الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْحَجِّ الْفَرْضِ وَالتَّطَوُّعِ لِأَنَّهُ إذَا خِيفَ فَوَاتُهَا سَقَطَ وُجُوبُهُ وَأَمَّا النَّافِلَةُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَفْضَلُ مِمَّنْ حَجَّ حَجَّةَ تَطَوُّعٍ وَلَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُهُ بَلْ لَوْ فُرِضَ أَنَّ شَخْصًا خَرَجَ لِحَجِّ التَّطَوُّعِ وَاشْتَغَلَ آخَرُ بِالنَّوَافِلِ مِنْ حِينِ خُرُوجِهِ إلَى الْحَجِّ إلَى فَرَاغِهِ مِنْهُ لَكَانَ الْحَجُّ أَفْضَلَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْكَلَامِ عَلَى الصَّوْمِ وَأَمَّا الْحَجُّ وَالصَّوْمُ فَلَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَصًّا أَعْنِي فِي كَوْنِ أَحَدِهِمَا أَفْضَلَ مِنْ الْآخَرِ وَذَلِكَ إذَا كَانَ شَخْصٌ يُكْثِرُ الصَّوْمَ وَإِذَا سَافَرَ لَا يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ الَّذِي جُعِلَ صلى الله عليه وسلم عَدَلَهُ الصِّيَامُ الَّذِي لَا إفْطَارَ فِيهِ وَالْقِيَامُ الَّذِي لَا فُتُورَ فِيهِ مُدَّةَ خُرُوجِ الْمُجَاهِدِ وَرُجُوعِهِ كَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمْ وَلَفْظُ الْمُوَطَّإِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَفْتُرُ مِنْ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ حَتَّى يَرْجِعَ» انْتَهَى. وَقَالَ الزَّرْكَشِيُّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ: أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الْحَجُّ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى الْمَالِ وَالْبَدَنِ وَأَيْضًا فَإِنَّا دُعِينَا إلَيْهِ فِي الْأَصْلَابِ كَالْإِيمَانِ وَالْإِيمَانُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ فَكَذَلِكَ الْحَجُّ انْتَهَى. وَذَكَرَ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي الْقُرْبَى أَنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ قَالَ الْمُحِبُّ: (أَحَدُهَا) الصَّلَاةُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ» وَقَوْلُهُ الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ، (الثَّانِي) الصَّوْمُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّوْمِ لَا مِثْلَ لَهُ «الصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» (الثَّالِثُ) الْحَجُّ انْتَهَى
[فَرْعٌ أَفْضَلُ أَرْكَانِ الْحَجِّ]
(فَرْعٌ) قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَفْضَلُ أَرْكَانِ الْحَجِّ الطَّوَافُ لِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ شَبِيهٌ بِهَا وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ مِنْ الْحَجِّ فَيَكُونُ أَفْضَلُ الْأَرْكَانِ فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «الْحَجُّ عَرَفَةَ» يَدُلُّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْوُقُوفِ عَلَى سَائِرِ الْأَرْكَانِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ مُعْظَمُ الْحَجِّ وُقُوفُ عَرَفَةَ لِعَدَمِ انْحِصَارِهِ أَيْ الْحَجِّ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ قُلْنَا: بَلْ مُقَدَّرٌ غَيْرُ ذَلِكَ وَهُوَ إدْرَاكُ عَرَفَةَ وَهُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ انْتَهَى.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَالطَّوَافُ لِلْغُرَبَاءِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ مَالِكٌ يُجِيبُ فِي مِثْلِ هَذَا وَفِي الرِّسَالَةِ: وَالتَّنَفُّلُ بِالرُّكُوعِ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ الطَّوَافِ، وَالطَّوَافُ لِلْغُرَبَاءِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ الرُّكُوعِ لِقِلَّةِ وُجُودِ ذَلِكَ لَهُمْ وَهَذَا لِمَالِكٍ فِي الْمَوَّازِيَّةِ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: فَذَكَرَ رحمه الله الْعِلَّةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا وَهِيَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مُقِيمُونَ فَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ الطَّوَافُ أَيَّ وَقْتٍ أَرَادُوهُ فَكَانَ التَّنَفُّلُ بِالصَّلَاةِ أَفْضَلَ لِأَنَّهَا فِي الْأَصْلِ أَفْضَلُ مِنْ الطَّوَافِ وَالْغُرَبَاءُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ لِأَوْطَانِهِمْ فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ الطَّوَافِ فَكَانَ الطَّوَافُ أَفْضَلَ لِأَنَّهُ يُخَافُ عَلَى فَوَاتِهِ انْتَهَى.
