الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَذَاكَ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِ مُسَطَّرًا
…
وَمَا جَاءَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ سَطَرْنَاهُ
قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ فِي مَنَاسِكِهِ: وَإِنَّمَا أُتِيَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِي عَدَمِ قَبُولِ عِبَادَاتِهِمْ وَعَدَمِ اسْتِجَابَةِ دَعَوَاتِهِمْ لِعَدَمِ تَصْفِيَةِ أَقْوَاتِهِمْ عَنْ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ انْتَهَى.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فَإِنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ أَوْ بِشُبْهَةٍ فَحَجُّهُ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَبْرُورٍ انْتَهَى، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْمَبْرُورَ هُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ مَأْثَمٌ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ لَمْ يَتَحَقَّقْ وُقُوعُهُ فِي الْإِثْمِ وَقَدْ حَمَلَ الْعُلَمَاءُ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم: وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ عُمْدَةِ الْأَحْكَامِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ تَعَاطَى الشُّبُهَاتِ وَدَاوَمَ أَفْضَتْ بِهِ إلَى الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ، وَالثَّانِي أَنَّ مَنْ تَعَاطَى الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَإِنْ كَانَ لَا يَشْعُرُ بِهَا فَمُنِعَ مِنْ تَعَاطَى الشُّبُهَاتِ لِذَلِكَ انْتَهَى. وَنَحْوُهُ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ فَمَنْ تَعَاطَى مَا فِيهِ شُبْهَةٌ لَا يُحْرَمُ فَإِنَّهُ آثِمٌ إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الشُّبُهَاتِ حَرَامٌ وَقِيلَ: إنَّهَا حَلَالٌ وَصَوَّبَ الْقُرْطُبِيُّ فِي الْمُفْهِمِ الْقَوْلَ بِالْكَرَاهَةِ انْتَهَى مِنْ شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ لِلْفَاكِهَانِيِّ وَلِأَنَّهُمْ عَدُّوا مِنْ الشُّبُهَاتِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْفَاكِهَانِيُّ وَالزَّنَاتِيُّ وَغَيْرُهُمْ وَابْنُ نَاجِي وَمَنْ ارْتَكَبَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ لَا نَقُولُ فِيهِ إثْمٌ فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ فَإِنْ حَجَّ بِشُبْهَةٍ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَكُونَ حَجُّهُ مَبْرُورًا وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْحَلَالِ هَلْ هُوَ مَا عُلِمَ أَصْلُهُ أَوْ مَا جُهِلَ أَصْلُهُ: وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ كَثِيرُونَ الثَّانِي مِنْهُمْ الشَّيْخُ الْفَاكِهَانِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ الْأَرْبَعِينَ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي مَنْسَكِهِ ثُمَّ يُنْظَرُ فِي أَمْرِ الزَّادِ وَمَا يُنْفِقُهُ فَيَكُونُ مِنْ أَطْيَبِ جِهَةٍ لِأَنَّ الْحَلَالَ يُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُكَسِّلُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَكَانَ السَّلَفُ رضي الله عنهم يَتْرُكُونَ سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ هَذَا وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِغَيْرِ الْحَجِّ فَمَا بَالُكَ بِالْحَجِّ انْتَهَى، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَكَلَ الْحَلَالَ أَطَاعَ اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى وَمَنْ أَكَلَ الْحَرَامَ عَصَى اللَّهَ شَاءَ أَوْ أَبَى» ذَكَرَهُ فِي الْمَدْخَلِ وَقَالَ عليه السلام:«طَلَبُ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ» وَقَالَ عليه السلام «مَنْ أَمْسَى وَانِيًا مِنْ طَلَبِ الْحَلَالِ بَاتَ مَغْفُورًا لَهُ» وَقَوْلُهُ وَانِيًا مِنْ قَوْلِهِمْ وَنَى إذَا تَعِبَ وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها «أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ الْمُؤْمِنُ قَالَ الَّذِي إذَا أَصْبَحَ سَأَلَ مِنْ أَيْنَ قُرْصُهُ وَإِذَا أَمْسَى سَأَلَ مِنْ أَيْنَ قُرْصُهُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ عَلِمَ النَّاسُ لَتَكَلَّفُوهُ قَالَ: قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ غَشَمُوا الْمَعِيشَةَ غَشْمًا» أَيْ تَعَسَّفُوا تَعَسُّفًا، وَقَالَ ابْنُ عَبْدُوسٍ عِمَادُ الدِّينِ وَقَوَامُهُ طِيبُ الْمَطْعَمِ فَمَنْ طَابَ كَسْبُهُ زَكَا عَمَلُهُ وَمَنْ لَمْ يُصَحِّحْ فِي طِيبِ مَكْسَبِهِ خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ لَا تُقْبَلَ صَلَاتُهُ وَصِيَامُهُ وَحَجُّهُ وَجِهَادُهُ وَجَمِيعُ عَمَلِهِ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] انْتَهَى
[تَنْبِيهَاتٌ خَرَجَ لِحَجٍّ وَاجِبٍ بِمَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ]
