلٍ فَإِنَّهُ قَدْ يَرْجِعُ فَقِيرًا وَقَدْ لَا يُحْسِنُ الِاكْتِسَابَ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّصَدُّقِ وَذِلَّةِ السُّؤَالِ وَذَلِكَ فَوْقَ ضَرَرِ الْمَشْيِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَنَحَ إلَيْهِ بَعْضُ
الشَّافِعِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَبْيَنُ فَإِنَّهُ يَجِدُ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ وَيَقْدِرُ عَلَى الْحَجِّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ انْتَهَى.
وَيُقَيَّدُ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَا إذَا لَمْ يَخْشَ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى أَوْلَادِهِ وَهَذِهِ الْفُرُوعُ دَاخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ أَوْ بِافْتِقَارِهِ.
(التَّاسِعُ) إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَاؤُهُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَجِّ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ دَيْنِ أَبِيهِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ الْحَجُّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ قُلْنَا: الْحَجُّ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ مُؤَجَّلًا أَوْ حَالًّا قَالَهُ فِي الطِّرَازِ، وَنَصُّهُ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَبِيَدِهِ مَالٌ فَالدَّيْنُ أَحَقُّ بِمَالِهٍ مِنْ الْحَجِّ قَالَهُ مَالِكٌ فِي الْمَوَّازِيَّةِ قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ عَلَى أَبِيهِ دَيْنٌ أَيَقْضِي دَيْنَ أَبِيهِ أَمْ يَحُجَّ قَالَ: بَلْ يَحُجُّ وَهَذَا بَيِّنٌ فَإِنَّ الْحَجَّ دَيْنٌ عَلَيْهِ قُلْنَا: بِالْفَوْرِ أَوْ بِالتَّرَاخِي، وَدَيْنُ أَبِيهِ لَيْسَ عَلَيْهِ حَالًّا وَلَا مُؤَجَّلًا فَفِعْلُ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ فِعْلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ انْتَهَى.
(الْعَاشِرُ) لَوْ كَانَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ مِنْ دُيُونِ الزَّكَاةِ وَهُوَ يَسْتَغْرِقُ مَا بِيَدِهِ فَهَلْ يَحُجُّ بِهِ وَيُؤَخِّرُ دَيْنَ الزَّكَاةِ أَوْ يَصْرِفُ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ دَيْنُ الْحَجِّ؟ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ دَيْنَ الزَّكَاةِ وَيَسْقُطَ عَنْهُ الْحَجُّ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ أَدَاؤُهُ عَلَى الْفَوْرِ اتِّفَاقًا وَإِجْمَاعًا وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَوْ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَلِأَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ يُسْقِطُ الزَّكَاةَ الْحَاضِرَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الزَّكَاةَ الْحَاضِرَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحَجِّ فَيُقَدَّمُ دَيْنُ الزَّكَاةِ عَلَى الْحَجِّ مِنْ بَابِ أَوْلَى، أَمَّا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ كَفَّارَاتٍ أَوْ هَدَايَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَجَّ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عَلَى التَّرَاخِي وَالرَّاجِحُ فِي الْحَجِّ أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ وَأَنَّ لَهَا بَدَلًا وَهُوَ الصِّيَامُ فَيَرْجِعُ إلَيْهِ.
وَرَأَيْت فِي مَسَائِلَ سُئِلَ عَنْهَا الْقَابِسِيُّ فِيمَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ رُبْعٍ وَحَنِثَ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ قَالَ: إنْ كَانَ حِينَ حِنْثِهِ لَا يَمْلِكُ غَيْرَهُ فَاَلَّذِي أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ ثَمَنِ الرُّبْعِ قَدْرُ مَا يَحُجُّ بِهِ نَفَقَةً لَا تَرَفُّهَ فِيهِ وَلَا إسْرَافَ وَلَا هَدِيَّةَ وَلَا تَفَضُّلَ عَلَى أَحَدٍ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِ الرُّبْعِ تَصَدَّقَ بِهِ انْتَهَى.
وَلَوْ نَذَرَ صَدَقَةَ مَا بِيَدِهِ مِنْ الْمَالِ أَوْ كَانَ إخْرَاجُ ثُلُثِهِ مِنْ مَالِهِ يَنْقُصُ مَا بِيَدِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مَعَهُ مَا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْحَجِّ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ؛ لِأَنَّهُ سَيَأْتِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَدُّقُ بِالْمَالِ الَّذِي صَارَ بِهِ مُسْتَطِيعًا وَكَذَا لَوْ كَانَ مَالُهُ كُلُّهُ شَيْئًا مُعَيَّنًا كَعَبْدٍ أَوْ دَارٍ وَنَذَرَ التَّصَدُّقَ بِذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ نَذْرُ مَعْصِيَةٍ وَلَوْ حَلَفَ لَيَتَصَدَّقُنَّ بِذَلِكَ الْمَالِ فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِاَللَّهِ فَلِيُكَفِّرْ عَنْهَا بِغَيْرِ الصَّوْمِ إنْ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الْكَفَّارَةِ يُمْكِنُهُ الْحَجَّ بِهِ وَإِلَّا فَلِيُكَفِّرْ بِالصَّوْمِ، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِالطَّلَاقِ فَالظَّاهِرُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ وَلَوْ أَدَّى لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ إلَّا أَنْ يَخْشَى الْعَنَتَ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ وَيَتَرَدَّدُ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّرَاخِي وَإِنْ لَمْ يَخْشَ الْعَنَتَ وَهَذَا كُلُّهُ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا فَلِيَتَأَمَّلْ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
(الْحَادِيَ عَشَرَ) إذَا وَجَدَ مَا يَحُجُّ بِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ قَالَهُ فِي الْمَدْخَلِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْتِقَ بِهِ رَقَبَةً فَإِنْ فَعَلَ فَالْعِتْقُ مَاضٍ وَالصَّدَقَةُ مَاضِيَةٌ لِوُقُوعِ الْعَقْدِ عَلَى شَرَائِطِهِ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ جُرْحَةٌ فِي شَهَادَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ فِي التَّنْبِيهِ الثَّالِثِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ مَنْ يَتَصَدَّقُ مِنْ مَالِهِ بِقَدْرِ مَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي بَابِ الصَّوْمِ وَفَطَرَ بِسَفَرِ قَصْرٍ فَرَاجِعْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّانِيَ عَشَرَ) مَنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ سَنَةً ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ فِيهَا فَلِلْمُسْتَأْجِرِ مَنْعُهُ، وَلَوْ قِيلَ: بِالْفَوْرِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا كَبِيرَ ضَرَرٍ فِيهَا عَلَيْهِ، قَالَهُ فِي الطِّرَازِ فِي بَابِ إحْرَامِ مَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهِ.
(الثَّالِثَ عَشَرَ) قَوْلُهُمْ فِي هَذِهِ الْفُرُوعِ الْمُتَقَدِّمَةِ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى الْفَوْرِ يُرِيدُونَ أَوْ فِي مَحَلٍّ يُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِيهِ عَلَى الْفَوْرِيَّةِ، كَمَا إذَا خِيفَ عَلَيْهِ الْفَوَاتُ وَهُوَ ظَاهِرٌ وَقَالَهُ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي هَذَا الْمَحِلِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (لَا بِدَيْنٍ أَوْ عَطِيَّةٍ)
ش: يَعْنِي أَنَّ مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِأَنْ يَسْتَدِينَ مَالًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَا جِهَةَ وَفَاءٍ لَهُ فَإِنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَمَّا مَنْ لَهُ جِهَةُ وَفَاءٍ فَهُوَ مُسْتَطِيعٌ إذَا كَانَ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ مَا يُمْكِنُهُ بِهِ
الْوُصُولُ إلَى مَكَّةَ وَقَدَرَ عَلَى بَيْعِ ذَلِكَ، أَمَّا إذَا كَانَ مَالُهُ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَدِينَ الْآنَ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَدْخَلِ وَقَوْلُهُ: أَوْ عَطِيَّةً، يَعْنِي بِهِ أَنَّهُ إذَا أَعْطَى لَهُ مَالٌ يُمْكِنُهُ بِهِ الْوُصُولُ إلَى مَكَّةَ عَلَى جِهَةِ الصَّدَقَةِ أَوْ الْهِبَةِ فَلَا يَقْبَلُهُ وَيَحُجُّ بِهِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ سَاقِطٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَحَمُّلِ الْمِنَّةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْبِسَاطِيّ أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلَافًا وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ إلَّا فِي مَسْأَلَةِ الْوَلَدِ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَبَذَلَ لَهُ ذَلِكَ لِيَحُجَّ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ عِنْدَ الْجَمِيعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَاذِلُ وَلَدُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْمِنَّةِ، وَإِنْ بُذِلَ لَهُ فَرْضًا لَمْ يَلْزَمْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ دَيْنًا وَيَمْلِكُ ذِمَّتَهُ بِهِ وَإِنَّ الدَّيْنَ أَيْضًا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَجِّ انْتَهَى.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَأَصْلُهُ لِابْنِ الْعَرَبِيِّ وَنَقَلَهُ عَنْهُ الزُّهْرِيُّ فِي شَرْحِ الْقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ: فَلَوْ وَهَبَ رَجُلٌ لِأَبِيهِ مَالًا فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ مِنْ كَسْبِهِ وَلَا مِنَّةَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ سُقُوطَ حُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ إذْ قَدْ يُقَالُ: قَدْ جَزَاهُ وَقَدْ وَفَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَم انْتَهَى.