وَقَالَ الشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: وَهَذَا فِي الْمَوْسِمِ لِئَلَّا يُزَاحِمُوا الْغُرَبَاءَ فِي الطَّوَافِ وَالْغُرَبَاءُ مَنْ لَيْسَ بِمَكَّةَ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ نَاجِي: قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: تَعْلِيلُهُ بِقِلَّةِ وُجُودِ ذَلِكَ لِلْغُرَبَاءِ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بِالصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ التَّنَفُّلِ بِالطَّوَافِ وَلِذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَفْضَلُ مِنْ الطَّوَافِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَ الْغُرَبَاءِ وَأَهْلِ مَكَّةَ إذْ الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْأَفْضَلِ أَوْلَى مِنْ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَفْضُولِ لَا سِيَّمَا عَلَى الْقَوْلِ بِمُسَاوَاةِ النَّفْلِ لِلْفَرْضِ فِي الْفَضْلِ انْتَهَى. فَحَاصِلُهُ أَنَّ التَّنَفُّلَ بِالصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ التَّنَفُّلِ بِالطَّوَافِ وَإِنْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَا يَقْتَضِي خِلَافَ ذَلِكَ وَقَالَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ فِي الْقُرْبَى وَغَيْرُهُ وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُخَلِّيَ نَفْسَهُ مِنْ الطَّوَافِ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَقَدْ قِيلَ مِنْ الْحِرْمَانِ أَنْ يُقِيمَ الْإِنْسَانُ بِمَكَّةَ يَمْضِي عَلَيْهِ يَوْمٌ بِلَا طَوَافٍ وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ فَضْلٌ كَبِيرٍ فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ يُحْصِيهِ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةٌ وَمُحِيَتْ عَنْهُ سَيِّئَةٌ وَرُفِعَتْ لَهُ دَرَجَةٌ وَكَانَ لَهُ عَدْلُ رَقَبَةٍ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ
وَمَعْنَى يُحْصِيهِ أَيْ يَتَحَفَّظُ فِيهِ لِئَلَّا يَغْلَطَ
قَالَهُ فِي شِفَاءِ الْغَرَامِ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَشَرِبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ غَفَرَ اللَّهُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ» أَخْرَجَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْجُنْدِيُّ ذَكَرَهُ فِي الْقُرْبَى وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ خَمْسِينَ مَرَّةً خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَإِنَّمَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُرَادُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - خَمْسُونَ أُسْبُوعًا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: «مَنْ حَجَّ الْبَيْتَ وَطَافَ خَمْسِينَ أُسْبُوعًا كَانَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَوْقُوفًا وَجَاءَ الْحَدِيثُ أَيْضًا خَمْسِينَ أُسْبُوعًا مَكَانَ مَرَّةٍ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ فِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ وَمُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فَفِيهَا رَدٌّ لِمَنْ قَالَ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْمَرَّةِ الشَّوْطُ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا مُتَوَالِيَةً بَلْ الْمُرَادُ أَنْ تُوجَدَ فِي صَحِيفَةِ حَسَنَاتِهِ وَلَوْ فِي عُمْرِهِ كُلِّهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ عِشْرُونَ وَمِائَةُ رَحْمَةٍ سِتُّونَ مِنْهَا لِلطَّائِفِينَ وَأَرْبَعُونَ لِلْعَاكِفِينَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ لِلْبَيْتِ وَفِي رِوَايَةٍ يُنْزِلُ اللَّهُ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ مَكَّةَ كُلَّ يَوْمٍ وَقَالَ فِيهِ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ» وَلَا مُضَادَّةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ بِمَسْجِدِ مَكَّةَ الْبَيْتَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] وَيَحْتَمِلُ قِسْمَةُ الرَّحَمَاتِ بَيْنَهُمْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنْ تَكُونَ عَلَى الرُّءُوسِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى قِلَّةِ عَمَلٍ وَلَا إلَى كَثْرَتِهِ وَيَكُونُ لِمَنْ كَثُرَ عَمَلُهُ ثَوَابًا مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَالثَّانِي وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْقَسْمُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ الْأَعْمَالِ وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ طَائِفٍ سِتُّونَ أَوْ السِّتُّونَ لِجَمِيعِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَهُ فِي الْقُرْبَى وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَمَاعَةَ رحمه الله وَنَقَلَهُ عَنْهُ صَاحِبُ شِفَاءِ الْغَرَامِ أَنَّ صَاحِبَ الْقُرْبَى ذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ ذَكَرَ أَنَّ تَعَدُّدَ الطَّوَافِ سَبْعُ مَرَاتِبَ: الْأُولَى خَمْسُونَ أُسْبُوعًا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ، الثَّانِيَةُ أَحَدَ وَعِشْرُونَ فَقَدْ قِيلَ سَبْعُ أَسَابِيعَ بِعُمْرَةٍ وَوَرَدَ ثَلَاثُ عُمَرَ بِحَجَّةٍ، الثَّالِثَةُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَقَدْ وَرَدَ عُمْرَتَانِ بِحَجَّةٍ وَهَذَا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ فِيهِ كَحَجَّةٍ، الرَّابِعَةُ اثْنَا عَشَرَ أُسْبُوعًا خَمْسَةٌ بِالنَّهَارِ وَسَبْعَةٌ بِاللَّيْلِ وَرُوِيَ أَنَّهُ طَوَافُ آدَمَ وَفَعَلَهُ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما، الْخَامِسَةُ سَبْعُ أَسَابِيعَ، السَّادِسَةُ ثَلَاثَةُ أَسَابِيعَ، السَّابِعَةُ أُسْبُوعٌ وَاحِدٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَأَمَّا الطَّوَافُ وَالْعُمْرَةُ فَنَصَّ الْمُحِبُّ الطَّبَرِيُّ عَلَى أَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالطَّوَافِ أَفْضَلُ مِنْ اشْتِغَالِهِ بِالْعُمْرَةِ وَبِهِ قَيَّدَ قَوْلَ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْهَا بِأَنْ لَا يَشْغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ الطَّوَافِ وَلَا يُضْعِفَهُ بِحَيْثُ يَقْطَعُهُ عَنْ الْإِكْثَارِ مِنْهُ وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ شَغْلَ قَدْرِ وَقْتِ الْعُمْرَةِ بِالطَّوَافِ أَفْضَلُ مِنْ شَغْلِهِ بِهَا انْتَهَى. وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ.