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) قَالَ ابْنُ مُعَلَّى: قَالَ الْغَزَالِيُّ مَنْ خَرَجَ لِحَجٍّ وَاجِبٍ بِمَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ فَلْيَجْتَهِدْ أَنْ يَكُونَ قُوتُهُ مِنْ الطَّيِّبِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَمِنْ وَقْتِ الْإِحْرَامِ إلَى التَّحَلُّلِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيَجْتَهِدْ يَوْمَ عَرَفَةَ لِئَلَّا يَكُونَ قِيَامُهُ بَيْنَ يَدْيِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَدُعَاؤُهُ فِي وَقْتٍ مَطْعَمُهُ فِيهِ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ فَإِنَّا وَإِنْ جَوَّزْنَا هَذَا لِلْحَاجَةِ فَهُوَ نَوْعُ ضَرُورَةٍ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلْيُلْزِمْ قَلْبَهُ الْخَوْفَ وَالْغَمَّ لِمَا هُوَ مُضْطَرٌّ إلَيْهِ مِنْ تُنَاوِلْ مَا لَيْسَ بِطَيِّبٍ فَعَسَاهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ وَيَتَجَاوَزُ عَنْهُ بِسَبَبِ حُزْنِهِ وَخَوْفِهِ وَكَرَاهَتِهِ انْتَهَى، وَنَقَلَهُ التَّادَلِيُّ وَقَالَ قَبْلَهُ: وَجَدْت بِخَطِّ الشَّيْخِ الصَّالِحِ أَبِي إِسْحَاقَ إبْرَاهِيمَ بْنِ يَحْيَى الْمَعْرُوفِ بِابْنِ الْأَمِينِ مِنْ تَلَامِذَةِ ابْنِ رُشْدٍ عَلَى ظَهْرِ شَرْحِهِ لِكِتَابِ الْمُوَطَّإِ مَا نَصُّهُ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ: قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَجَّ بِمَالٍ فِيهِ شَيْءٌ أَنْ يُنْفِقَهُ فِي سَفَرِهِ وَمَا يُرِيدُ مِنْ حَوَائِجِهِ وَلْيَتَحَرَّ أَطْيَبَ مَا يَجِدُ فَيُنْفِقُهُ مِنْ حِينِ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ فِيمَا يَأْكُلُ وَيَلْبَسُ مِنْ ثِيَابِ إحْرَامِهِ وَشِبْهُ هَذَا وَرَأَيْتُهُ يَسْتَحِبُّ هَذَا وَيُعْجِبُنِي أَنْ يُعْمَلَ بِهِ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ انْتَهَى. وَنَقَلَهُ
ابْنُ فَرْحُونٍ جَمِيعَهُ قَالَ: وَذَكَرَهُ بَعْضُ السَّلَفِ انْتَهَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) إذَا عَجَزَ عَنْ الْمَالِ الْحَلَالِ السَّالِمِ مِنْ الشُّبْهَةِ وَالْحَرَامِ فَقَالَ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ: فَلْيَقْتَرِضْ مَالًا حَلَالًا يَحُجُّ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا انْتَهَى. وَفِي مَنْسَكِ ابْنِ جَمَاعَةَ الْكَبِيرِ: وَإِنْ اقْتَرَضَ لِلْحَجِّ مَالًا حَلَالًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَهُ وَفَاءٌ بِهِ وَرَضِيَ الْمُقْرِضُ فَلَا بَأْسَ بِهِ انْتَهَى. فَهَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ أَعْنِي رِضَا الْمُقْرِضِ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ وَرِعٌ فِي حَجِّهِ غَيْرُ وَرِعٍ فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ كَمَنْ يَقْتَرِضُ مَالًا حَلَالًا لِيُنْفِقَهُ وَيَقْضِيَهُ مِنْ مَالٍ فِيهِ شُبْهَةٌ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُرْزُلِيُّ طَرَفًا مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ فَانْظُرْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(الثَّالِثُ) كَمَا طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الَّذِي يَحُجُّ بِهِ خَالِصًا مِنْ الْحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ كَذَلِكَ هُوَ مَطْلُوبٌ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ لِلَّهِ - تَعَالَى - بَلْ هُوَ أَهَمُّ فَلَا يَخْرُجُ لِيُقَالَ: إنَّهُ حَاجٌّ أَوْ لِيُعَظَّمَ أَوْ لِيُعْطَى الْفُتُوحَاتِ فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ رِيَاءٌ وَالرِّيَاءُ حَرَامٌ بِالْإِجْمَاعِ، قَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ فِي مَنْسَكِهِ الْكَبِيرِ: وَأَهَمُّ مَا يَهْتَمُّ بِهِ قَاصِدُ الْحَجِّ إخْلَاصُهُ لِلَّهِ وَحْدَهُ فَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إذَا جَمَعَ اللَّهُ النَّاسَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ» وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» انْتَهَى.
وَقَالَ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ الْإِحْيَاءِ: وَلْيَجْعَلْ عَزْمَهُ خَالِصًا لِوَجْهِ اللَّهِ عز وجل بَعِيدًا عَنْ شَوَائِبِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَلْيَتَحَقَّقْ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ قَصْدِهِ وَعَمَلِهِ إلَّا الْخَالِصَ فَإِنَّ مِنْ أَفْحَشِ الْفَوَاحِشِ أَنْ يَقْصِدَ بَيْتَ الْمَلِكِ وَحُرْمَتَهُ وَالْمَقْصُودُ غَيْرُهُ فَلْيُصَحِّحْ مَعَ نَفْسِهِ الْعَزْمَ وَتَصْحِيحُهُ بِإِخْلَاصِهِ وَإِخْلَاصُهُ بِاجْتِنَابِ كُلِّ مَا فِيهِ رِيَاءٌ أَوْ سُمْعَةٌ وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَسْتَبْدِلَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ انْتَهَى.
وَاسْتَحَبُّوا لَهُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ يَدُهُ فَارِغَةً مِنْ التِّجَارَةِ لِيَكُونَ قَلْبُهُ مَشْغُولًا بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ فَقَطْ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ حَجِّهِ وَلَا يَأْثَمُ بِهِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ فِي الْحَجِّ لِلْحَاجِّ مَعَ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَأَنَّ الْقَصْدَ إلَى ذَلِكَ لَا يَكُونُ شِرْكًا وَلَا يَخْرُجُ بِهِ الْمُكَلَّفُ عَنْ رَسْمِ الْإِخْلَاصِ الْمُفْتَرَضِ عَلَيْهِ خِلَافًا لِلْفَرَّاءِ أَمَّا الْحَجُّ دُونَ تِجَارَةٍ فَهُوَ أَفْضَلُ لِعَرْوِهَا عَنْ شَوَائِبِ الدُّنْيَا وَتَعَلُّقِ الْقَلْبِ بِغَيْرِهَا انْتَهَى. وَقَالَ التَّادَلِيُّ: قَالَ صَاحِبُ السِّرَاجِ قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَا تُعَارِضُ التِّجَارَةُ نِيَّةَ الْحَجِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [البقرة: 198] الْآيَةُ قَالُوا: يَعْنِي فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ مُعَلَّى وَقَالَ الشَّيْخُ يَحْيَى النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ رضي الله عنهم: يُسْتَحَبُّ لِمُرِيدِ الْحَجِّ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ فَارِغَةً مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ ذَاهِبًا وَرَاجِعًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُشْغِلُ الْقَلْبَ قَالَ: فَإِنْ اتَّجَرَ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ حَجِّهِ.