وَمَا قَالَهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ أَظْهَرُ وَقَدْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي أَوَّلِ رَسْمِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ طَلَاقِ السُّنَّةِ فِي شَرْحِ قَوْلِ مَالِكٍ: لَا يُكْرِهُ السُّلْطَانُ الْمَرْءَ عَلَى أَنْ يَحُجَّ أَبَاهُ وَلَا عَلَى إنْكَاحِهِ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي وَيَأْتِي عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْحَجَّ عَلَى الْفَوْرِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ كَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ مَاءً لِغُسْلِهِ وَوُضُوئِهِ إذْ لَا يَسَعُهُ أَنْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ انْتَهَى.
وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ فَيَلْزَمُ حِينَئِذٍ الْوَلَدُ أَنْ يَحُجَّ أَبَاهُ وَيَجِبُ عَلَى الْوَالِدِ الْقَبُولَ وَظَاهِرُ إطْلَاقِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مُوَافِقٌ لِمَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَقَالَ الْبِسَاطِيُّ: أَمَّا الدَّيْنُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ جِهَةُ وَفَاءٍ وَلَا يَرْجُو مَا يُوفِي بِهِ فَلَا شَكَّ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِغَيْرِ الْحَجِّ وَقَدَرَ عَلَى الْوَفَاءِ، فَقَالَ مَالِكٌ فِيهِ: لَا بَأْسَ أَنْ يَحُجَّ، وَأَمَّا الْعَطِيَّةُ فَلِأَنَّ فِيهَا تَحَمُّلَ مِنَّةٍ وَانْظُرْ إذَا كَانَ مِمَّنْ لَهُ عَادَةٌ بِالْإِعْطَاءِ انْتَهَى.
((قُلْتُ)) إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: مِمَّنْ لَهُ عَادَةٌ بِالْإِعْطَاءِ، مَسْأَلَةَ الْوَلَدِ فَقَدْ عُلِمَ حُكْمُهُ وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهُ فَنُصُوصُ الْمَذْهَبِ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) إذَا قُلْنَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، الدَّيْنُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ جِهَةُ وَفَاءٍ فَهَلْ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ فِي الشَّامِلِ: لَا بِاسْتِعْطَاءٍ وَدَيْنٍ لَا وَفَاءَ لَهُ عِنْدَهُ وَرَوَى إبَاحَتَهُ، انْتَهَى.
فَظَاهِرُهُ أَنَّ الْقَوْلَ الرَّاجِحَ عَدَمُ إبَاحَتِهِ وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الْكَرَاهَةَ وَالتَّحْرِيمَ، وَكَذَلِكَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي مَنَاسِكِهِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالْكَرَاهَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: وَبَعْضُ النَّاسِ يَسْمَعُ أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ فَيَذْهَبُ وَيَتَسَلَّفُ وَلَا جِهَةَ وَفَاءَ لَهُ وَهُوَ فِعْلٌ قَبِيحٌ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ ذِمَّتَهُ وَكَانَتْ بَرِيئَةً انْتَهَى.
وَالْقَبِيحُ هُوَ الْفِعْلُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ شَرْعًا سَوَاءٌ كَانَ حَرَامًا أَوْ مَكْرُوهًا وَقَوْلُهُ فِي الشَّامِلِ وَرَوَى إبَاحَتَهُ يَقْتَضِي أَنَّ فِيهِ قَوْلًا بِالْإِبَاحَةِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ وَالْمَنْعُ ظَاهِرٌ إذَا لَمْ يَعْلَمْ مَنْ يَقْتَرِضُ مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا جِهَةَ وَفَاءٍ لَهُ، وَأَمَّا إذَا أَعْلَمَهُ بِذَلِكَ وَرَضِيَ بِإِقْرَاضِهِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْمَنْعِ وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ ذِمَّتَهُ وَكَانَتْ بَرِيئَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) إذَا كَانَ الشَّخْصُ لَهُ صَنْعَةٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْصُلَ مِنْهَا مَا يَصِيرُ بِهِ بَعْدَ مُدَّةٍ مُسْتَطِيعًا بِأَنْ يَجْمَعَ مِنْهَا كُلَّ يَوْمٍ مَا يَفْضُلُ عَنْ قُوتِهِ وَحَاجَتِهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يَفْضُلُ عَنْ قُوتِهِ وَحَاجَتِهِ، قَالَ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ: لَيْسَ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَحْتَالَ فِي تَحْصِيلِ شَيْءٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ السَّلَامَةَ غَالِبًا فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَذِمَّتِهِ الْآنَ بَرِيئَةٌ فَلَا يَشْغَلُهَا بِشَيْءٍ لَمْ تَتَحَقَّقْ بَرَاءَتُهَا فِيهِ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ فِي نَفْسِهِ يُحِبُّ الْحَجَّ وَيَنْوِيهِ وَيَخْتَارُهُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَخْتَارَ طَاعَةَ رَبِّهِ وَيُحِبُّهَا لَكِنْ يُقَيَّدُ مَحَبَّتَهُ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ فِيهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ الشَّرْعُ بِأَنْ يُوَفِّرَ وَيَحْتَالَ وَيَتَسَبَّبَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ
بِشَرْطِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ فَإِنْ تَرَكَهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ فَهُوَ عَاصٍ وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يُنْفِقُهُ فِيهِ وَيُحْتَجُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ هُوَ بِهَا مُتَطَوِّعٌ وَالْحَجُّ فَرْضٌ عَلَيْهِ، وَالتَّطَوُّعُ لَا يَسُدُّ مَسَدَّ الْوَاجِبِ وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْفِيرُ وَالِاحْتِيَالُ فِي تَحْصِيلِ مَا يَجِبُ بِهِ انْتَهَى.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ، مَنْ يَذْهَبُ إلَى بَعْضِ النَّاسِ لِيَحُجَّ بِهِ مَعَهُ؛ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ كَانَتْ بَرِيئَةً فَيُدْخِلُ نَفْسَهُ فِيمَا لَيْسَ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَيَتَحَمَّلُ الْمِنَّةَ وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَهُمْ يَطْلُبُ مِنْ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ يَتَعَيَّنُ هِجْرَانُهُمْ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِطُغْيَانِهِمْ؛ لِكَوْنِهِمْ يَرَوْنَ مَنْ يَقْتَدُونَ بِهِ يُعَامِلُهُمْ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ قَالَ فِي الْمَدْخَلِ: وَيَطْلُبُ مِنْ فَضَلَاتِ أَوْسَاخِهِمْ مِنْ دُنْيَاهُمْ الْقَذِرَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ الْجَهْلُ فَتُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ أَنَّهُ فِي طَاعَةٍ، وَهَيْهَاتَ أَنْ يُطَاعَ اللَّهُ بِمَالٍ حَرَامٍ، قَالَ فِي الْمَدْخَلِ: أَوْ يَغُرُّهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ عَلَى طَاعَةٍ وَخَيْرٍ وَهُوَ عَلَى الْعَكْسِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْخِذْلَانِ، وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ الْوُقُوفُ عَلَى أَبْوَابِهِمْ وَبَعْضٌ مَنْ يَطْلُبُ مِنْهُمْ يَعِدُهُمْ بِالدُّعَاءِ فِي الْأَمَاكِنِ الشَّرِيفَةِ، وَبَعْضُهُمْ قَدْ اتَّخَذَ ذَلِكَ دُكَّانًا يُجْبَى مِنْهُمْ بَدَاةً كَمَا تَقَدَّمَ وَعَوْدَةً بِأَنْ يُهْدَى لَهُمْ وَهُوَ يَطْلُبُ مِنْهُمْ بِلِسَانِ الْحَالِ وَبَعْضُهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاجْتِمَاعِ بِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ؛ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إلَيْهِمْ فَيَتَشَفَّعُوا عِنْدَهُمْ بِمَنْ يَرْجُو أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ وَيَرْجِعُوا إلَى قَوْلِهِ وَيَنْتَهِي الشَّافِعُ عَلَى مَنْ يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَهُمْ، إذْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ يَتَعَطَّفُوا بِالدَّفْعِ إلَيْهِ فَيَأْكُلُونَ الدُّنْيَا بِالدِّينِ وَذَلِكَ مَذْمُومٌ فِي الشَّرْعِ الشَّرِيفِ، انْتَهَى.