وَيُسْتَحَبُّ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَالْمُقِيمِينَ فِيهَا أَنْ يَتْرُكُوا الطَّوَافَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ تَوْسِعَةً عَلَى الْحُجَّاجِ وَقَدْ قَالَ فِي الْمَدْخَلِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ صِفَةَ مَا يَفْعَلُ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَأَنَّهُ يَطُوفُ طَوَافَ الْقُدُومِ ثُمَّ يَسْعَى مَا نَصُّهُ: فَإِنْ كَانَ آفَاقِيًّا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُكْثِرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ لَيْلًا وَنَهَارًا لَا يُسْتَثْنَى مِنْهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ إلَّا وَقْتَانِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَطُوفَ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ إلَّا لِحَاجَةٍ تَدْعُوهُ لِلطَّوَافِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّ مِنْ سُنَّةِ الطَّوَافِ أَنْ يَأْتِيَ عَقِبَهُ بِرَكْعَتَيْنِ وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيُؤَخِّرَ الرُّكُوعَ لَهُ إلَى بَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ مَغِيبِهَا وَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَوَائِجِهِ وَضَرُورَاتِهِ فَإِذَا فَرَغَ رَجَعَ إلَى الطَّوَافِ فَإِنْ تَعِبَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَجَلَسَ فِي مَوْضِعِ مُصَلَّاهُ تُجَاهَ الْكَعْبَةِ فَحَصَلَ لَهُ النَّظَرُ إلَى الْكَعْبَةِ وَهُوَ عِبَادَةٌ لِقَوْلِهِ عليه السلام «النَّظَرُ إلَى الْبَيْتِ عِبَادَةٌ» وَيَحْصُلُ لَهُ اسْتِغْفَارُ الْمَلَائِكَةِ فَإِذَا ذَهَبَ تَعَبُهُ قَامَ وَشَرَعَ فِي الطَّوَافِ يُفْعَلُ ذَلِكَ إلَى الْيَوْمِ وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُمْ أَنْ يُكْثِرُوا مِنْ التَّنَفُّلِ بِالصَّلَاةِ وَالْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا أَنَّ الْآفَاقِيَّ هَذِهِ الْعِبَادَةُ مَعْدُومَةٌ عِنْدَهُ فَيَبْغَتُهَا بِخِلَافِ أَهْلِ مَكَّةَ فَإِنَّهَا مُتَيَسِّرَةٌ ثَمَّ عَلَيْهِمْ طُولَ سَنَتِهِمْ فَلَا حَاجَةَ تَدْعُوهُمْ إلَى مُزَاحَمَةِ النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ انْتَهَى.
وَقَدْ انْجَرَّ الْكَلَامُ إلَى مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنَّ الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ إذَا طَافَ طَوَافَ الْقُدُومِ وَسَعَى هَلْ يُطْلَبُ بِالطَّوَافِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَى عَرَفَةَ أَمْ لَا وَالثَّانِيَةُ فِي بَيَانِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي يُبَاحُ فِيهَا الطَّوَافُ أَوْ يُكْرَهُ أَوْ يُمْنَعُ وَالْأَلْيَقُ بِالثَّانِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَرُكُوعُهُ لِلطَّوَافِ بَعْدَ الْغُرُوبِ قَبْلَ تَنَفُّلِهِ وَأَمَّا الْأُولَى فَنَذْكُرُهَا هَهُنَا حَيْثُ جَرَى ذِكْرُهَا فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْمَدْخَلِ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بَعْدَ هَذَا وَكَثْرَةُ شُرْبِ مَاءِ زَمْزَمَ وَنَقْلُهُ أَيْضًا مُنَاسِبًا لِذِكْرِهَا عِنْدَهُ فَنَقُولُ الَّذِي يَنْقُلُهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُحْرِمَ يَحُجُّ إذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِ الْقُدُومِ وَالسَّعْيِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ بِكَثْرَةِ الطَّوَافِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ صَاحِبِ الْمَدْخَلِ وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي مَنَاسِكِهِ: ثُمَّ يَعُودُ إلَى التَّلْبِيَةِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيَبْقَى عَلَى حَالِهِ مِنْ إحْرَامِهِ مُتَصَرِّفًا فِي حَوَائِجِهِ مُجْتَنِبًا لِمَا أُمِرَ بِهِ فِي إحْرَامِهِ وَلْيُكْثِرْ مِنْ الطَّوَافِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ بِلَا رَمَلٍ وَلَا سَعْيٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَيُصَلِّي لِكُلِّ السُّبُوعِ رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ الْمَقَامِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ كَثْرَةُ الطَّوَافِ مَعَ كَثْرَةِ الذِّكْرِ انْتَهَى.