((قُلْتُ)) : إطْلَاقُ الشَّيْخِ اسْتِحْبَابَ تَرْكِ التِّجَارَةِ فِي سَفَرِ الْحَجِّ وَتَعْلِيلُهُ بِشُغْلِ الْقَلْبِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُقَيَّدًا مِنْ حِينِ إحْرَامِهِ إلَى آخِرِ حَجِّهِ لِأَنَّ الِاشْتِغَالَ بِهَا حِينَئِذٍ مُبَدِّدٌ لِلْخَاطِرِ وَمُصْرِفٌ عَنْ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْإِقْبَالِ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَأَمَّا فِي ابْتِدَاءِ السَّفَرِ فَلَا وَجْهَ لِاسْتِحْبَابِ تَرْكِهِ إذْ لَيْسَ لَهُ مَا يَشْغَلُهُ التِّجَارَةُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يُقَالَ هُوَ وَإِنْ اشْتَغَلَ بِهَا فِي ابْتِدَاءِ سَفَرِهِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَسَادِ سِلْعَتِهِ وَعَدَمِ نَفَادِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقْصِدُهُ فَيَمْتَنِعُ بِسَبَبِ ذَلِكَ مِنْ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْحَجِّ أَوْ لَا يَسَعُهُ الْوَقْتُ لِمُحَاوِلَةِ بَيْعِهَا فَيَقْطَعُهُ عَنْ مَقْصُودِهِ وَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا سَمِعْت بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ: خَرَجْت لِلْحَجِّ فَلَمَّا دَخَلْت تُونُسَ أَشَارَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّاسِ بِشِرَاءِ سِلْعَةٍ أَحْمِلُهَا إلَى مَكَّةَ فَفَعَلَتْ فَدَخَلَتْهَا فِي سَابِعِ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ فَضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ بَيْعِهَا فَعَزَمْت عَلَى الْقُعُودِ إلَى سَنَةٍ أُخْرَى فَقَيَّضَ اللَّهُ لِي مُسَلِّفًا فَخَرَجْت فِي الْحِينِ.
قُلْت: فَإِذَا كَانَتْ سَبَبًا لِذَلِكَ فَالْجَزْمُ تَرْكُهَا أَوْ يُقَالُ: وَجْهُ اسْتِحْبَابِهِ إخْلَاصُ النِّيَّةِ لِلْعِبَادَةِ حَتَّى لَا يَشُوبَهَا شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الدُّنْيَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ لِأَنَّهُ اسْتَحَبَّ تَرْكَهَا ذَاهِبًا
وَرَاجِعًا انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ الْمُعَلَّى وَقَدْ اعْتَرَضَ عَلَى الشَّيْخِ يَحْيَى النَّوَوِيُّ فِي قَوْلِهِ رَاجِعًا إذَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ فِي الذَّهَابِ وَلَمْ تَشْغَلْهُ ثُمَّ قَالَ: وَقَوْلُهُ فَإِنْ اتَّجَرَ إلَى آخِرِهِ يُرِيدُ بِشَرْطِ أَنْ يُخْلِصَ لِلْحَجِّ النِّيَّةَ وَتَكُونَ التِّجَارَةُ بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لَا بِالْعَكْسِ وَقَدْ بَالَغَ أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ الْإِخْلَاصِ فِي النِّيَّةِ وَحُكْمِ الْعِبَادَةِ إذَا كَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا أَغْرَاضًا دُنْيَوِيَّةً وَحَرَّرَهُ غَايَةَ التَّحْرِيرِ الْإِمَامُ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا» الْحَدِيثُ، فَقَالَ: يُفْهَمُ مِنْهُ اشْتِرَاطُ الْإِخْلَاصِ فِي الْجِهَادِ وَكَذَلِكَ هُوَ شَرْطٌ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وَالْإِخْلَاصُ مَصْدَرُ أَخْلَصْتُ الْعَسَلَ إذَا صَفَّيْته مِنْ شَوَائِبِ كَدَرِهِ فَالْمُخْلِصُ فِي عِبَادَتِهِ هُوَ الَّذِي يُخَلِّصُهَا مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ وَالرِّيَاءِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى لَهُ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى عَمَلِهَا قَصْدَ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَابْتِغَاءَ مَا عِنْدَهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْبَاعِثُ عَلَيْهَا غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِ الدُّنْيَا فَلَا تَكُونُ عِبَادَةً بَلْ تَكُونُ مُصِيبَةً مُوبِقَةً لِصَاحِبِهَا فَإِمَّا كُفْرٌ وَهُوَ الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ وَإِمَّا رِيَاءٌ وَهُوَ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ وَمَصِيرُ صَاحِبِهِ إلَى النَّارِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورِينَ فِيهِ.
((قُلْتُ)) : الْحَدِيثُ الْمُشَارُ إلَيْهِ فِي مُسْلِمٍ وَنَصُّهُ عَنْهُ رضي الله عنه: قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَجُلٌ اُسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ اللَّهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْت فِيهَا، قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اُسْتُشْهِدْت، قَالَ: كَذَبْت وَلَكِنْ قَاتَلْت لِيُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْت لِي فِيهَا قَالَ: تَعَلَّمْت الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ، قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتَهُ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا فَعَلْت فِيهَا قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ» .