كَلَامُهُ فِي الْمَنَاسِكِ وَهُوَ مُخْتَصَرٌ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَدْخَلِ وَذَكَرَ فِي الْمَدْخَلِ حِكَايَاتٍ عَنْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت سَيِّدِي أَبَا مُحَمَّدٍ يَعْنِي ابْنَ جَمْرَةَ نَفَعَنِي اللَّهُ بِبَرَكَاتِهِ وَبِعُلُومِهِ وَالْمُسْلِمِينَ يَحْكِي أَنَّ شَابًّا مِنْ الْمَغَارِبَةِ جَاءَ إلَى الْحَجِّ فَلَمَّا وَصَلَ إلَى هَذِهِ الْبِلَادِ فَرَغَ مَا بِيَدِهِ وَكَانَ يُحْسِنُ الْخَيَّاطَةَ فَجَاءَ إلَى خَيَّاطٍ وَجَلَسَ يَخِيطُ عِنْدَهُ بِالْأُجْرَةِ وَكَانَ عَلَى دِينٍ وَخَيْرٍ وَكَانَ جُنْدِيٌّ يَأْتِي إلَى الدُّكَّانِ فَيَقْعُدُ عِنْدَهُمْ فَيَتَكَلَّمُونَ وَهُوَ لَا يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ بَلْ مُقْبِلٌ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ؛ فَحَصَلَ لَهُ فِيهِ حُسْنَ ظَنٍّ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ أَوَانُ خُرُوجِ الرَّكْبِ إلَى الْحَجِّ سَأَلَهُ الْجُنْدِيُّ لَمْ لَا تَحُجَّ؟ قَالَ: لَيْسَ لِي شَيْءٌ أَحُجُّ بِهِ، فَجَاءَهُ الْجُنْدِيُّ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ: خُذْ هَذِهِ؛ فَحَجَّ بِهَا فَرَفَعَ الشَّارِبُ رَأْسَهُ إلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: كُنْتُ أَظُنُّك مِنْ الْعُقَلَاءِ، فَقَالَ: وَمَا رَأَيْت مِنْ عَدَمِ عَقْلِي؟ فَقَالَ لَهُ: أَنَا أَقُولُ لَك: كُنْتُ فِي بَلَدِي بَيْنَ أَهْلِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيَّ الْحَجَّ فَلَمَّا أَنْ وَصَلْت إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَسْقَطَهُ عَنِّي لِعَدَمِ اسْتِطَاعَتِي جِئْت أَنْتَ بِدَرَاهِمِك تُرِيدُ أَنْ تُوجِبَ عَلَيَّ شَيْئًا أَسْقَطَهُ اللَّهُ عَنِّي، وَذَلِكَ لَا أَفْعَلُهُ أَوْ كَمَا قَالَ وَقَدْ كَانَ أَيْضًا جَاءَ بَعْضُ الْمَغَارِبَةِ جَاءَ إلَى هَذِهِ الْبِلَادِ فَفَرَغَ مَا بِيَدِهِ فَبَقِيَ يَعْمَلُ بِالْقِرْبَةِ عَلَى ظَهْرِهِ وَكَانَ يَحْصُلُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ وَأَقَلُّ وَأَكْثَرُ فَيَأْكُلُ مِنْهَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَيَتَصَدَّقُ بِالْبَاقِي، وَكَانَ لَهُ مَالٌ بِبَلَدِهِ فَجَاءَ بَعْضُ مَعَارِفِهِ مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَمْضِيَ مَعَهُمْ إلَى الْحِجَازِ فَأَبَى عَلَيْهِمْ فَسَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ امْتِنَاعِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَفْرِضْ عَلَيَّ الْحَجَّ إلَّا لِعَدَمِ قُدْرَتِي عَلَى الزَّادِ، وَمَا أَحْتَاجُهُ فِي الْحَجِّ فَقَالُوا لَهُ: خُذْ مِنَّا مَا تَخْتَارُ، فَقَالَ: لَمْ يَجِبُ عَلَيَّ ذَلِكَ وَلَمْ أُنْدَبْ إلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ نُقْرِضُك إلَى أَنْ تَرْجِعَ إلَى بَلَدِك، فَقَالَ: وَمَنْ يَضْمَنُ لِي الْحَيَاةَ حَتَّى تَأْخُذُوا قَرْضَكُمْ فَقَالُوا لَهُ: نَحْنُ نَجْعَلُك فِي حِلٍّ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا يَجِبُ عَلَيَّ ذَلِكَ وَلَا أَنْدُبُ إلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ: فَوَفِّرْ مِمَّا تَحْصُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ مَا تَحُجُّ بِهِ وَتَرْجِعُ إلَى بِلَادِك وَمَالِك، فَقَالَ لَهُمْ: تَفُوتُنِي حَسَنَاتٌ مُعَجَّلَةٌ لِشَيْءٍ لَمْ يَجِبْ عَلَيَّ الْآنَ، وَلَا أَدْرِي هَلْ أَعِيشُ إلَى ذَلِكَ الزَّمَانِ أَمْ لَا أَوْ كَمَا قَالَ: وَقَدْ مَنَعَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ بَعْضَ مَنْ يَنْتَمِي إلَيْهِ مِنْ حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ قَرْضًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ بَلَدِهِ مَعَ رَغْبَةِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي ذَلِكَ وَتَلَهُّفِهِ عَلَيْهِ وَصَبْرِهِ إلَى أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مَالِ الْمُقْتَرِضِ فِي بَلَدِهِمْ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ وَعَلَّلَ الشَّيْخُ رحمه الله فِي ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عِمَارَةُ الذِّمَّةِ بِشَيْءٍ لَا يَدْرِي هَلْ يَفِي بِهِ
أَمْ لَا إنْ كَانَ قَرْضًا.
وَالثَّانِي الْمِنَّةَ فِيهِ وَإِنْ أَخَذَهُ عَلَى جِهَةِ الْهِبَةِ فَفِيهِ الْمِنَّةُ أَكْثَرُ فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ سَيِّدِي الشَّيْخِ: لَهُ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ لَا يَمُنُّ بَلْ يَمُنُّ اللَّهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: إنْ لَمْ يَمُنَّ هُوَ يَمُنُّ أَهْلُهُ وَأَقَارِبُهُ فِي بَلَدِهِ، فَقَالُوا لَهُ: قَدْ لَا يَرْجِعُ هُوَ لِلْبَلَدِ يَعْنِي الْمُقْتَرِضَ فَقَالَ الشَّيْخُ: تَقَعُ الْمِنَّةُ عَلَى أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ فَإِنْ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَقَدْ تَقَعُ مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ فَيَقُولُونَ فُلَانٌ حَجَّجَ فُلَانًا وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْمِنَّةِ مَا فِيهِ بِشَيْءٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْدَبُ إلَيْهِ، أَوْ كَمَا قَالَ هَذَا فِعْلُهُمْ فِي الْحَجَّةِ الْأُولَى فَمَا بَالُك بِهِمْ فِي التَّطَوُّعِ وَهَذَا حَالُ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي خَلَاصِ ذِمَمِهِمْ وَيُفَكِّرُونَ فِي ذَلِكَ انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ لَهُ مَالًا بِبَلَدِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ وَلَا التَّوْكِيلُ فِي ذَلِكَ وَالْإِتْيَانُ بِهِ، وَإِلَّا لَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ لَلَزِمَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (أَوْ سُؤَالٍ مُطْلَقًا)
ش: يَعْنِي أَنَّ الْحَجَّ لَا يَجِبُ عَلَى مَنْ لَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِالسُّؤَالِ وَقَوْلُهُ: مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ عَادَتُهُ السُّؤَالَ بِبَلَدِهِ أَوْ لَمْ تَكُنْ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْعَادَةُ إعْطَاءَهُ أَوْ لَمْ تَكُنْ، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ السُّؤَالَ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْعَادَةُ إعْطَاءَهُ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ عَادَتُهُ السُّؤَالَ وَلَمْ تَكُنْ الْعَادَةُ إعْطَاءَهُ فَفِي هَذِهِ الثَّلَاثِ صُوَرٍ لَا إشْكَالَ فِي سُقُوطِ الْحَجِّ وَلَا فِي مَنْعِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ الْعَادَةُ إعْطَاءَهُ، سَوَاءٌ كَانَتْ عَادَتُهُ السُّؤَالَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِلْقَاءِ بِنَفْسِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ إعْطَاءَهُ وَلَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ السُّؤَالَ فَيَخْتَلِفُ فِي خُرُوجِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ الْإِبَاحَةُ وَالْكَرَاهَةُ نَقَلَهُمَا ابْنُ رُشْدٍ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ وَالْأَرْجَحُ مِنْهُمَا الْكَرَاهَةُ كَمَا سَيَأْتِي وَنَقَلَهُمَا الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ وَابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُمَا، وَأَمَّا الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ مَا إذَا كَانَتْ عَادَتُهُ فِي بَلَدِهِ السُّؤَالَ وَمِنْهُ عَيْشُهُ وَالْعَادَةُ إعْطَاءَهُ، فَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي تَوْضِيحِهِ وَمَنْسَكِهِ: إنَّ ظَاهِرَ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَيُكْرَهُ لَهُ الْخُرُوجُ وَجَزَمَ بِهِ هُنَا وَقَالَ فِي الشَّامِلِ: إنَّهُ الْمَشْهُورُ وَأَقَرَّ فِي شُرُوحِهِ كَلَامَ الْمُؤَلِّفِ عَلَى إطْلَاقِهِ وَكَذَلِكَ الْبِسَاطِيُّ وَالشَّيْخُ زَرُّوق وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ ابْنُ غَازِيٍّ ((قُلْتُ)) وَنُصُوصُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الَّتِي وَقَفْت عَلَيْهَا مُصَرِّحَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَأَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ عَادَتُهُ السُّؤَالُ إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ إعْطَاءَهُ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي التَّلْقِينِ: فَإِنْ وَجَدَ الرَّاحِلَةَ وَعَدَمَ الزَّادَ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ عَادَتُهُ السُّؤَالَ انْتَهَى.
وَلَهُ نَحْوُهُ فِي الْمَعُونَةِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ التُّونُسِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ: وَمَنْ شَأْنُهُ فِي مَوْضِعِهِ السُّؤَالُ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ، وَالسُّؤَالُ فِي طَرِيقِهِ كَمَا يَسْأَلُ فِي بَلَدِهِ وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ فَرْضُ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَطِيعٌ وَالْقَدْرُ الَّذِي يَتَسَبَّبُ بِهِ فِي بَلَدِهِ غَيْرُ مَعْدُومٍ فِي الطَّرِيقِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي مَنْسَكِهِ: وَإِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ عَادَتَهُ لَزِمَهُ الْحَجُّ انْتَهَى.