وَقَالَ أَيْضًا فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ فِي تَرْجَمَةِ الْعَمَلِ فِي الطَّوَافِ: فَإِذَا فَرَغْت مِنْ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَارْجِعْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَأَكْثِرْ مِنْ الطَّوَافِ مَا كُنْتَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ وَمِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْفَرِيضَةَ وَالنَّافِلَةَ انْتَهَى. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي اسْتِحْبَابِ كَثْرَةِ طَوَافٍ لَهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَهُوَ أَيْضًا ظَاهِرٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي مَنَاسِكِهِ لِقَوْلِهِ فِي آخِرِ فَصْلِ السَّعْيِ ثُمَّ تُعَاوِدُ التَّلْبِيَةَ بَعْدَ السَّعْيِ كَمَا تَقَدَّمَ وَلْتُكْثِرْ مِنْ الطَّوَافِ فِي مَقَامِكَ إلَخْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ص (وَرُكُوبٌ)
ش: يَعْنِي أَنَّ الرُّكُوبَ فِي الْحَجِّ عَلَى الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَشْيِ لِأَنَّهُ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الشُّكْرِ قَالَ فِي النَّوَادِرِ: قَالَ مَالِكٌ: الْحَجُّ عَلَى الْإِبِلِ وَالدَّوَابِّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْمَشْيِ لِمَنْ يَجِدُ مَا يَتَحَمَّلُ بِهِ انْتَهَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الرُّكُوبِ وَالْمَشْيِ وَاخْتُلِفَ فِي الْأَفْضَلِ مِنْهُمَا فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي آخَرِينَ إلَى أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى أَنَّ الْمَشْيَ أَفْضَلُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الرُّكُوبَ فِي الْمَوْقِفِ بِعَرَفَةَ أَفْضَلُ وَاخْتَلَفُوا فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَالرُّكُوبُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْمَنَاسِكِ كُلِّهَا أَفْضَلُ لِلِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم انْتَهَى، وَكَلَامُهُ الْأَخِيرُ يُوهِمُ أَنَّ الرُّكُوبَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ أَفْضَلُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَشْيُ فِيهِمَا عِنْدَهُ مِنْ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ وَمِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ الَّذِي يَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْمُؤَلِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ: وَالرُّكُوبُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَفْضَلُ عَلَى الْمَعْرُوفِ لِأَنَّهُ فَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الشُّكْرِ انْتَهَى.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) ظَاهِرُ إطْلَاقَاتِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الرُّكُوبَ أَفْضَلُ وَلَوْ كَانَ الْحَجُّ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ صَرِيحُ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ مِنْ تَفْسِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ.
(الثَّانِي) مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ رُكُوبِهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الْمَعْرُوفُ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى تَصْحِيحِ الْحَاكِمِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم حَجَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ مُشَاةً مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكَّةَ» لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحُجَّ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إلَّا حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَكَانَ صلى الله عليه وسلم رَاكِبًا فِيهَا بِلَا شَكٍّ قَالَهُ ابْنُ جَمَاعَةَ.
(الثَّالِثُ) اخْتَارَ اللَّخْمِيُّ وَصَاحِبُ الطِّرَازِ تَفْضِيلَ الْمَشْيِ عَلَى الرُّكُوبِ لِلْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ وَأَجَابَا عَنْ رُكُوبِهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ لَوْ مَشَى مَا وَسِعَ أَحَدٌ الرُّكُوبَ وَبِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَسَنُّ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَشْيِ وَلِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ فَيَقْتَدُونَ بِهِ وَلِهَذَا طَافَ عَلَى بَعِيرِهِ وَنَصُّ كَلَامِ صَاحِبِ الطِّرَازِ ذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ رَاكِبًا مِنْهُ مَاشِيًا لِأَنَّ النَّبِيَّ
- صلى الله عليه وسلم فَعَلَهُ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِاتِّفَاقِ الْكَافَّةِ عَلَى أَنَّ مَنْ نَذَرَهُ رَاكِبًا وَحَجَّ مَاشِيًا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَلَوْ نَذَرَهُ مَاشِيًا مَا وَسِعَهُ أَنْ يَحُجَّهُ إلَّا مَاشِيًا إذَا كَانَ يُطِيقُهُ فَلَوْ كَانَ رَاكِبًا أَفْضَلَ مَا أُمِرَ بِالْمَشْيِ بَلْ كَانَ يُنْدَبُ إلَى الرُّكُوبِ وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَمَسُّهُ النَّارُ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَدِدْت أَنِّي حَجَجْت مَاشِيًا وَفَعَلَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ أَمَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَفَعَلَ ذَلِكَ لِوُجُوهٍ مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَقْصِدُ التَّخْفِيفَ عَلَى الْأُمَّةِ وَلَوْ مَشَى مَا رَكِبَ أَحَدٌ مِمَّنْ حَجَّ مَعَهُ وَمِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يُقْتَدَى بِهِ فِي فِعْلِهِ وَكَانَ يَظْهَرُ لِلنَّاسِ عَلَى بَعِيرِهِ وَيَلْحَظُونَهُ وَلِهَذَا طَافَ عَلَى بَعِيرِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَمْنُوعًا لِغَيْرِهِ وَمِنْهَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَشْيِ فَكَانَ فِيهِ فِي حَقِّهِ أَكْبَرُ مَشَقَّةً وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَنَفَّلُ جَالِسًا لِمَشَقَّةِ الْقِيَامِ فَكَيْفَ بِالْمَشْيِ انْتَهَى. وَنَحْوُهُ لِلَّخْمِيِّ قَالَ: أَرَى أَنْ أَمْشِيَ أَفْضَلَ لِقَوْلِهِ عليه السلام: مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ الْحَدِيثُ فَدَخَلَ فِيهِ الْمَشْيُ لِلْحَجِّ وَالْمَسَاجِدِ وَالْغَزْوِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ عليه السلام «أَنَّهُ خَرَجَ لِجِنَازَةٍ مَاشِيًا وَرَجَعَ رَاكِبًا» وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عَلِيٍّ «مِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ لِلْعِيدَيْنِ مَاشِيًا» وَقَالَ مَالِكٌ: يُسْتَحَبُّ الْمَشْيُ لِلْعِيدَيْنِ وَقَالَ فِيمَنْ خَرَجَ لِلِاسْتِسْقَاءِ يَخْرُجُ مَاشِيًا مُتَوَاضِعًا غَيْرَ مُظْهِرٍ لِزِينَةٍ وَكُلُّ هَذِهِ طَاعَاتٌ يُسْتَحَبُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْتِيَ مَوْلَاهُ مُتَذَلِّلًا مَاشِيًا وَقَدْ رُئِيَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ بِمَكَّةَ فَقِيلَ لَهُ: أَرَاكِبًا جِئْت؟ قَالَ: مَا حَقُّ الْعَبْدِ الْعَاصِي الْهَارِبِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَوْلَاهُ رَاكِبًا وَلَوْ أَمْكَنَنِي لَجِئْت عَلَى رَأْسِي وَأَمَّا حَجُّهُ عليه السلام فَلِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يُحِبُّ مَا خَفَّ عَلَى أُمَّتِهِ وَقَدْ كَانَ أَسَنَّ فَكَانَ أَكْثَرُ صَلَاتِهِ بِاللَّيْلِ جَالِسًا انْتَهَى.
وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي فَضْلِ الْمَشْيِ فَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ مُنْهَبِطًا مِنْ ثَنِيَّةِ هَرْشَى مَاشِيًا» وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - كَانُوا يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ مُشَاةً حُفَاةً وَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ وَيَقْضُونَ الْمَنَاسِكَ حُفَاةً مُشَاةً «وَيُرْوَى أَنَّ آدَمَ عليه السلام حَجَّ عَلَى رِجْلِهِ سَبْعِينَ حَجَّةً» أَخْرَجَهُ الْأَزْرَقِيُّ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آدَمَ عليه السلام حَجَّ أَرْبَعِينَ حَجَّةً مِنْ الْهِنْدِ عَلَى رِجْلَيْهِ قِيلَ لِمُجَاهِدٍ أَفَلَا كَانَ يَرْكَبُ؟ قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ كَانَ يَحْمِلُهُ أَخْرَجَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عليهما السلام حَجَّا مَاشِيَيْنِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ حَجَّ مَاشِيًا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا آسَى عَلَى شَيْء مَا آسَى عَلَى أَنِّي لَمْ أَحُجَّ مَاشِيًا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ مَرِضَ فَجَمَعَ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ فَقَالَ لَهُمْ: يَا بَنِيَّ إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ حَجَّ مَاشِيًا مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهَا كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ سَبْعُمِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ» فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ قَالَ: كُلُّ حَسَنَةٍ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ قَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ: وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَ إسْنَادَهُ وَيُرْوَى أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعْتَنِقُ الْمُشَاةَ وَتُصَافِحُ الرُّكْبَانَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: قَدَّمَ الْمُشَاةَ عَلَى الرُّكْبَانِ فِي الْآيَةِ لِيُزِيلَ مُكَابَدَةَ مَشَقَّةِ الْمَشْيِ وَالْعَنَاءِ بِفَرَحِ التَّقْدِيمِ وَالِاجْتِبَاءِ انْتَهَى جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ مَنَاسِكِ ابْنِ جَمَاعَةَ