قَالَ الْإِمَامُ الْمَذْكُورُ: هَذَا إذَا كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْغَرَضُ الدُّنْيَوِيُّ وَحْدَهُ بِحَيْثُ لَوْ فُقِدَ ذَلِكَ الْغَرَضُ لَتَرَكَ الْعَمَلَ وَأَمَّا لَوْ انْبَعَثَ لِلْعِبَادَةِ بِمَجْمُوعِ الْبَاعِثَيْنِ بَاعِثُ الدِّينِ وَبَاعِثُ الدُّنْيَا فَإِنْ كَانَ بَاعِثُ الدُّنْيَا أَقْوَى أَوْ مُسَاوِيًا لَحِقَ بِالْقَسَمِ الْأَوَّلِ فِي الْحُكْمِ بِإِبْطَالِ الْعَمَلِ عِنْدَ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ قَوْلُهُ عليه السلام حِكَايَةً عَنْ اللَّهِ - تَعَالَى - «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» فَأَمَّا لَوْ كَانَ بَاعِثُ الدِّينِ أَقْوَى فَقَدْ حَكَمَ الْمُحَاسِبِيُّ بِإِبْطَالِ ذَلِكَ الْعَمَلِ مُتَمَسِّكًا بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَخَالَفَهُ الْجُمْهُورُ وَقَالُوا بِصِحَّةِ الْعَمَلِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ فُرُوعِ مَالِكٍ رضي الله عنه وَيُسْتَدَلُّ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ مِنْ خَيْرِ مَعَاشِ النَّاسِ رَجُلًا مُمْسِكًا فَرَسَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» فَجَعَلَ الْجِهَادَ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُتَّخَذَ لِلْمَعَاشِ وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لَكِنْ لَمَّا كَانَ بَاعِثُ الدِّينِ الْأَقْوَى كَانَ ذَلِكَ الْغَرَضُ مُلْغًى فَيَكُونُ مَعْفُوًّا عَنْهُ كَمَا إذَا تَوَضَّأَ قَاصِدًا رَفْعَ الْحَدَثِ وَالتَّبَرُّدَ فَأَمَّا لَوْ انْفَرَدَ بَاعِثُ الدِّينِ بِالْعَمَلِ ثُمَّ عَرَضَ بَاعِثُ الدُّنْيَا فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ فَأَوْلَى بِالصِّحَّةِ انْتَهَى كَلَامُهُ رحمه الله انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ مُعَلَّى وَالْقُرْطُبِيِّ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ الْإِمَامُ الْمُحَدِّثُ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ إبْرَاهِيمَ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتّمِائَةِ وَالْقُرْطُبِيُّ الْمُتَقَدِّمُ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ هُوَ الْعَلَّامَةُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ فَرَجٍ مَاتَ سَنَةَ إحْدَى وَسَبْعِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلِلْقَرَافِيِّ فِي قَوَاعِدِهِ كَلَامٌ يُخَالِفُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مُعَلَّى رَأَيْت أَنْ أَذْكُرَهُ بِكَمَالِهِ كَمَا ذَكَرْت الْأَوَّلَ لِتَتِمَّ الْفَائِدَةُ وَيُحِيطَ النَّاظِرُ بِهَا عِلْمًا وَنَصُّهُ الْفَرْقُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ
وَالْمِائَةُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَةِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْرِيكِ فِيهَا، اعْلَمْ أَنَّ الرِّيَاءَ شِرْكٌ وَتَشْرِيكٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي طَاعَتِهِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْمَعْصِيَةِ وَالْإِثْمِ وَالْبُطْلَانِ فِي تِلْكَ الْعِبَادَاتِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُحَاسِبِيُّ وَغَيْرُهُ وَيُعَضِّدُهُ مَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ خَرَّجَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ:«أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ لَهُ أَوْ تَرَكْتُهُ لِشَرِيكِي» فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِذَلِكَ الْعَمَلِ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُخْلِصِ لِلَّهِ - تَعَالَى - غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وَمَا هُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْمَأْمُورِ بِهِ فَلَا يُعْتَدُّ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ وَتَحْقِيقُ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ وَسِرُّهَا وَضَابِطُهَا أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ الْمُتَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - وَيَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَأَنْ يُعَظِّمَهُ النَّاسُ أَوْ بَعْضُهُمْ فَيَصِلُ إلَيْهِ نَفْعُهُمْ أَوْ يَنْدَفِعَ بِهِ ضَرَرُهُمْ فَهَذَا هُوَ قَاعِدَةُ أَحَدِ مُسَمِّي الرِّيَاءِ، وَالْقِسْمُ الْآخَرُ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ لَا يُرِيدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ أَلْبَتَّةَ بَلْ النَّاسَ فَقَطْ وَيُسَمَّى هَذَا الْقِسْمُ رِيَاءَ الْإِخْلَاصِ وَالْأَوَّلُ رِيَاءَ الشِّرْكِ وَأَغْرَاضُ الرِّيَاءِ ثَلَاثَةٌ التَّعْظِيمُ وَجَلْبُ الْمَصَالِحِ وَدَفْعُ الْمَضَارِّ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأَخِيرَانِ يَتَفَرَّعَانِ عَلَى الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ إذَا عُظِّمَ انْجَلَبَتْ إلَيْهِ الْمَصَالِحُ وَانْدَفَعَتْ عَنْهُ الْمَفَاسِدُ فَهُوَ الْغَرَضُ الْكُلِّيُّ فِي الْحَقِيقَةِ.
وَأَمَّا مُطْلَقُ التَّشْرِيكِ كَمَنْ يُجَاهِدُ لِتَحْصِيلِ طَاعَةِ اللَّهِ بِالْجِهَادِ وَلِيَحْصُلَ لَهُ الْمَالُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَهَذَا لَا يَضُرُّهُ وَلَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لَهُ هَذَا فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ فَفَرْقٌ بَيْنَ جِهَادِهِ لِيَقُولَ النَّاسُ هَذَا شُجَاعٌ أَوْ لِيُعَظِّمَهُ الْإِمَامُ فَيُكْثِرَ عَطَاءَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ هَذَا وَنَحْوُهُ رِيَاءٌ حَرَامٌ وَبَيْنَ أَنْ يُجَاهِدَ لِتَحْصِيلِ السَّبَايَا وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ مِنْ جِهَةِ أَمْوَالِ الْعَدُوِّ.
مَعَ أَنَّهُ قَدْ شَرَّكَ وَلَا يُقَالُ لِهَذَا رِيَاءٌ بِسَبَبِ أَنَّ الرِّيَاءَ أَنْ يَعْمَلَ لِيَرَاهُ غَيْرُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ وَالرُّؤْيَةُ لَا تَصِحُّ إلَّا مِنْ الْخَلْقِ فَمَنْ لَا يَرَى وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُقَالُ فِي الْعَمَلِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ رِيَاءٌ وَالْمَالُ الْمَأْخُوذُ فِي الْغَنِيمَةِ وَنَحْوُهُ لَا يُقَالُ أَنَّهُ يَرَى وَيُبْصِرُ فَلَا يَصْدُقُ عَلَى هَذِهِ الْأَغْرَاضِ لَفْظُ الرِّيَاءِ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ فِيهَا وَكَذَلِكَ مَنْ حَجَّ وَشَرَّكَ فِي حِجِّهِ غَرَضَ الْمَتْجَرِ وَيَكُونُ جُلُّ مَقْصُودِهِ أَوْ كُلُّهُ السَّفَرُ لِلتِّجَارَةِ خَاصَّةً وَيَكُونُ الْحَجُّ إمَّا مَقْصُودًا مَعَ ذَلِكَ أَوْ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَيَقَعُ تَابِعًا اتِّفَاقًا فَهَذَا أَيْضًا لَا يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ الْحَجِّ وَلَا يُوجِبُ إثْمًا وَلَا مَعْصِيَةً وَكَذَلِكَ مَنْ صَامَ لِيَصِحَّ جَسَدُهُ أَوْ لِيَحْصُلَ لَهُ زَوَالُ مَرَضٍ مِنْ الْأَمْرَاضِ الَّتِي يُنَافِيهَا الصَّوْمُ وَيَكُونُ التَّدَاوِي هُوَ مَقْصُودُهُ أَوْ بَعْضُ مَقْصُودِهِ وَالصَّوْمُ مَقْصُودٌ مَعَ ذَلِكَ.