وَقَالَ صَاحِبُ الطِّرَازِ: أَصْحَابُنَا يَقُولُونَ: إذَا كَانَ ذَلِكَ مَعِيشَتُهُ فِي أَهْلِهِ كَانَ اسْتِطَاعَةً فِي حَقِّهِ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى حِرْفَةٍ مِنْ الْمَسَاكِينِ فَالسُّؤَالُ فِي حَقِّهِ خَفِيفٌ لِأَجْلِ حَاجَتِهِ فَإِذَا كَانَ فِي أَهْلِهِ يَسْأَلُ فَسَوَاءٌ فِي حَقِّهِ قَطَنَ أَوْ ظَعَنَ وَيَلْتَحِقُ ذَلِكَ بِسَائِرِ الْحِرَفِ الَّتِي تُكْتَسَبُ بِهَا الْمَعِيشَةُ انْتَهَى.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي شَرْحِ الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ: وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ تَفْدَحُهُ وَمَا يَعِيشُ بِهِ فِي بَلَدِهِ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِي طَرِيقِهِ مِنْ صِنَاعَةٍ لَا يُعْدِمُهَا أَوْ سُؤَالٍ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فَالْحَجُّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ التُّونُسِيُّ: وَيَلْزَمُ السَّائِلُ الْفَقِيرُ إذَا كَانَتْ الْعَادَةُ إعْطَاءَهُ انْتَهَى.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي شَرْحِهِ لِلْقَوَاعِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ: إنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ وَعَيْشُهُ فِي الْمَقَامِ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ أَوْ كَانَ عَيْشُهُ بِالتَّكَفُّفِ وَكَانَ فِي رُفْقَةٍ لَا يَخْشَى الضَّيْعَةَ فِيهَا وَجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ وَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُتَسَائِلِ؟ أَمَّا إذَا كَانَتْ عَادَتُهُ لَا تَخْتَلِفُ فِي وَطَنِهِ وَفِي الطَّرِيقِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَجِدُ مَنْ يُعْطِيهِ وَحَكَى اللَّخْمِيُّ قَوْلَيْنِ وَهُمَا مُنَزَّلَانِ عَلَى حَالَيْنِ فَمَنْ تَسَاوَتْ حَالُهُ لَزِمَهُ كَمَا قُلْنَا، وَمَنْ افْتَقَرَ إلَى ذَلِكَ مِنْ
أَجْلِ الْخُرُوجِ لَمْ يَلْزَمْهُ انْتَهَى.
((قُلْتُ)) كَلَامُ اللَّخْمِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَيْنِ إنَّمَا هُمَا فِيمَنْ لَيْسَ عَادَتُهُ السُّؤَالَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ: وَإِنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ وَعَيْشُهُ فِي الْمَقَامِ مِنْ صِنَاعَةٍ وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ عَمَلُهَا فِي السَّفَرِ، وَالْعَيْشُ مِنْهَا أَوْ كَانَ شَأْنُهُ التَّكَفُّفَ وَكَانَ سَفَرُهُ فِي. رُفْقَةٍ وَجَمَاعَةٍ لَا يَخْشَى الضَّيْعَةَ مَعَهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ مَعَ عَدَمِ الْجَمِيعِ يَعْنِي الزَّادَ وَالرَّكْبَ ثُمَّ قَالَ لَمَّا ذَكَرَ قَوْلَ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ: مَنْ قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ بِذِلَّةٍ يَخْرُجُ بِهَا عَنْ عَادَتِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ الشَّيْخُ، أَمَّا الْخُرُوجُ عَنْ عَادَتِهِ فِي الْمَشْيِ فَغَيْرُ مُرَاعًى، وَإِنْ أَرَادَ السُّؤَالَ وَالتَّكَفُّفَ فِيمَنْ لَيْسَ شَأْنُهُ فَهُوَ حَسَنٌ، وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ يَخْرُجُ يَسْأَلُ النَّاسَ فَقَالَ مَالِكٌ فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَقَالَ أَيْضًا: لَا أَرَى لِلَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ أَنْ يَخْرُجَ لِلْحَجِّ وَلَا لِلْغَزْوِ وَيَسْأَلَ يُرِيدُ فِيمَنْ كَانَ عَيْشُهُ فِي الْمَقَامِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَسْكَرٍ فِي عُمْدَتِهِ: وَيَلْزَمُ مَعَهُ مُعْتَادُ الْمَشْيِ وَالسُّؤَالُ إذَا وَجَدَ مِنْ يُعْطِيهِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ الشَّافِعِيُّ فِي مَنْسَكِهِ الْكَبِيرِ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّ مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ السُّؤَالَ فِي بَلَدِهِ وَإِنْ سَأَلَ فِي الطَّرِيقِ أَعْطَى لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَيَلْزَمُهُ الْحَجُّ بِخِلَافِ مَنْ لَا يَسْأَلُ النَّاسَ فِي بَلَدِهِ، وَإِنْ كَانَ إذَا سَأَلَ فِي الطَّرِيقِ أَعْطَى انْتَهَى فَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ لَمْ يَحْكُوا فِي وُجُوبِ الْحَجِّ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ خِلَافًا وَأَمَّا ابْنُ شَاسٍ فَذَكَرَ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ صَدَّرَ بِالْوُجُوبِ وَعَطَفَ الثَّانِي عَلَيْهِ بِقِيلَ، وَنَصُّهُ وَيَجِبُ عَلَى الْمُتَسَائِلِ إذَا كَانَتْ تِلْكَ عَادَتُهُ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَجِدُ مَنْ يُعْطِيهِ، وَقِيلَ: لَا يَجِبُ انْتَهَى.
وَمِثْلُهُ لِلْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَنْكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ حِكَايَةَ الْقَوْلِ الثَّانِي، وَسَيَأْتِي لَفْظُهُ وَتَبِعَ ابْنُ شَاسٍ عَلَى التَّصْدِيرِ بِالْوُجُوبِ، وَحِكَايَةُ مُقَابِلِهِ بِقِيلِ ابْنِ جُزَيٍّ فِي قَوَانِينِهِ وَالْقَرَافِيُّ وَالتَّادَلِيُّ وَابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِبِ بِالْقَوْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ وَقِبَلَهُمَا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ وَابْنِ فَرْحُونٍ وَصَاحِبُ الشَّامِلِ وَمَنْ بَعْدُهُمْ وَرَجَّحُوا الْقَوْلَ بِالسُّقُوطِ وَبَعْضُهُمْ صَرَّحَ بِتَشْهِيرِهِ، وَكَذَلِكَ شُرَّاحُ الْمُخْتَصَرِ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ نُصُوصَ الْمَذْهَبِ الْمُتَقَدِّمَةِ كُلِّهَا مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الْمَذْهَبَ خِلَافُ ذَلِكَ.
(فَإِنْ (قُلْتُ)) قَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَفِي السَّائِلِ إنْ كَانَتْ الْعَادَةُ إعْطَاءَهُ قَوْلَانِ مَا نَصُّهُ الْقَوْلَانِ رِوَايَتَانِ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ السُّقُوطَ وَزَادَ فِيهَا الْكَرَاهَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَأَظْهَرُ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ الْوُجُوبَ.
((قُلْتُ)) مَا ذَكَرَاهُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ وَهْبٍ ذَكَرَهُ صَاحِبُ النَّوَادِرِ وَغَيْرُهُ لَكِنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ السُّؤَالَ، وَنَصُّهُ وَمَنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَمُخْتَصَرِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قِيلَ فِيمَنْ يَسْأَلُ ذَاهِبًا وَجَائِيًا وَلَا نَفَقَةَ عِنْدَهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ قِيلَ لَهُ: فَإِنْ مَاتَ فِي الطَّرِيقِ؟ قَالَ: حِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ، قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ وَلَا أَرَى لِلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى الْحَجِّ وَالْغَزْوِ وَيَسْأَلُونَ النَّاسَ وَهُمْ لَا يَقْوَوْنَ إلَّا بِمَا يَسْأَلُونَ وَإِنَى لَأَكْرَهُ ذَلِكَ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] انْتَهَى بِلَفْظِهِ فَلَيْسَ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّ ذَلِكَ فِيمَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ السُّؤَالَ بَلْ الرِّوَايَةُ مُجْمَلَةٌ وَفَسَّرَهَا الشُّيُوخُ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ السُّؤَالَ فِي بَلَدِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ اللَّخْمِيِّ حَيْثُ قَالَ إثْرِ كَلَامِ مَالِكٍ فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا أَرَى لِلَّذِي لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ أَنْ يَخْرُجَ لِلْحَجِّ وَلَا لِلْغَزْوِ وَيَسْأَلُ النَّاسَ يُرِيدُ فِيمَنْ كَانَ فِي الْمَقَامِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ.
وَلَمَّا ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الصَّغِيرُ الرِّوَايَةَ الْمَذْكُورَةَ ذَكَرَ بَعْدَهَا تَفْسِيرَ اللَّخْمِيّ وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ بَعْدَ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ: وَإِنْ كَانَ عَيْشُهُ مِنْ غَيْرِ السُّؤَالِ وَهُوَ يَقْدِرُ أَنْ يَتَوَصَّلَ إلَى مَكَّةَ بِالسُّؤَالِ فَلَا اخْتِلَافَ فِي أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَاخْتُلِفَ هَلْ يُبَاحُ لَهُ أَوْ يُكْرَهُ؟ فَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الْبَضَائِعِ وَالْوَكَالَاتِ انْتَهَى.