(الرَّابِعُ) قَالَ فِي الْمَدْخَلِ: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْعَى عَلَى رِجْلَيْهِ وَكَذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْمَشَاعِرِ إلَّا الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ وَرَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَإِنَّ الرُّكُوبَ فِيهِمَا أَفْضَلُ وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَمْشِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا وَالْمَشَاعِرَ وَالنَّجَائِبُ تُقَادُ إلَى جَانِبِهِ وَقَدْ نُقِلَ فِي تَفْسِيرِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ أَنَّهُ إطْعَامُ الطَّعَامِ وَلِينُ الْكَلَامِ وَالْمَشْيُ فِي الْمَنَاسِكِ وَالْمَشَاعِرِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا وَهِيَ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى ثُمَّ إلَى عَرَفَاتٍ ثُمَّ إلَى مُزْدَلِفَةَ ثُمَّ إلَى مِنًى ثُمَّ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ إلَى مِنًى ثُمَّ إلَى الْمُحَصَّبِ ثُمَّ إلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ: الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْعَى عَلَى رِجْلَيْهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْمَشْيَ فِي السَّعْيِ سُنَّةٌ يَجِبُ فِي تَرْكِهِ الدَّمُ لَا مُسْتَحَبٌّ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ إثْرَ كَلَامِ
الْقُرْطُبِيِّ وَكَمَا سَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ وَكَذَلِكَ أَيْضًا مَا ذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ نَظَرٌ إنَّمَا هُوَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ لَا ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(الْخَامِسُ) قَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ فِي مَنْسَكِهِ الْكَبِيرِ فِي بَابِ الْعُمْرَةِ: إنَّ الْمَشْيَ فِيهَا كَالْمَشْيِ فِي الْحَجِّ فَيَأْتِي فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِلَافِ، قَالَ وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَنْ الْعُمْرَةِ لِمَنْ هُوَ بِمَكَّةَ هَلْ الْمَشْيُ فِيهَا أَفْضَلُ أَمْ يَكْتَرِي حِمَارًا بِدِرْهَمٍ قَالَ: إنْ كَانَ وَزْنُ الدِّرْهَمِ أَشَدَّ عَلَيْهِ فَالْكِرَاءُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَشْيِ وَإِنْ كَانَ الْمَشْيُ أَشَدَّ عَلَيْهِ كَالْأَغْنِيَاءِ فَالْمَشْيُ لَهُ أَفْضَلُ انْتَهَى.
(السَّادِسُ) قَالَ فِي الْمَدْخَلِ فِي فَصْلِ التَّاجِرِ مِنْ إقْلِيمٍ إلَى إقْلِيمٍ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَجْعَلَ لِسَفَرِهِ مَرْكُوبًا جَيِّدًا يَأْمَنُ عَلَيْهِ خَشْيَةَ أَنْ يَنْقَطِعَ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ فَكَذَلِكَ الْحَجُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (وَمُقَتَّبٌ)
ش: أَيْ وَفُضِّلَ الْمُقَتَّبُ عَلَى الْمَحْمِلِ يُرِيدُ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ فِي مَنْسَكِهِ وَنَصُّهُ: وَالْمُقَتَّبُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَحْمِلِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ لِمُوَافَقَتِهِ عليه السلام وَلِإِرَاحَةِ الدَّابَّةِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: وَالْحَجُّ عَلَى الْقَتَبِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَحْمِلِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ وَكَرِهُوا الْهَوَادِجَ وَالْمَحَامِلَ إلَّا لِعُذْرٍ أَوْ ضَرُورَةٍ وَلَيْسَتْ الرِّيَاسَةُ وَارْتِفَاعُ الْمَنْزِلَةِ عُذْرًا فِي تَرْكِ السُّنَّةِ انْتَهَى.
وَقَدْ اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ مَنْ اسْتَحَبَّ الرُّكُوبَ قَالَ فِي الْمَدْخَلِ: وَالتَّنَطُّفُ فِي الْحَجِّ أَوْلَى مَا يَفْعَلُهُ الْمُكَلَّفُ لِأَنَّهَا السُّنَّةُ الْمَاضِيَةُ انْتَهَى. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ فَيَرْكَبُ فِي الْمَحْمِلِ وَإِنْ كَانَ بِدْعَةً لَكِنْ لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَأَرْبَابُ الضَّرُورَاتِ لَهُمْ أَحْكَامٌ تَخُصُّهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ بِدْعَةً لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهُ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ فَرَكِبَ النَّاسُ سُنَّتَهُ وَكَانَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِهِ يَتْرُكُونَهَا وَيَكْرَهُونَ الرُّكُوبَ فِيهَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ مَكِّيٌّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ: وَأَخَافُ أَنَّ بَعْضَ مَا يَكُونُ مِنْ تَفَاوُتِ الْإِبِلِ يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبُهُ ثِقَلُ مَا تَحْمِلُهُ وَلَعَلَّهُ عَدْلُ أَرْبَعَةِ أَنْفُسٍ وَزِيَادَةٌ مَعَ طُولِ الْمَشَقَّةِ وَقِلَّةِ الْمَطْعَمِ.
وَقَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا نَظَرَ إلَى مَا أَحْدَثَ الْحَجَّاجُ مِنْ الزِّيِّ وَالْمَحَامِلِ يَقُولُ الْحَاجُّ: قَلِيلٌ وَالرَّكْبُ كَثِيرٌ انْتَهَى. وَعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: صَدَرْت مَعَ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما يَوْمَ الصَّدْرِ فَمَرَّتْ بِنَّا رُفْقَةٌ يَمَانِيَّةٌ رِحَالُهُمْ الْأُدْمُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: مَنْ اخْتَارَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى أَشْبَهِ رُفْقَةٍ وَرَدَتْ الْحَجَّ الْعَامَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ إذَا قَدِمُوا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَلْيَنْظُرْ إلَى هَذِهِ الرُّفْقَةِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ انْتَهَى مِنْ مَنْسَكِ ابْنِ جَمَاعَةَ، ذَكَرَهُ فِي فَضْلِ حَجِّ الْمَاشِي وَفِيهِ فِي الْبَابِ الرَّابِعِ وَيُسْتَحَبُّ الْحَجُّ عَلَى الرَّحْلِ وَالْمُقَتَّبِ دُونَ الْمَحْمِلِ لِمَنْ قَوِيَ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ اقْتِدَاءٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَشْبَهُ بِالتَّوَاضُعِ وَالْمَسْكَنَةِ وَلَا يَلِيقُ بِالْحَاجِّ غَيْرُ ذَلِكَ وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ:«حَجَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةٍ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ تُسَوَّى ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم: اللَّهُمَّ حَجَّةٌ بِلَا رِيَاءٍ فِيهَا وَلَا سُمْعَةٍ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ «وَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَعَ عَائِشَةَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ رضي الله عنهما فَأَعْمَرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ وَيُرْوَى أَفْضَلُ الْحَجِّ الشَّعِثُ التَّفِلُ وَاخْتَلَفَ عُلَمَاءُ السَّلَفِ فِي كَرَاهَةِ رُكُوبِ الْمَحْمِلِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا بَأْسَ بِهِ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى الْكَرَاهَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيِّ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَرَفِّهِينَ وَقَالَ طَاوُسٌ: حَجُّ الْأَبْرَارِ عَلَى الرِّحَالِ وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَ الْمَحَامِلَ الْحَجَّاجُ وَعَنْهُ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ إذَا مَرَّتْ بِنَّا رُفْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ قَدْ أَحَقَبُوا بِالْمَاءِ وَالْحَطَبِ قَالَ جَابِرٌ رضي الله عنه: مَا رَأَيْت رُفْقَةً أَشْبَهَتْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ هَؤُلَاءِ رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ انْتَهَى.
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ عليه السلام «وَسُئِلَ عَنْ الْحَاجِّ فَقَالَ: الشَّعِثُ التَّفِلُ» انْتَهَى.
(تَنْبِيهٌ) وَالْمُقَتَّبُ بِالتَّشْدِيدِ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَابِ التَّفَعُّلِ كَذَا فِي النُّسَخِ الَّتِي وَقَفْت عَلَيْهَا وَلَمْ أَقِفْ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ قَتَّبَ بِالتَّشْدِيدِ بَلْ الَّذِي فِي
الصِّحَاحِ وَالْقَامُوسِ أَقْتَبَ بِالْهَمْزِ بِالْبَعِيرِ مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ وَقِيَاسُهُ أَنْ يُقَالَ: مُقْتَبٌ بِالتَّخْفِيفِ كَمُكْرَمٍ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنْ بَابِ الْإِفْعَالِ وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ وَقَفَ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ وَفُضِّلَ رُكُوبٌ عَلَى مُقَتَّبٍ وَالْمُقَتَّبُ سَوَاءٌ كَانَ بِالتَّشْدِيدِ أَوْ بِالتَّخْفِيفِ هُوَ الَّذِي جُعِلَ لَهُ قَتَبٌ وَالْقَتَبُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ رَحْلٌ صَغِيرٌ عَلَى قَدْرِ السَّنَامِ قَالَهُ فِي الصِّحَاحِ وَالْمَحْمِلُ قَالَ فِي الْقَامُوسِ: كَمَجْلِسٍ وَاحِدُ مَحَامِلِ الْحَاجِّ وَكَسَفَرْجَلٍ عَلَاقَةُ السَّيْفِ انْتَهَى. وَرَأَيْت فِي نُسْخَةِ حَاشِيَةِ الصِّحَاحِ عَنْ السَّيِّدِ أَنَّ مِحْمَلِ الْحَاجِّ بِكَسْرِ الْمِيمِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
ص (وَتَطَوُّعُ وَلِيِّهِ عَنْهُ بِغَيْرِهِ كَصَدَقَةٍ وَدُعَاءٍ)
ش: أَيْ وَفُضِّلَ تَطَوُّعُ وَلِيِّ الْمَيِّتِ عَنْهُ بِغَيْرِ الْحَجِّ كَصَدَقَةٍ عَنْهُ وَالْعِتْقِ عَنْهُ وَالْإِهْدَاءِ عَنْهُ وَالدُّعَاءِ لَهُ عَلَى تَطَوُّعِهِ عَنْهُ بِالْحَجِّ وَأَتَى بِالْكَافِ لِيَدْخُلَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعِتْقِ وَالْإِهْدَاءِ كَمَا قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَنَصُّهَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ الثَّانِي: وَمَنْ مَاتَ وَهُوَ صَرُورَةٌ وَلَمْ يُوصِ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ أَحَدٌ فَأَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ عَنْهُ بِذَلِكَ وَلَدٌ أَوْ وَالِدٌ أَوْ زَوْجَةٌ أَوْ أَجْنَبِيٌّ فَلْيَتَطَوَّعْ عَنْهُ بِغَيْرِ هَذَا يُهْدِي عَنْهُ أَوْ يَتَصَدَّقُ أَوْ يُعْتِقُ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَهُوَ صَرُورَةٌ نَبَّهَ بِهِ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الصَّرُورَةِ أَوْلَى بِأَنْ لَا يُحَجَّ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: قَالَ مَالِكٌ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَحُجَّ عَنْ حَيٍّ زَمِنٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلَا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِهِ عَنْ مَيِّتٍ صَرُورَةٍ كَانَ أَوْ لَا وَلْيَتَطَوَّعْ عَنْهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُهْدِيَ عَنْهُ أَوْ يَتَصَدَّقَ أَوْ يُعْتِقَ انْتَهَى.