وَأَوْقَعَ الصَّوْمَ مَعَ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ لَا يَقْدَحُ فِي صَوْمِهِ بَلْ أَمَرَ بِهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ فِي قَوْلِهِ «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» أَيْ قَاطِعٌ فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِالصَّوْمِ لِهَذَا الْغَرَضِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ قَادِحًا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعِبَادَةِ إلَّا مَعَهَا وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُجَدِّدَ وُضُوءَهُ لِيَحْصُلَ لَهُ التَّبَرُّدُ أَوْ التَّنَظُّفُ وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ لَا يَدْخُلُ فِيهَا تَعْظِيمُ الْخَلْقِ بَلْ هِيَ لَتَشْرِيكِ أُمُورٍ مِنْ الْمَصَالِحِ لَيْسَ لَهَا إدْرَاكٌ وَلَا تَصْلُحُ لِلْإِدْرَاكِ وَلَا لِلتَّعْظِيمِ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْعِبَادَاتِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ قَاعِدَةِ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَاتِ وَبَيْنَ قَاعِدَةِ التَّشْرِيكِ فِيهَا غَرَضٌ آخَرُ غَيْرُ الْخَلْقِ مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ تَشْرِيكٌ، نَعَمْ لَا يَمْنَعُ أَنَّ هَذِهِ الْأَغْرَاضِ الْمُخَالِطَةِ لِلْعِبَادَةِ قَدْ تُنْقِصُ الْأَجْرَ وَأَنَّ الْعِبَادَةَ إذَا تَجَرَّدَتْ عَنْهَا زَادَ الْأَجْرُ وَعَظُمَ الثَّوَابُ أَمَّا الْإِثْمُ وَالْبُطْلَانُ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ وَمِنْ جِهَتِهِ حَصَلَ الْفَرْقُ لَا مِنْ جِهَةِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَقِلَّتِهِ انْتَهَى.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ التَّشْرِيكَ بِجَمِيعِ وُجُوهِهِ لَا يَحْرُمُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ فَرْضٌ وَمَنْ كَانَ الْبَاعِثُ الْأَقْوَى عَلَيْهِ بَاعِثَ النَّفْسِ لَمْ يُخْلِصْ وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّ مُطْلَقَ الرِّيَاءِ وَلَوْ قَلَّ يُحْبِطُ الْعَمَلَ وَيَصِيرُ لَا ثَوَابَ لَهُ أَصْلًا وَفِيهِ نَظَرٌ وَانْظُرْ أَوَّلَ كِتَابِ الْجِهَادِ مِنْ الْبَيَانِ وَقَدْ حَرَّرَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ
أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ الْإِخْلَاصِ مِنْ رُبْعِ الْمُنْجِيَاتِ وَكِتَابِ الرِّيَاءِ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ وَفِي الْمِنْهَاجِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْعَمَلَ لِأَجْلِ حَظِّ النَّفْسِ دَاخِلٌ فِي الرِّيَاءِ عَارٍ عَنْ الْإِخْلَاصِ كَمَنْ صَامَ لِيَسْتَنْفِعَ بِالْحَمِيَّةِ وَمَنْ يُعْتِقُ عَبْدًا لِيَخْلُصَ مِنْ مُؤْنَتِهِ أَوْ يَغْزُوَ لِيُمَارِسَ الْحَرْبَ وَنَحْوِ ذَلِكَ قَالَ: وَلَيْسَ الِاعْتِبَارُ بِلَفْظِ الرِّيَاءِ وَاشْتِقَاقِهِ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَسُمِّيَتْ هَذِهِ الْإِرَادَةُ الْفَاسِدَةُ رِيَاءً لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مَا تَقَعُ مِنْ قِبَلِ رُؤْيَةِ النَّاسِ قَالَهُ فِي الْمِنْهَاجِ.
وَتَلْخِيصُ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ إذَا كَانَ خَالِصًا لِلَّهِ فَهُوَ سَبَبُ الثَّوَابِ وَإِنْ كَانَ خَالِصًا لِلرِّيَاءِ أَوْ لَحَظِّ النَّفْسِ فَهُوَ سَبَبُ الْعِقَابِ لَا لِأَنَّ طَلَبَ الدُّنْيَا حَرَامٌ وَلَكِنَّ طَلَبَهَا بِأَعْمَالِ الدِّينِ حَرَامٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّيَاءِ وَتَغْيِيرِ الْعِبَادَةِ عَنْ وَضْعِهَا وَإِنْ اخْتَلَطَ الْقَصْدَانِ فَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ الدِّينِيُّ مُسَاوِيًا لِلْبَاعِثِ النَّفْسِيِّ تَقَاوَمَا وَتَسَاقَطَا وَصَارَ الْعَمَلُ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ النَّفْسِيُّ أَقْوَى وَأَغْلَبُ فَلَيْسَ الْعَمَلُ بِنَافِعٍ بَلْ هُوَ مُضِرٌّ نَعَمْ هُوَ أَخَفُّ مِنْ الْعَمَلِ الْمُتَجَرِّدِ لَحَظِّ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ الدِّينِيُّ أَقْوَى فَلَهُ ثَوَابٌ بِقَدْرِ مَا فَضَلَ مِنْ قُوَّةِ الْبَاعِثِ الدِّينِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]
وَقَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] وَلَيْسَ مَنْ خَرَجَ بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ وَالْحَجِّ مِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِأَنَّهُ إذَا سَلِمَ مِنْ قَصْدِ الرِّيَاءِ فَإِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْإِحْرَامِ وَمُبَاشَرَةِ الْمَنَاسِكِ الْبَاعِثُ الدِّينِيُّ لِأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَجَّ وَيَتَّجِرَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ. نَعَمْ لَوْ كَانَ كُلُّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ يُعْطَى لَهُ مَالٌ لَأَمْكَنَ أَنْ يُفْرَضَ مِنْ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ وَيَصِيرَ كَمَنْ خَرَجَ لِلْجِهَادِ بِنِيَّةِ الْغَنِيمَةِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ فَيَأْتِي فِيهِ التَّفْصِيلُ وَأَمَّا سَفَرُهُ مِنْ بَلَدِهِ إلَى مَكَّةَ فَيَدْخُلُهُ التَّفْصِيلُ وَقَدْ قَالَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ: الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ مَنْ خَرَجَ حَاجًّا وَمَعَهُ تِجَارَةٌ صَحَّ حَجُّهُ وَأُثِيبَ عَلَيْهِ وَقَدْ امْتَزَجَ بِهِ حَظٌّ مِنْ حُظُوظِ النَّفْسِ نَعَمْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّمَا يُثَابُ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ عِنْدَ انْتِهَائِهِ إلَى مَكَّةَ وَتِجَارَتُهُ غَيْرُ مَوْقُوفَةٍ عَلَيْهِ فَهُوَ خَالِصٌ وَإِنَّمَا الْمُشْتَرَكُ طُولُ الْمَسَافَةِ وَلَكِنَّ الصَّوَابَ أَنْ يُقَالَ: مَهْمَا كَانَ الْحَجُّ هُوَ الْمُحَرِّكُ الْأَصْلِيُّ وَغَرَضُ التِّجَارَةِ كَالْمُعِينِ وَالتَّابِعِ فَلَا يَنْفَكُّ نَفْسُ السَّفَرِ عَنْ ثَوَابٍ وَمَا عِنْدِي أَنَّ الْغُزَاةَ لَا يُدْرِكُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ تَفْرِقَةً بَيْنَ غَزْوِ الْكُفَّارِ فِي جِهَةٍ تَكْثُرُ فِيهَا الْغَنَائِمُ وَبَيْنَ جِهَةٍ لَا غَنِيمَةَ فِيهَا وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إدْرَاكُ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ يُحْبِطُ بِالْكُلِّيَّةِ ثَوَابَ جِهَادِهِمْ بَلْ الْعَدْلُ أَنْ يُقَالَ: إذَا كَانَ الْبَاعِثُ الْأَصْلِيُّ وَالْمُزْعِجُ الْقَوِيُّ هُوَ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ وَإِنَّمَا الرَّغْبَةُ فِي الْغَنِيمَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّبَعِ فَلَا يُحْبَطُ بِهِ الثَّوَابُ نَعَمْ لَا يُسَاوِي ثَوَابُهُ ثَوَابَ مَنْ لَا يَلْتَفِتُ إلَى الْغَنِيمَةِ أَصْلًا فَإِنَّ هَذَا الِالْتِفَاتَ نُقْصَانٌ لَا مَحَالَةَ
وَقَالَ بَعْدَهُ: وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ مَنْ كَانَ دَاعِيَتُهُ الدِّينِيَّةُ تُزْعِجُهُ إلَى الْغَزْوِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ غَنِيمَةٌ وَقَدَرَ عَلَى غَزْوِ طَائِفَتَيْنِ مِنْ الْكُفَّارِ إحْدَاهُمَا غَنِيَّةٌ وَالْأُخْرَى فَقِيرَةٌ فَمَالَ إلَى جِهَةِ الْأَغْنِيَاءِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ وَلِلْغَنِيمَةِ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ لَهُ عَلَى غَزْوِهِ أَلْبَتَّةَ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا حَرَجٌ فِي الدِّينِ وَمَدْخَلٌ لِلْيَأْسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ أَمْثَالَ هَذِهِ الشَّوَائِبِ التَّابِعَةِ قَدْ لَا يَنْفَكُّ الْإِنْسَانُ عَنْهَا إلَّا عَلَى النُّدُورِ فَيَكُونُ تَأْثِيرُ هَذَا فِي نُقْصَانِ الثَّوَابِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي إحْبَاطِهِ فَلَا، نَعَمْ الْإِنْسَانُ فِيهِ عَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّ الْبَاعِثَ الْأَقْوَى هُوَ قَصْدُ التَّقَرُّبِ وَيَكُونُ الْأَغْلَبُ عَلَى سِرِّهِ الْحَظُّ النَّفْسِيُّ وَذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى غَايَةَ الْخَفَاءِ انْتَهَى. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ص (وَفُضِّلَ حَجٌّ عَلَى غَزْوٍ إلَّا لِخَوْفٍ) ش يَعْنِي أَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ مِنْ الْغَزْوِ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَوْفٌ فَلَا يَكُونُ أَفْضَلَ هَذَا حَلُّ كَلَامِهِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَفِي رَسْمِ يُوصِي مِنْ سَمَاعِ عِيسَى مِنْ كِتَابِ الصَّدَقَاتِ وَالْهِبَاتِ مِنْ الْعُتْبِيَّةِ وَنَصُّهَا: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الْغَزْوِ وَالْحَجِّ أَيُّهُمَا أَحَبُّ إلَيْك قَالَ الْحَجُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَنَةَ خَوْفٍ قِيلَ فَالْحَجُّ وَالصَّدَقَةُ قَالَ الْحَجُّ إلَّا أَنْ تَكُونَ سَنَةَ مَجَاعَةٍ قِيلَ لَهُ فَالصَّدَقَةُ وَالْعِتْقُ قَالَ: الصَّدَقَةُ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: قَوْلُهُ إنَّ الْحَجَّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْغَزْوِ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَوْفٌ مَعْنَاهُ فِي حَجِّ
التَّطَوُّعِ لِمَنْ قَدْ حَجَّ الْفَرِيضَةَ وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةَ» وَلِأَنَّ الْجِهَادَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَجْرٌ عَظِيمٌ إذَا لَمْ يَكُنْ خَوْفٌ قَدْ لَا يَفِي أَجْرُهُ فِيهِ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ السَّيِّئَاتِ عِنْدَ الْمُوَازَنَةِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْجَنَّةَ كَالْحَجِّ وَأَمَّا الْغَزْوُ مَعَ الْخَوْفِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ التَّطَوُّعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ؛ لِأَنَّ الْغَازِيَ مَعَ الْخَوْفِ قَدْ بَاعَ نَفْسَهُ مِنْ اللَّهِ عز وجل فَاسْتَوْجَبَ بِهِ الْجَنَّةَ وَالْبُشْرَى مِنْ اللَّهِ بِالْفَوْزِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111] الْآيَةُ وَإِنَّمَا قَالَ: إنَّ الْحَجَّ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْ الصَّدَقَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ سَنَةَ مَجَاعَةٍ لِأَنَّهُ إذَا كَانَتْ سَنَةَ مَجَاعَةٍ كَانَتْ الْمُوَاسَاةُ عَلَيْهِ بِالصَّدَقَةِ وَاجِبَةً فَإِذَا لَمْ يُوَاسِ الرَّجُلُ فِي سَنَةِ مَجَاعَةٍ مِنْ مَالِهِ بِالْقَدْرِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْمُوَاسَاةِ فِي الْجُمْلَةِ فَقَدْ أَثِمَ وَقَدْرُ ذَلِكَ لَا يَعْلَمُهُ حَقِيقَةً فَالتَّوَقِّي مِنْ الْإِثْمِ بِالْإِكْثَارِ مِنْ الصَّدَقَةِ أَوْلَى مِنْ التَّطَوُّعِ بِالْحَجِّ الَّذِي لَا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ وَإِنَّمَا قَالَ: إنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْعِتْقِ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مِنْ «أَنَّ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لَهَا وَلَمْ تَسْتَأْذِنْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا كَانَ يَوْمُهَا الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهَا فِيهِ قَالَتْ: أَشْعَرْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي أَعْتَقْتُ وَلِيدَتِي، قَالَ: أَوَفَعَلْت، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتهَا أَخْوَالَكَ كَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ» وَهَذَا نَصٌّ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ بِرَفْعِ مُؤْنَةِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ بِالظَّوَاهِرِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ انْتَهَى.
وَلِلْمَسْأَلَةِ أَرْبَعُ صُوَرٍ: حَجُّ التَّطَوُّعِ مَعَ الْغَزْوِ التَّطَوُّعِ فِي غَيْرِ سَنَةِ الْخَوْفِ، وَحَجُّ الْفَرْضِ مَعَ الْغَزْوِ وَالتَّطَوُّعُ فِي غَيْرِ سَنَةِ الْخَوْفِ أَيْضًا وَحَجُّ الْفَرْضِ مَعَ الْغَزْوِ وَالتَّطَوُّعُ فِي غَيْرِ سَنَةِ الْخَوْفِ وَحَجُّ التَّطَوُّعِ مَعَ الْغَزْوِ وَفِي سَنَةِ الْخَوْفِ أَيْضًا. وَفُهِمَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ حُكْمُ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ ثِنْتَانِ بِالْمَنْطُوقِ وَوَاحِدَةٌ بِالْأَحْرَوِيَّةِ.
أَمَّا الْأُولَى فَقَدْ صَرَّحَ بِحُكْمِهَا وَأَنَّ التَّطَوُّعَ بِالْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ التَّطَوُّعِ بِالْغَزْوِ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ تَطَوُّعُ الْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ الْحَجِّ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ ابْنُ سَحْنُونٍ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ تَطَوُّعُ الْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ تَطَوُّعِ الْحَجِّ انْتَهَى، وَبِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَفْتَى ابْنُ رُشْدٍ فِي نَوَازِلِهِ كَمَا سَيَأْتِي وَيُؤْخَذُ حُكْمُ الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ بِالْأَحْرَوِيَّةِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَهُوَ تَقْدِيمُ الْحَجِّ عَلَى الْجِهَادِ نَدْبًا عَلَى الْقَوْلِ بِالتَّرَاخِي وَوُجُوبًا عَلَى الْقَوْلِ بِالْفَوْرِ وَعَلَى مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ أَعْنِي رِوَايَةَ ابْنِ وَهْبٍ الْمُتَقَدِّمَةَ تُجْرَى عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَجِّ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ فَيُقَدَّمُ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي فَيَكُونُ تَقْدِيمُهُ كَالنَّقْلِ فَيُقَدَّمُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ نَدْبًا فِي غَيْرِ حَقِّ حُمَاةِ الدِّينِ وَالْقَائِمِينَ بِهِ وَوُجُوبًا فِي حَقِّهِمْ لِأَنَّ الْجِهَادَ صَارَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ بِتَعَيُّنِهِمْ لَهُ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَقْدِيمِ الْحَجِّ إلَّا مَنْ بَلَغَ الْمُعْتَرَكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْحَجُّ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ عَيْنٍ بِالْأَصَالَةِ وَالْجِهَادُ إنَّمَا صَارَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ بِتَعَيُّنِهِمْ لَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَسَيَأْتِي كَلَامُ ابْنِ رُشْدٍ.
وَحُكْمُ الثَّالِثَةِ تَقْدِيمُ الْجِهَادِ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا الرَّابِعَةُ فَإِنْ قُلْت: الْحَجُّ عَلَى التَّرَاخِي فَيُقَدَّمُ الْجِهَادُ وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ نُظِرَ إلَى كَثْرَةِ الْخَوْفِ الْمُتَوَقَّعِ وَقِلَّتِهِ، هَذَا مَا ظَهَرَ لِي فِيهَا وَلَمْ أَرَ فِيهَا نَصًّا إلَّا أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ: وَأَمَّا الْغَزْوُ مَعَ الْخَوْفِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ التَّطَوُّعِ وَإِنَّ الْفَرْضَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ فِي الْأَجْوِبَةِ إجْرَاؤُهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي فَوْرِيَّةِ الْحَجِّ وَتَرَاخِيهِ فَعَلَى الْفَوْرِ يُقَدَّمُ الْحَجُّ وَعَلَى التَّرَاخِي يُؤَخَّرُ وَهُوَ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَذْكُرْ الْخَوْفَ لَكِنَّهُ مَعْلُومٌ لِأَنَّ بِلَادَ الْأَنْدَلُسِ كَانَتْ إذْ ذَاكَ فِيهَا الْخَوْفُ وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا لَمْ يَجِبْ الْجِهَادُ عَلَى الْأَعْيَانِ بِأَنْ يَفْجَأَ الْعَدُوُّ مَدِينَةَ قَوْمٍ فَإِنْ وَجَبَ فَلَا شَكَّ فِي تَقْدِيمِهِ كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ فِي الْأَجْوِبَةِ وَنَصُّهُ: جَوَابُك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ - فِيمَنْ لَمْ يَحُجَّ مِنْ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ فِي وَقْتِنَا هَذَا هَلْ الْحَجُّ أَفْضَلُ لَهُ أَمْ الْجِهَادُ؟ وَكَيْفَ إنْ كَانَ قَدْ حَجَّ الْفَرِيضَةَ فَأَجَابَ فَرْضُ الْحَجِّ سَاقِطٌ عَنْ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ فِي وَقْتِنَا هَذَا لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الْقُدْرَةُ عَلَى الْوُصُولِ مَعَ
الْأَمْنِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَإِذَا سَقَطَ فَرْضُ الْحَجِّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ صَارَ فِعْلًا مَكْرُوهًا لِتَقَحُّمِ الْغَرَرِ فِيهِ فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ الْجِهَادَ الَّذِي لَا تُحْصَى فَضَائِلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْآثَارِ أَفْضَلُ مِنْهُ وَإِنَّ ذَلِكَ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُحْتَاجَ فِيهِ إلَى السُّؤَالِ عَنْهُ وَمَوْضِعُ السُّؤَالِ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ قَدْ حَجَّ الْفَرِيضَةَ وَالسَّبِيلُ مَأْمُونَةٌ هَلْ الْحَجُّ أَفْضَلُ أَمْ الْجِهَادُ؟
وَاَلَّذِي أَقُولُ بِهِ: إنَّ الْجِهَادَ لَهُ أَفْضَلُ لِمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَحُجَّ الْفَرِيضَةَ وَالسَّبِيلُ مَأْمُونَةٌ فَيَتَخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْحَجِّ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي وَهَذَا إذَا سَقَطَ فَرْضُ الْجِهَادِ عَنْ الْأَعْيَانِ لِقِيَامِ مَنْ قَامَ بِهِ وَأَمَّا فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِيهِ عَلَى الْأَعْيَانِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ الْفَرِيضَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى التَّرَاخِي وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَسُئِلَ عَنْ أَهْلِ الْعَدْوَةِ هَلْ هُمْ كَأَهْلِ الْأَنْدَلُسِ؟ فَقَالَ: سَبِيلُهُمْ سَبِيلُ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ إذَا كَانُوا لَا يَصِلُونَ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِخَوْفٍ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ أَمْوَالِهِمْ وَإِنْ كَانُوا لَا يَخَافُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَا عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَالْجِهَادُ لَهُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ تَعْجِيلِ الْحَجِّ إذْ قَدْ قِيلَ: إنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ رحمه الله الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ مَسَائِلُهُ وَهَذَا فِي غَيْرِ مَنْ عَدَا مَنْ يَقُومُ بِفَرْضِ الْجِهَادِ وَأَمَّا مَنْ يَقُومُ بِهِ مِنْ حُمَاةِ الْمُسْلِمِينَ وَأَجْنَادِهِمْ فَالْجِهَادُ هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ إذْ لَا يَتَعَيَّنُ تَعْجِيلُ الْحَجِّ مِنْهُمْ إلَّا عَلَى مَنْ بَلَغَ الْمُعْتَرَكَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى التَّرَاخِي لَهُ حَالَةٌ يَتَعَيَّنُ فِيهَا وَهُوَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّ الْمُكَلَّفِ أَنَّهُ يَفُوتُ بِتَأْخِيرِهِ وَالْحَدُّ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مُعْتَرَكُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إلَى السَّبْعِينَ» انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ مُخْتَصَرًا فِي أَوَائِلِ الْجِهَادِ، وَقَالَ: قُلْت فِي قَوْلِهِ نَفْلًا مَكْرُوهًا نَظَرٌ لِأَنَّ النَّفَلَ مِنْ أَقْسَامِ الْمَنْدُوبِ وَهُوَ وَالْمَكْرُوهُ ضِدَّانِ وَالشَّيْءُ لَا يُجَامِعُ الْأَخَصَّ مِنْ ضِدِّهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ يُرِيدَ نَفْلًا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ مَكْرُوهًا بِاعْتِبَارِ عَارِضِهِ كَقِسْمِ الْمَكْرُوهِ مِنْ النِّكَاحِ مَعَ أَنَّ مُطْلَقَ النِّكَاحِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ انْتَهَى. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ وَلَكِنْ فِي قَوْلِهِ مَكْرُوهًا نَظَرٌ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مَمْنُوعٌ لَا مَكْرُوهٌ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ أَدَّى فَرْضَهُ فَجِهَادُهُ أَفْضَلُ.
(قُلْت) : هُوَ نَقْلُ الشَّيْخِ عَنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ انْتَهَى، كَمَا تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَ أَيْضًا التَّنْبِيهُ عَلَى قَوْلِهِ وَمَنْ لَمْ يُؤَدِّ فَرْضَهُ يَخْرُجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي فَوْرِ الْحَجِّ وَتَرَاخِيهِ فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ الَّتِي أَفْتَى بِهَا لَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَعَيَّنَ الْجِهَادُ عَلَى الْأَعْيَانِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ حَجِّ الْفَرِيضَةِ قَوْلًا وَاحِدًا بَلْ يَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ الْجِهَادُ وَتَرْكُ الْحَجِّ ارْتِكَابًا لِأَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ. فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ وَقَوْلُهُ: وَهَذَا فِي غَيْرِ مَنْ عَدَا مَنْ يَقُومُ بِفَرْضِ الْجِهَادِ إلَخْ كَأَنَّهُ تَأَكَّدَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ لِكَوْنِهِمْ عُيِّنُوا لَهُ فَصَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ فَمَنْ لَمْ يَحُجَّ فَالْجِهَادُ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ تَقَدُّمِ الْحَجِّ وَقَوْلُهُ إلَّا مَنْ بَلَغَ الْمُعْتَرَكَ أَيْ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِلْحَجِّ وَتَرْكُ الْجِهَادِ وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى مَا اخْتَارَهُ مِنْ أَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي وَمِنْ أَنَّ تَطَوُّعَ الْجِهَادِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَطَوُّعِ الْحَجِّ وَكَلَامُهُ هُنَا يُؤَيِّدُهُ مَا تَقَدَّمَتْ الْفُتْيَا بِهِ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَأَمِنَ عَلَى نَفْسٍ وَمَالٍ فِي سُلْطَانٍ يَخَافُ إذَا حَجَّ أَنْ يَسْتَوْلِيَ الْكُفَّارُ عَلَى بِلَادِهِ وَيَخَافُ أَنْ يَفْسُدَ أَمْرُ الرَّعِيَّةِ فَإِنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ لَمْ تُوجَدْ فِي حَقِّهِ الِاسْتِطَاعَةُ فَاشْتِغَالُهُ بِالْجِهَادِ أَوْلَى وَخُرُوجُهُ لِلْحَجِّ مَكْرُوهٌ بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ وَمَنْ وُجِدَتْ فِي حَقِّهِ الِاسْتِطَاعَةُ فَإِنْ وَجَبَ الْجِهَادُ عَلَى الْأَعْيَانِ قُدِّمَ عَلَى الْحَجِّ الْفَرْضِ
وَقَوْلُ ابْنِ رُشْدٍ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ الْفَرْضِ يُرِيدُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ الْمُتَعَيِّنُ الَّذِي لَا يَجِبُ سِوَاهُ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْجِهَادُ عَلَى الْأَعْيَانِ فَلَا يَخْلُو الشَّخْصُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَجَّ أَوْ لَا فَمَنْ حَجَّ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي سَنَةِ خَوْفٍ أَمْ لَا فَإِنْ كَانَتْ سَنَةَ خَوْفٍ فَالْجِهَادُ أَوْلَى اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ سَنَةَ خَوْفِ فَالْحَجُّ أَوْلَى عَلَى الْمَشْهُورِ وَالْجِهَادُ أَوْلَى عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ رُشْدٍ وَفَتْوَى ابْنِ وَهْبٍ وَهَذَا وَاَللَّهُ