فَجَعَلَ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ أَشَارَ إلَيْهِمَا
ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ فِيمَنْ لَيْسَ عَادَتُهُ السُّؤَالَ وَقِبَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَنَصُّهُ: وَقُدْرَةُ سَائِلٍ بِالْحَضَرِ عَلَى سُؤَالِ كِفَايَتِهِ بِالسَّفَرِ اسْتِطَاعَةٌ وَلَا يَجِبُ عَلَى فَقِيرٍ غَيْرِ سَائِلٍ بِالْحَضَرِ قَادِرٍ عَلَى سُؤَالِ كِفَايَتِهِ فِي السَّفَرِ ابْنُ رُشْدٍ اتِّفَاقًا، وَفِي كَرَاهَتِهِ وَإِبَاحَتِهِ رِوَايَتَا ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُ اللَّخْمِيِّ، وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ يَخْرُجُ يَسْأَلُ فَرَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَقَالَ أَيْضًا: لَا أَرَى لِمَنْ لَا يَجِدُ مَا يُنْفِقُ خُرُوجَهُ لِحَجٍّ أَوْ غَزْوٍ وَيَسْأَلُ النَّاسَ اللَّخْمِيُّ يُرِيدُ فِيمَنْ كَانَ فِي مَقَامِهِ لَا يَسْأَلُ وَنَقَلَ ابْنُ شَاسٍ سُقُوطَهُ عَنْ مُعْتَادِ السُّؤَالِ ظَانًّا وُجُودَ مَنْ يُعْطِيهِ لَا أَعْرِفُهُ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَرَفَةَ بِلَفْظِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي التَّوْضِيحِ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ رُشْدٍ غَيْرَ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ الْحَاجِبِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ إذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَقَدْ ظَهَرَ لَك صِحَّةَ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ نُصُوصَ الْمَذْهَبِ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَجَمِيعُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ شُيُوخِ الْمَذْهَبِ وَأَعْيَانِ الْحُفَّاظِ لِنُصُوصِهِ الَّذِينَ لَمْ يَنْقُلُوا فِي لُزُومِ الْحَجِّ خِلَافًا فَهِمُوا رِوَايَةَ ابْنِ الْقَاسِمِ عَلَى أَنَّهَا فِيمَنْ لَيْسَتْ عَادَتُهُ السُّؤَالَ وَإِلَّا فَمِنْ الْبَعِيدِ عَادَةً أَنَّهُمْ لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهَا أَوْ اطَّلَعُوا عَلَيْهَا وَفَهِمُوا أَنَّهَا فِيمَنْ عَادَتُهُ السُّؤَالُ وَجَزَمُوا بِخِلَافِهَا وَلَمْ يُنَبِّهُوا عَلَيْهَا، وَمِنْ الْبَعِيدِ عَادَةً أَيْضًا أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمُصَنِّفَ اطَّلَعَا عَلَى النُّصُوصِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَفِيهَا الرِّوَايَةُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ وَلَمْ يُنَبِّهَا عَلَى ذَلِكَ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَأَمَّلَ وَأَنْصَفَ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
(تَنْبِيهٌ) حَيْثُ حَرُمَ الْخُرُوجُ لِكَوْنِ الْعَادَةِ عَدَمَ الْإِعْطَاءِ فَقَالَ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِحَالِهِمْ إعَانَتَهُمْ بِمَا تَيَسَّرَ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ بِالشَّرْبَةِ وَالشَّرْبَتَيْنِ وَاللُّقْمَةَ وَاللُّقْمَتَيْنِ وَيَعْرِفهُمْ أَنَّ مَا ارْتَكَبُوا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَعُودُوا لِمِثْلِهِ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي مَنَاسِكِهِ: إنَّهُ يُوَاسِيهِمْ وَلَا يُوَبِّخُهُمْ فِي خُرُوجِهِمْ بِلَا زَادٍ وَلَا رَاحِلَةٍ وَنَصُّ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَدْخَلِ إثْرَ كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: لَا بِدَيْنٍ أَوْ عَطِيَّةٍ، وَبَعْضُهُمْ لَا يَصِلُ إلَيْهِمْ يَعْنِي الظُّلْمَةَ بِنَفْسِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّوَصُّلِ إلَيْهِمْ بِغَيْرِهِ فَيَخْرُجُ بِغَيْرِ زَادٍ وَلَا مَرْكُوبٍ فَتَطْرَأُ عَلَيْهِ أُمُورٌ عَدِيدَةٌ كَانَ عَنْهَا فِي غِنًى، مِنْهَا عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ، وَمِنْهَا عَدَمُ الْقُدْرَةِ وَالْوُقُوعُ فِي الْمَشَقَّةِ وَالتَّعَبِ، وَتَكْلِيفُ النَّاسِ الْقِيَامَ بِقُوتِهِ وَسَقْيِهِ، وَرُبَّمَا آلَ أَمْرُهُ إلَى الْمَوْتِ وَهُوَ الْغَالِبُ فَتَجِدُهُمْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ طَرْحَى مَيِّتِينَ بَعْدَ أَنْ خَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ عَلِمَ بِحَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الرَّكْبِ فِي إثْمِهِمْ وَكَذَلِكَ يَأْثَمُ كُلُّ مَنْ أَعَانَهُمْ بِشَيْءٍ لَا يَكْفِيهِمْ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِمْ أَوْ سَعَى لَهُمْ فِيهِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ غَيْرَهُ يُعِينُهُمْ بِشَيْءٍ تَتِمُّ بِهِ كِفَايَتُهُمْ فِي الذَّهَابِ وَالْعَوْدِ فَلَا بَأْسَ إذَنْ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ حَرُمَ عَلَيْهِ الْإِعْطَاءُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ لِدُخُولِهِمْ فِيمَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْعَطَشِ وَالْجُوعِ وَالتَّعَبِ وَالْإِفْضَاءِ إلَى الْمَوْتِ وَهُوَ الْغَالِبُ؛ فَيَكُونُ شَرِيكًا لَهُمْ فِيمَا وَقَعَ بِهِمْ وَفِيمَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِهِمْ مِنْ التَّسَخُّطِ وَالضَّجَرِ وَالسَّبِّ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا فِي الطَّرِيقِ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ عَلِمَ بِحَالَتِهِمْ إعَانَتُهُمْ بِمَا تَيَسَّرَ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ بِالشَّرْبَةِ وَالشَّرْبَتَيْنِ وَاللُّقْمَةِ وَاللُّقْمَتَيْنِ وَيَعْرِفُهُمْ أَنَّ مَا ارْتَكَبُوا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَعُودُوا لِمِثْلِهِ انْتَهَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (وَاعْتُبِرَ مَا يُرَدُّ بِهِ إنْ خَشِيَ ضَيَاعًا)
ش: لِمَا قُدِّمَ أَوَّلًا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الِاسْتِطَاعَةِ إمْكَانُ الْوُصُولِ خَشِيَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ مَا يُرَدُّ بِهِ، فَقَالَ: وَيَعْنِي أَنَّهُ يَعْتَبِرُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ مَا يُوَصِّلُ الْمُكَلِّفَ إلَى مَكَّةَ وَمَا يُرَدُّ بِهِ إنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الضَّيَاعَ فِي مَكَّةَ وَاعْتُبِرَ مَا يُرَدُّ بِهِ وَمُرَادُهُ مَا يُرَدُّ بِهِ إلَى أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِمَّا يُمْكِنُهُ التَّعَيُّشُ فِيهِ، كَذَا قَالَ اللَّخْمِيُّ وَسَاقَهُ عَلَى أَنَّهُ الْمَذْهَبُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ وَصَدَرَ بِهِ فِي الشَّامِلِ، وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ: وَفِي اعْتِبَارِ مَا يُرَدُّ بِهِ مَشْهُورُهَا لِأَقْرَبِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي يُرْتَجَى فِيهَا مَعَاشُهُ انْتَهَى.
وَنَصُّ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ وَالْمُرَاعَى فِي الزَّادِ وَالْمَرْكُوبِ مَا
يَبْلُغُ دُونَ الرُّجُوعِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ إنْ بَقِيَ هُنَاكَ ضَاعَ وَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ فَيُرَاعَى مَا يَبْلُغُهُ وَيَرْجِعُ بِهِ إلَى أَقْرَبَ الْمَوَاضِعِ مِمَّا يُمْكِنُهُ التَّعَيُّشُ فِيهِ انْتَهَى.
وَعَلَى مَا قَالَهُ اللَّخْمِيُّ حَمَلَ الشَّارِحُ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ وَلَا يَسْتَقِيمُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى مَا حَكَاهُ ابْنُ مُعَلَّى عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ اعْتِبَارِ الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ إلَى بَلَدِهِ
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ أَنَّهُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ لَمْ يَشْتَرِطْ خَوْفَ الضَّيَاعِ فَلَمَّا اشْتَرَطَهُ الْمُصَنِّفُ عَلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ كَلَامَ اللَّخْمِيِّ وَمَا ذَكَرَهُ ابْن مُعْلِي عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ قَالَهُ التِّلِمْسَانِيُّ فِي شَرْحِ الْجَلَّابِ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ عَلَى الْإِنْسَانِ حَرَجًا عَظِيمًا فِي إلْزَامِهِ الْمَقَامَ بِغَيْرِ بَلَدِهِ وَلَعَلَّهُ هُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ مُعَلَّى وَقَبِلَ الْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ الْجَلَّابِ كَلَامَ التِّلِمْسَانِيِّ وَقَالَ الْجُزُولِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ أَنَّهُ الْمَشْهُورُ وَظَاهِرُ الرِّسَالَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا يُوَصِّلُهُ إلَى مَكَّةَ فَقَطْ وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ زَرُّوق قَوْلًا وَقَالَ إنَّهُ ظَاهِرُ إطْلَاقِ الرِّسَالَةِ وَنَصُّهُ إثْرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَاعْتُبِرَ مَا يُرَدُّ بِهِ يَعْنِي إلَى مَحَلٍّ يَأْمَنُ الضَّيَاعَ فِيهِ قَالَهُ اللَّخْمِيُّ وَحَكَى ابْنُ مُعَلَّى قَوْلًا بِاعْتِبَارِ مَا يَرُدُّهُ مُطْلَقًا وَاخْتَارَهُ التِّلِمْسَانِيُّ وَقِيلَ لَا يُعْتَبَرُ أَصْلًا وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّسَالَةِ وَغَيْرِهَا انْتَهَى.
((قُلْتُ)) وَلَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ وَلَا مَنْ أَبْقَى الرِّسَالَةِ عَلَى ظَاهِرِهَا إلَّا مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِحِ فِي الْوَسَطِ فَإِنَّهُ قَالَ مَذْهَبُ الرِّسَالَةِ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْقُوَّةُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى مَكَّةَ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى عَوْدِهِ وَأَمَّا فِي الْكَبِيرِ فَقَالَ ظَاهِرُ الرِّسَالَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْوُصُولُ فَقَطْ
(تَنْبِيهٌ) عَلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَهُ الْمَقَامَ فِي مَكَّةَ بِحِرْفَةٍ أَوْ تَسَبُّبٍ فَلَا يَعْتَبِرَ مَا يُرَدُّ بِهِ لَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْحِرْفَةُ لَا تَزِرِي بِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحِرَفِ الَّتِي يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ مَعَهَا وَهَذَا ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ص (وَالْبَحْرُ كَالْبَرِّ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَطَبُهُ أَوْ يُضَيِّعَ رُكْنَ صَلَاةٍ لَكَمِيدٍ)
ش: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الِاسْتِطَاعَةِ إمْكَانُ الْوُصُولُ خَشِيَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالْبَرِّ فَقَالَ: وَالْبَحْرُ كَالْبَرِّ يَعْنِي أَنَّ الْبَحْرَ طَرِيقٌ إلَى الْحَجِّ كَالْبَرِّ فَيَجِبُ سُلُوكُهُ إذَا تَعَيَّنَ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّ طَرِيقٌ سِوَاهُ كَمَنْ يَكُونُ فِي جَزِيرَةٍ أَوْ مَنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ سُلُوكُ الْبَرِّ لِخَوْفٍ وَنَحْوِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ سُلُوكُهُ فَيُخَيِّرُ فِي سُلُوكِهِ وَفِي سُلُوكِ الْبَرِّ عَلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَهُوَ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُوَ الْمَشْهُورُ قَالَهُ سَنَدٌ وَقَالَ الْبَاجِيُّ: إنَّهُ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَةَ الْحَجِّ فِيهِ إلَّا لِمَنْ لَا يَجِدُ طَرِيقًا سَوَاءٌ كَأَهْلِ الْجُزُرِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ طَرِيقًا غَيْرَهُ وَنَقَلَهُ فِي النَّوَادِرِ عَنْ الْمَجْمُوعَةِ وَقَالَ فِي الْبَيَانِ فِي رَسْمِ سَلَفٍ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَقَدْ قِيلَ: إنَّ فَرْضَ الْحَجِّ سَاقِطٌ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى مَكَّةَ إلَّا عَلَى الْبَحْرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] إذْ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ وَدَلِيلٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي الْبَحْرِ فَلَا يَصِلُ إلَيْهَا أَحَدٌ إلَّا رَاجِلًا أَوْ رَاكِبًا رَكِبَ الْبَحْرَ فِي طَرِيقِهِ أَوْ لَمْ يَرْكَبْ انْتَهَى.
وَذَكَرَ فِي الْمَوَّازِيَّةِ قَوْله تَعَالَى {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] الْآيَةَ قَالَ: مَا أَسْمَعُ لِلْبَحْرِ ذِكْرًا وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّالِثُ نَقَلَهُ ابْنُ الْحَاجِّ عَنْ ابْنِ شَعْبَانَ وَنَصُّهُ رَأَيْت فِي جَوَابٍ لِلشَّيْخِ أَبِي عِمْرَانَ الْفَاسِيِّ رحمه الله قَالَ: رَأَيْت لِابْنِ شَعْبَانَ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْجَزَائِرِ حَجٌّ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] الْآيَةَ، وَذَكَرَ لِي عَنْ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الصَّادِقِ نَحْوَ ذَلِكَ وَكَانَ شَيْخُنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ رِزْقٍ يَسْتَدِلُّ عَلَى سُقُوطِ فَرْضِ الْحَجِّ إذَا كَانَ السَّيْرُ إلَيْهِ فِي الْبَحْرِ بِمَا رَوَى عَنْ مَالِكٍ أَنَّ أَمْرَ رَاكِبُ الْبَحْرِ فِي الثُّلُثِ، وَمِنْ شَرْطِ الْحَجِّ السَّبِيلُ السَّابِلَةُ وَلَيْسَ مَعَ الْغَرَرِ أَمْنُ سَبِيلٍ أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ عَنْهُ صَاحِبُنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُشْدٍ رحمه الله انْتَهَى.
قَالَ التَّادَلِيُّ إثْرَ نَقْلِهِ هَذَا الْكَلَامَ وَقَدْ يُقَالُ: إنَّمَا جَعَلَ مَالِكٌ أَمْرَهُ فِي الثُّلُثِ إذَا رَكِبَهُ فِي حَالِ ارْتِجَاجِهِ، وَرُكُوبُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ حَكَاهُ ابْنُ مُعَلَّى عَنْ صَاحِبِ الْإِكْمَالِ، وَأَمَّا رَكُوبُهُ فِي حَالِ هُدْنَتِهِ فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَجَوَابُ مَالِكٍ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ وَقَدْ نَصَّ ابْنُ بَشِيرٍ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي عَلَى إلْحَاقِ
رَاكِبِ الْبَحْرِ بِالْمَرِيضِ إذَا رَكِبَهُ فِي حَالِ ارْتِجَاجِهِ فَقَيَّدَ الْحَالَةَ الَّتِي يَحْكُمُ فِيهَا بِأَنَّ أَمْرَ رَاكِبِ الْبَحْرِ فِي ثُلُثِهِ بِحَالَةِ الِارْتِجَاجِ فَأَعْلَمْهُ انْتَهَى.
وَمَا قَالَهُ التَّادَلِيُّ وَاضِحٌ لَا شَكَّ فِيهِ.
(تَنْبِيهٌ) نَقَلَ التَّادَلِيُّ عَنْ الْقَرَافِيِّ مَا نَصُّهُ قَالَ سَنَدٌ: قَالَ مَالِكٌ: لَا يَحُجُّ فِي الْبَحْرِ إلَّا مِثْلَ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ الْبَرَّ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ مَنْدُوحَةٌ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحُجَّ فِيهِ انْتَهَى.
وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ الْقَرَافِيُّ عَنْ سَنَدٍ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي الْقَائِلُ بِالْكَرَاهَةِ الْمُتَقَدِّمُ لَكِنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ كَلَامَ الْقَاضِي سَنَدٍ جَمِيعُهُ وَنَصُّهُ وَكَرِهَ أَنْ يَحُجَّ أَحَدٌ فِي الْبَحْرِ إلَّا مِثْلَ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ الَّذِي لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا انْتَهَى.
فَتَحْصُلُ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ الْمَشْهُورُ وُجُوبُ الْحَجِّ لِمَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بِشُرُوطِهِ وَجَوَازُ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ عَلَيْهِ. الثَّانِي سُقُوطُ الْحَجِّ عَمَّنْ لَا يُمْكِنُهُ الْحَجُّ إلَّا مِنْ الْبَحْرِ.
الثَّالِثُ كَرَاهَةُ السَّفَرِ فِيهِ إلَّا لِمَنْ لَا يَجِدُ طَرِيقًا سِوَاهُ. وَدَلِيلُ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] وَيَبْعُدُ أَنْ يَمُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا حَظَرَهُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَبُحْهُ لَهُمْ وَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَامَ عِنْدَ أُمِّ حَرَامٍ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَتْ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عَرَضُوا عَلَى غُزَاةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ» الْحَدِيثَ، وَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:«لَا يَرْكَبُ الْبَحْرَ إلَّا حَاجٌّ أَوْ مُعْتَمِرٌ أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِ الْبَحْرِ طَرِيقًا إلَى الْحَجِّ أَنْ لَا يَغْلِبَ الْعَطَبُ فِيهِ وَأَنْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَضْيِيعِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لِأَجْلِ مِيدَ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ كَزِحَامٍ وَضِيقٍ، أَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ لَا يَغْلِبَ الْعَطَبُ فِيهِ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الِاسْتِطَاعَةِ الْأَمْنُ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ فَإِذَا غَلَبَ فِيهِ حَرُمَ رُكُوبُهُ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فَيَحْرُمُ رُكُوبُهُ إذَا عَرَضَ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الدِّينِ وَقَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنْ صَاحِبِ الْإِكْمَالِ حِكَايَةَ الْإِجْمَاعِ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ اشْتِرَاطِ الْأَمْنِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي الِاسْتِطَاعَةِ خُصُوصًا إذَا جَعَلْنَا التَّشْبِيهَ فِي قَوْلِنَا كَالْبَرِّ رَاجِعًا لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسِيرِ مِنْ الْبَرِّ مِنْ اشْتِرَاطِ أَنْ لَا تَلْحَقَهُ مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ وَأَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ اللُّصُوصِ وَأَصْحَابِ الْمُكُوسِ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ فِي الْبَرِّ فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ رَاجِعًا لِذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: التَّشْبِيهُ أَفَادَ اشْتِرَاطَ الْأَمْنِ مِنْ اللُّصُوصِ وَأَصْحَابِ الْمُكُوسِ، وَهَذَا الْكَلَامُ أَفَادَ اشْتِرَاطَ الْأَمْنِ مِنْ الْبَحْرِ نَفْسِهِ أَوْ يُقَالُ: التَّشْبِيهُ إنَّمَا هُوَ فِي كَوْنِهِ طَرِيقًا يَجِبُ سُلُوكُهُ فَقَطْ، وَأَفَادَ هَذَا الْكَلَامُ بَيَانَ شُرُوطِ رُكُوبِهِ، أَوْ يُقَالُ: لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا نَبَّهَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ وَإِنْ فُهِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ لِمَزِيدِ الِاعْتِنَاءِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا فُقِدَ فَقَدْ حَرُمَ السَّفَرُ حِينَئِذٍ فِي الْبَحْرِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَغَلَبَةُ الْعَطَبِ فِيهِ بِأُمُورٍ مِنْهَا: رَكُوبُهُ فِي غَيْرِ إبَّانِهِ وَعِنْدَ هَيَجَانِهِ، قَالَ ابْنُ مُعَلَّى: تَنْبِيهٌ يَجِبُ عَلَى مَنْ أَرَادَ السَّفَرَ فِي الْبَحْرِ أَنْ لَا يَرْكَبَ الْغَرَرَ الْمُتَّفَقَ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَهُوَ رَكُوبُهُ فِي غَيْرِ إبَّانِهِ وَوَقْتَ هَيَجَانِهِ حَكَى الِاتِّفَاقَ عَلَى ذَلِكَ الْقَاضِي فِي إكْمَالِهِ
(فَإِنْ قُلْت) فَعَيِّنْ لَنَا هَذَا الْوَقْتَ حَتَّى تَجْتَنِبَهُ، ((قُلْتُ)) قَدْ نَصَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ لِأَهْلِ الْخِبْرَةِ بِهَذَا الشَّأْنِ فَإِنْ قَالُوا: إنَّ الْغَالِبَ فِيهِ الْعَطَبُ امْتَنَعَ رَكُوبُهُ وَقَدْ نَصَّ الدَّاوُدِيُّ عَلَى أَنَّ مَنْ رَكِبَ الْبَحْرَ عِنْدَ سُقُوطِهِ الثُّرَيَّا بَرِيءَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَمِنْهَا كَوْنُ ذَلِكَ الْبَحْرِ مَخُوفًا تَنْدُرُ السَّلَامَةُ فِيهِ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ: إنْ كَانَ الْبَحْرُ مَأْمُونًا يَكْثُرُ سُلُوكُهُ لِلتُّجَّارِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْحَجِّ وَإِنْ كَانَ بَحْرًا مَخُوفًا تَنْدُرُ السَّلَامَةُ مِنْهُ وَلَا يَكْثُرُ رَكُوبُ النَّاسِ لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْقِطُ فَرْضَ الْحَجِّ انْتَهَى.
وَمِنْهَا خَوْفُ عَدُوِّ الدِّينِ أَوْ الْمُفْسِدِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) تَلَخَّصَ مِنْ النُّصُوصِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّهُ إذَا غَلَبَ الْعَطَبُ فِي الطَّرِيقِ حَرُمَ الْخُرُوجُ وَقَالَ الْبُرْزُلِيُّ: سُئِلَ
اللَّخْمِيُّ فِيمَنْ خَرَجَ حَاجًّا فِي طَرِيقٍ مَخُوفَةٍ عَلَى غَرَرٍ، وَيَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَسْلَمُ هَلْ هُوَ مِنْ الْإِلْقَاءِ بِالْيَدِ إلَى التَّهْلُكَةِ أَوْ هُوَ مَأْجُورٌ بِسَبَبِ قَصْدِهِ إلَى فَرِيضَةِ الْحَجِّ وَالتَّقَرُّبِ بِالنَّفْلِ إنْ كَانَ قَدْ حَجَّ أَمْ لَيْسَ بِمَأْجُورٍ وَلَا مَأْثُومٍ؟ فَأَجَابَ: الْحَجُّ مَعَ هَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ الْغَرَرِ سَاقِطٌ وَتَحَامُلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُسْلِمُ فِيهِ مِنْ الْإِثْمِ، قَالَ الْبُرْزُلِيُّ: هَذَا بَيِّنٌ عَلَى مَا حَكَى ابْنُ رُشْدٍ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ أَنْ لَا يَخَافَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَمَّا مَا اخْتَارَهُ عِزُّ الدِّينِ مِنْ أَنَّهُ جَائِزٌ وَلَوْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ رَأَيْتُهُ فَعَلَ ذَلِكَ وَسَلِمَ فَحُمِلَ الْأَمْرُ عَلَى الْغَالِبِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ هُنَا إذَا صَلَحَتْ نِيَّتُهُ وَهَذَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤَدِّي فَرَائِضَ الصَّلَاةِ وَتَوَابِعَهَا انْتَهَى. فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي أَعْنِي قَوْلَهُ: أَوْ يُضَيِّعُ رُكْنَ صَلَاةٍ لِكَمَيْدٍ فَمَعْنَاهُ أَنَّ شَرْطَ رَكُوبِ الْبَحْرِ لِلْحَجِّ؛ فَأَحْرَى لِغَيْرِهِ أَنْ يَعْلَمَ الرَّاكِبُ أَنَّهُ يُوفِي بِصَلَاتِهِ فِي أَوْقَاتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَيِّعَ شَيْئًا مِنْ فُرُوضِهَا، وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ خَاصًّا بِالْبَحْرِ بَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ مُطْلَقًا قَالَ فِي الْمَدْخَلِ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إذَا عَلِمَ الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ تَفُوتُهُ صَلَاةٌ وَاحِدَةً إذَا خَرَجَ إلَى الْحَجِّ فَقَدْ سَقَطَ الْحَجُّ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنَّ الْحَجَّ إذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِإِخْرَاجِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا، وَشَبَهُهُ فَهُوَ سَاقِطٌ انْتَهَى.
وَقَالَ الْبُرْزُلِيُّ نَاقِلًا عَنْ الْمَازِرِيِّ فِي أَثْنَاءِ جَوَابِهِ عَنْ سُؤَالٍ مَا نَصُّهُ: إنْ كَانَ يَقَعُ فِي تَرْكِ الصَّلَوَاتِ حَتَّى تَخْرُجَ أَوْقَاتُهَا أَوْ يَأْتِيَ بِبَدَلٍ مِنْهَا فِي وَقْتِهَا وَلَمْ يُوقِعْهُ فِي ذَلِكَ إلَّا السَّفَرُ لِلْحَجِّ فَإِنَّ هَذَا السَّفَرَ لَا يَجُوزُ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ انْتَهَى.
وَلَعَلَّهُ سَقَطَ مِنْهُ قَبْلَ قَوْلِهِ أَوْ يَأْتِي بِبَدَلٍ مِنْهَا أَوْ يَتْرُكُ بَعْضَ أَرْكَانِهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَنَقَلَ التَّادَلِيُّ عَنْ الْمَازِرِيِّ أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ هِيَ الْوُصُولُ إلَى الْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ مَعَ الْأَمْنِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ إقَامَةِ الْفَرَائِضِ وَتَرْكِ التَّفْرِيطِ وَتَرْكِ الْمَنَاكِيرِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي مَنْسَكِهِ: اعْلَمْ أَنَّ تَضْيِيعَهُ لِصَلَاةٍ وَاحِدَةٍ سَيِّئَةٌ عَظِيمَةٌ لَا تُوفِيهَا حَسَنَاتُ الْحَجِّ بَلْ الْفَاضِلُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ أَهَمُّ، فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الْمَيْدَ وَلَوْ عَنْ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ بِرُكُوبِ الْبَحْرِ أَوْ الدَّابَّةِ تَرَكَ الْحَجَّ بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْحَجُّ إذَا لَمْ يَتَوَصَّلْ إلَيْهِ إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ ثُمَّ قَالَ: وَلَا يُقَصِّرُ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَيَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الِاحْتِرَازِ مَا يَجِبُ فِي الْحَضَرِ انْتَهَى.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ هِلَالٍ فِي مَنْسَكِهِ: وَبِالْجُمْلَةِ فَلِتَكُنْ الصَّلَاةُ الَّتِي هِيَ عِمَادُ الدِّينِ أَهَمَّ أُمُورِهِ فَلِيَسْتَعِدْ لَهَا ثِيَابًا طَاهِرَةً يَجِدُهَا إذَا تَنَجَّسَ ثَوْبُهُ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ إعْوَازِ الْمَاءِ، وَهَذَا إذَا كَانَ وَاجِدًا وَبَعْضُ الْقَافِلِينَ لَا يَسْتَعِدُّ إلَّا لِلَذَّةٍ لَطِيفَةٍ فَيَحْمِلُ لَذَائِذَ الْأَطْعِمَةِ وَيُصَلِّي بِالتَّيَمُّمِ وَبِالنَّجَاسَةِ وَلِتَفْرِيطِ الْحَاجِّ فِي الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرِهِمْ إيَّاهَا عَنْ أَوْقَاتِهَا يَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهِمْ: إنَّهُمْ عُصَاةٌ وَقَدْ أُخِذَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: لَا يَجُوزُ رَكُوبُ الْبَحْرِ لِلْحَجِّ إذَا أَدَّى لِتَعْطِيلِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ مَتَى خِيفَ تَعْطِيلُهَا فِي الْبَرِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّفَرُ إلَى الْحَجِّ، فَقَدْ سُئِلَ الْمَازِرِيُّ عَنْ حُكْمِ الْحَجِّ فِي زَمَنِهِ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ مَتَى وَجَدَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَمِنَ أَنْ يُفْتَنَ عَنْ دِينِهِ وَأَنْ يَقَعَ فِي مُنْكَرَاتٍ أَوْ إسْقَاطِ وَاجِبَاتٍ مِنْ صَلَوَاتٍ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ وُجُوبُهُ قَالَ: وَإِنْ كَانَ يَقَعُ فِي تَرْكِ صَلَوَاتٍ حَتَّى يَخْرُجَ أَوْقَاتُهَا وَلَمْ يُوقِعْهُ فِي ذَلِكَ إلَّا السَّفَرُ لِلْحَجِّ فَهَذَا السَّفَرُ لَا يَجُوزُ وَيَسْقُطُ عَنْهُ فَرْضُ الْحَجِّ، قَالَ: وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَرَى مُنْكَرَاتٍ وَيَسْمَعُهَا فَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ انْتَهَى.
وَنَكَّرَ الْمُصَنِّفُ رُكْنًا لِيَشْمَلَ جَمِيعَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَأَدْخَلَ الْكَافَ عَلَى كَمَيْدٍ لِيَدْخُلَ الزِّحَامُ وَالضَّيِّقُ وَكَثْرَةُ النَّجَاسَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَمَالَ الْبَاجِيُّ إلَى رَكُوبِ الْبَحْرِ وَإِنْ أَدَّى إلَى تَضْيِيعِ بَعْضِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ لِمَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ رَكُوبِهِ لِلْجِهَادِ وَفَرَّقَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْجِهَادِ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَالْقِيَامُ بِهَا أَشْرَفُ مِنْ الْقِيَامِ بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْقِيَامِ بِالتَّوْحِيدِ كُفْرٌ وَعَدَمُ الْقِيَامِ بِالصَّلَاةِ لَيْسَ بِكُفْرٍ عَلَى الْمَعْرُوفِ وَبِضِدِّهَا تَتَبَيَّنُ الْأَشْيَاءُ وَالْحَجُّ مَعَ الصَّلَاةِ بِالْعَكْسِ إذْ هِيَ أَفْضَلُ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْجِهَادِ
فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَعَيَّنَ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَعَيَّنْ فَبَعِيدٌ أَنْ يُقَالَ: بِرُكُوبِهِ وَإِنْ أَدَّى لِتَضْيِيعِ بَعْضِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ انْتَهَى.
وَلَمْ يُبَيِّنْ الْبَاجِيُّ مَا الَّذِي يُسْتَخَفُّ تَضْيِيعُهُ وَذَكَرَ اللَّخْمِيُّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ إلَّا جَالِسًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْجُدَ إلَّا عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ وَنَصُّهُ وَالْحَجُّ فِي الْبَحْرِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ فِي الْجَزَائِرِ، مِثْلُ صِقِلِّيَّةَ وَالْأَنْدَلُسِ؛ لِأَنَّهَا بِحَارٌ مَارِجَةٌ إذَا كَانَ الرَّاكِبُ يُوفِي بِصَلَاتِهِ وَلَا يُعَطِّلُهَا وَلَا يَنْقُصُ فُرُوضُهَا فَإِنْ كَانَ يُعْرَضُ لَهُ مَيْدٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الصَّلَاةِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَأْتِيَ بِفَرْضٍ لِيُسْقِطَ فُرُوضًا، وَيَخْتَلِفُ إذَا كَانَ يَأْتِي بِصَلَاتِهِ جَالِسًا أَوْ لَا يَجِدُ مَوْضِعًا لِسُجُودِهِ لِضِيقِ الْمَوْضِعِ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ إلَّا عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ فَلَا يَرْكَبُهُ أَيَرْكَبُ حَيْثُ لَا يُصَلِّي، وَيْلٌ لِمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ، وَقَالَ أَشْهَبُ فِيمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ إلَّا عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: إنَّهُ يُجْزِئُهُ وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ إذَا كَانَ يَأْتِي بِالْبَدَلِ وَإِنْ كَانَ دُونَ الْأَوَّلِ فِي الرُّتْبَةِ إنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ كَاَلَّذِي يُسَافِرُ حَيْثُ لَا يَجِدُ الْمَاءَ وَيَنْتَقِلُ لِلتَّيَمُّمِ فَخَرَجَ عَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ فِي الْجُمُعَةِ بِالْإِجْزَاءِ لُزُومُ الْحَجِّ مَعَ ذَلِكَ وَقَاسَ مَنْعُ رُكُوبِهِ حَيْثُ يُصَلِّي جَالِسًا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ فِي مَنْعِ رُكُوبِهِ حَيْثُ يَسْجُدُ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ فَسَاوَى بَيْنَ تَرْكِ الْقِيَامِ وَالسُّجُودِ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ، وَقَبِلَ ابْنُ عَرَفَةَ كَلَامَهُ؛ فَقَالَ: وَفِي كَوْنِهِ مَعَ الصَّلَاةِ جَالِسًا أَوْ السُّجُودِ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ مُسْقِطًا أَوْ لَا سَمَاعُ أَشْهَبَ وَتَخْرِيجُ اللَّخْمِيِّ عَلَى قَوْلِ أَشْهَبَ فِي الْجُمُعَةِ بِصِحَّةِ جُمُعَةِ مَنْ سَجَدَ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ وَإِبَاحَةِ سَفَرٍ يَنْقُلُ لِلتَّيَمُّمِ انْتَهَى.
فَعَزَا لِسَمَاعِ أَشْهَبَ: سُقُوطُ الْحَجِّ بِصَلَاتِهِ جَالِسًا وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ نَصًّا وَلَكِنَّهُ تَبِعَ اللَّخْمِيَّ فِي مُسَاوَاتِهِ بَيْنَ الصَّلَاةِ جَالِسًا وَالسُّجُودِ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ وَتَبِعَ اللَّخْمِيّ عَلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا ابْنُ فَرْحُونٍ فِي شَرْحِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَهُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ عُمُومِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَكَلَامِ الْبُرْزُلِيِّ وَصَرَّحَ بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ فِي شَرْحِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اخْتَصَرَهَا مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ فَقَالَ: إذَا عَلِمَ شَخْصٌ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَمِيدُ حَتَّى يَئُولَ أَمْرُهُ إلَى تَعْطِيلِ الصَّلَاةِ أَوْ الْخَلَلِ بِشَيْءٍ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ رُكُوبُهُ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْقِيَامُ لِأَجْلِ خَوْفِ الْغَرَقِ أَوْ الِاطِّلَاعِ عَلَى مُحَرَّمٍ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَحَصَلَ لَهُ شَيْءٌ مَنَعَهُ مِنْ الْقِيَامِ فَهَذَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ قَاعِدًا انْتَهَى.
وَقَالَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ بْنُ هِلَالٍ فِي مَنْسَكِهِ: وَأَمَّا الَّذِي يَمِيدُ حَتَّى يَمْنَعَهُ الصَّلَاةَ؛ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرْكَبُ حَيْثُ لَا يُصَلِّي وَإِنْ كَانَ يُصَلِّي جَالِسًا فَإِنَّ اللَّخْمِيَّ خَرَّجَ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: الْجَوَازُ وَالْمَنْعُ، وَصَحَّحَ الْجَوَازَ انْتَهَى.
وَسَمَاعُ أَشْهَبَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ هُوَ كَلَامُ مَالِكٍ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ اللَّخْمِيِّ فَإِنَّهُ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الصَّلَاةِ وَصَرَّحَ ابْنُ رُشْدٍ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِأَنَّهُ إذَا رَكِبَهُ وَكَانَ يَسْجُدُ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ أَنَّهُ يُعِيدُ أَبَدًا وَانْظُرْ إذَا أَدَّاهُ ذَلِكَ لِلصَّلَاةِ جَالِسًا وَمُقْتَضَى كَلَامِ اللَّخْمِيِّ السَّابِقِ أَنَّهُ مِثْلُ الَّذِي يَسْجُدُ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَهُوَ مُقْتَضَى إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ. وَكَلَامُ الْبُرْزُلِيِّ وَمَا قَالَهُ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ وَلَمْ يَرْتَضِ صَاحِبُ الطِّرَازِ مُسَاوَاةَ اللَّخْمِيِّ بَيْنَ صَلَاتِهِ جَالِسًا وَسُجُودِهِ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ وَنَصُّهُ وَيَخْتَلِفُ إذَا كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ السُّجُودُ لِزِحَامِ النَّاسِ، فَذَكَرَ كَلَامَ مَالِكٍ وَقَوْلَ أَشْهَبَ فِي الْجُمُعَةِ وَالتَّخْرِيجِ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: وَخَرَّجَ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا: إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ وَقَدَرَ عَلَى الْجُلُوسِ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ السُّجُودَ آكَدُ وَلِهَذَا يَسْقُطُ الْقِيَامُ فِي النَّقْلِ وَفِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَالْقِيَامُ يَتَرَخَّصُ بِتَرْكِهِ فِي حَالٍ وَالسُّجُودُ لَا يُتْرَكُ إلَّا بِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِي كُلِّ حَالٍ، نَعَمْ إنْ كَانَ يَتَصَرَّعُ فَلَا يَتَمَسَّكُ جَالِسًا فَهُوَ كَتَرْكِهِ السُّجُودَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يُرَخِّصْ فِي ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ بِخِلَافِ الْجُلُوسِ انْتَهَى.
فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إذَا قُلْنَا بِسُقُوطِ الْحَجِّ لِأَجْلِ السُّجُودِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقِيسَ عَلَيْهِ السُّقُوطَ