قَالَ فِي التَّوْضِيحِ وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَوْلَى لِوُصُولِهَا إلَى الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بِخِلَافِ الْحَجِّ انْتَهَى، وَقَالَ الشَّارِحُ فِي الْكَبِيرِ: وَالدُّعَاءُ جَارٍ مَجْرَى الصَّدَقَةِ انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي شَرْحِهِ عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ لِأَنَّ ثَوَابَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ وَثَوَابُ الْحَجِّ هُوَ لِلْحَاجِّ وَإِنَّمَا لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ بَرَكَةُ الدُّعَاءِ وَثَوَابُ الْمُسَاعِدَةِ وَعَلَى الْمُبَاشَرَةِ بِمَا تَصَرَّفَ مِنْ حَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ انْتَهَى.
ثُمَّ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فَائِدَةٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا لَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ بِالْإِجْمَاعِ كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - وَمِنْهَا مَا يَقْبَلُهَا إجْمَاعًا كَالدُّعَاءِ وَالصَّدَقَةِ وَرَدِّ الدُّيُونِ وَالْوَدَائِعِ وَاخْتُلِفَ فِي الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُمَا لَا يَقْبَلَانِ النِّيَابَةَ وَكَذَلِكَ الْقِرَاءَةُ لَا تَصِلُ عَلَى الْمَذْهَبِ حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ وَالشَّيْخُ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ ذَكَرَهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ وُصُولُ الْقِرَاءَةِ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ كَرَاهَةُ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْقُبُورِ نَقَلَهُ سَيِّدِي ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِالتَّفَكُّرِ فِيمَا قِيلَ لَهُمْ وَمَاذَا لَقُوا وَنَحْنُ مُكَلَّفُونَ بِالتَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ فَآلَ الْأَمْرُ إلَى إسْقَاطِ أَحَدِ الْعَمَلَيْنِ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي شَرْحِهِ: اُخْتُلِفَ فِي الصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا لَا يَقْبَلَانِ النِّيَابَةَ مِنْ الْحَيِّ وَالْعَاجِزِ وَأَمَّا الْقَادِرُ فَلَا يَقْبَلَانِ اتِّفَاقًا فَإِنْ أَوْصَى بِالْحَجِّ وَمَاتَ نَفَذَتْ وَصِيَّتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَا تَقْبَلُ النِّيَابَةَ وَفِي التَّقْرِيبِ عَلَى التَّهْذِيبِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْجَرَ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ يُصَلِّي عَنْهُ مَا فَاتَهُ مِنْ الصَّلَوَاتِ ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْحَجِّ انْتَهَى، وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْبَغْدَادِيُّ فِي الْحَاوِي لَوْ صَلَّى إنْسٌ عَنْ غَيْرِهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُشْرِكُهُ فِي ثَوَابِ صَلَاتِهِ جَازَ ذَلِكَ ذَكَرَهُ فِي الْحَجِّ وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ بِأَنْ يُقْرَأَ عَلَى قَبْرِهِ بِأُجْرَةٍ فَتَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْحَجِّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْن عَاتٍ: وَهُوَ رَأْيُ شُيُوخِنَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَتْ بِمَالٍ لِمَنْ يُصَلِّي عَنْهَا أَوْ يَصُومُ وَالْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ فِي الثُّلُثِ ذَكَرَهُ ابْنُ سَهْلٍ فِي الْوَصَايَا فِي مَسْأَلَةٍ جَامِعَةٍ لِوُجُوهٍ مِنْ الْوَصَايَا وَفِي التَّقْرِيبِ عَلَى التَّهْذِيبِ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ ذَكَرَ قَوْلَيْنِ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الْحَجِّ قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ اسْتَأْجَرَ قَارِئًا يَقْرَأُ عَنْهُ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْلَانِ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ: وَالْوَصِيَّةُ بِذَلِكَ فِي الثُّلُثِ يَعْنِي الْوَصِيَّةُ بِالْحَجِّ وَبِأَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بِأُجْرَةٍ وَلَا يُرِيدُ الْوَصِيَّةَ لِمَنْ يُصَلِّي عَنْهُ أَوْ يَصُومُ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ نَافِذٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَصَرَّحَ الْمَازِرِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ لَمَّا أَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْأَشْيَاءِ