الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمين خططوا لأن يفعلوا فى فلسطين ما فعلوه من قبل فى إفريقية ومصر والشام، أعنى بذلك أن يقيموا مركزا إداريا بريا يحل محل العاصمة البيزنطية الساحلية (وهى قيصرية)، ونظرًا لعدم وجود مصادر مكتوبة بين أيدينا عن هذا الموضوع فإننا لا نستطيع أن نعرف لماذا لم تَحْظَ القدس فى النهاية بمثل هذا الوضع، وربما كان ذلك بسبب وقوعها على بعد كبير عن خطوط النقل والاتصالات الدولية الرئيسية.
لقد كان تأسيس مدينة "الرملة" كعاصمة لولاية فلسطين على يد ولىّ العهد سليمان بن عبد الملك ضربة لمدينة "اللد" المجاورة لها، ولكنها كانت على المدى البعيد عملًا مجحفا كل الإجحاف بالقدس، وتقول الأخبار المتأخرة إن سليمان بن عبد الملك أخذ البيعة لنفسه فى القدس وأنه كان يعتزم الإقامة بها (انظر ابن كند جـ 9 ص 174)، لكنه اتخذ الرملة مقامًا دائما له، ومن ثم أصبحت البلدة هى المركز الإدارى والاقتصادى للإقليم، وكان المقادسة يدركون هذه الحقيقة تمام الإدراك، يتجلى ذلك مما لاحظه أحدهم وهو مطهر بن طاهر (جـ 4 ص 72) إذ يقول إن بيت المقدس "صار من سواد الرملة، بعدما كان دار الملك فى أيام سليمان وداود".
القدس زمن بنى العباس:
امتدت حكومة العباسيين من 132 حتى 358 هـ (= 750 - 969 م)(*)، وكانت نهاية الحكم الأموى للقدس (ولفلسطين والشام عامة) فترة شهدت مصائب فادحة، فقد حدث فى أعقاب ما جرى من تمرّد ضد مروان الثانى آخر الأمويين أن امتدت يد الهدم والتدمير إلى أسوار بيت المقدس، وعانى سكانها الأهوال والشدائد، وزادت الزلازل الطين بلة.
حقيقة أن الأسرة الجديدة (العباسية) عنيت فى مستهل حكمها
* انتهى الحكم العباسى كما هو معروف 656 هـ بعد الغزو المغولى ثم كان شكليا بعد انتقال الخلافة للقاهرة، والمؤلف هنا يقصد الحكم العباسى المباشر لا من خلال أسر حاكمة شبه مستقلة. [التحرير]
عناية خاصة بالمحافظة على طابع المدينة المدينى، وتجلّى ذلك فى أول زيارة قام بها المنصور العباسى، الذى ما كاد يعود إلى بغداد سنة 140 هـ (= 758 م) بعد أن فرغ من حجه بمكة حتى بادر بالذهاب إلى القدس (الطبرى تاريخ جـ 3 ص 129) وربما فعل المنصور ذلك ليفى بنذر نذره على نفسه -كما يقول المسعودى جـ 6 ص 212) بمناسبة مرور مائة عام قمرى منذ أن بويع معاوية فى المدينة المقدسة ثم كانت الزيارة الثانية للقدس هى التى قام بها الخليفة العباسى نفسه سنة 154 هـ (= 771 م) بسبب حدوث فتنة كبرى فى المغرب (الطبرى تاريخ، جـ 3 ص 372)، وقد صحبه حتى بيت المقدس العسكر الكثير الذين جمعهم بنفسه للقضاء على هذه الفتنة (راجع الفتوح للبلاذرى ص 233 وابن الأثير جـ 5 ص 467)، كذلك قام ابنه المهدى بزيارة القدس والصلاة بها (الطبرى تاريخ جـ 3 ص 500). أما هارون الرشيد فلم يزرها قط إذْ منعه من ذلك ما اعتاده فى الغالب من الحج إلى مكة بين عام وآخر ومداومته الحضور إلى الشام لمحاربة بيزنطة، وكان ابنه المأمون مثله فى هذا الأمر رغم أنه سافر إلى الشام بل والى مصر وإلى كثير من الأقطار غيرها، وكذلك لم يزرها قط أحد من الخلفاء العباسيين الذين جاءوا بعده. ولقد كان التغيير فى الموقف يعكس الاتجاه الجديد للنزعة الإسلامية التى تكره "البدع" التى أذاعتها الأساطير عن القدس.
ويقرر أحدهم (Theophanes: I، 446) أن المنصور فى أثناء زيارته للقدس أمر جميع المسيحيين واليهود بها أن يكتبوا بالوشم أسماءهم على أيديهم حتى لايستطيعوا الهروب من دفع الجزية، لكن ترتب على هذه الإجراءات فرار كثير من النصارى عبر البحر إلى بلاد الروم، ولقد اتخذت هذه الاجراءات وأمثالها قبل ذلك بزمن بعيد، ولكن اتخاذ هذه الإجراءات تجاه القدس فى أثناء هذا الوقت يوضح مبلغ الزيادة الضخمة فى أعداد سكان المدينة المسلمين والذميين، كما ازداد اندماج العناصر المختلفة بعضها ببعض إلى حد كبير. ولابد أن هذه الزيادة كانت ترجع
إلى دوافع دينية تمسكا منهم بالقول الذى يؤكد للمسلمين أن اللَّه كافل الرزق على الدوام لأهل بيت المقدس (انظر ابن الفقيه جـ 5 ص 94) ونطالع فى معظم تراجم الصوفية الأوائل لاسيما الايرانيون منهم أنهم عاشوا فى القدس بين آنٍ وآخر (JAOS، lxx، 107) كما أن المراجع الصادقة تؤكد أن هناك تدفقا كبيرًا إسلاميا جاء من إيران.
ولقد ارتفعت معنويات نصارى بيت المقدس ارتفاعًا عظيما بفضل الاهتمام الذى أولاه للقدس حكام أوربة الغربيون وأتقياؤها، ومهما يكن الحق فيما كان من أمر الشعارات المتبادلة بين هارون الرشيد وشارلمان ومما يقال من تسليم هارون مفتاح القدس وعلمها إلى امبراطور الفرنجة وذلك فى رومة سنة 800 م وقت تتويجه امبراطورًا، إلا أن الأمر الذى لا مشاحة فيه أن هناك كثيرا من المبانى استحدثت لتسدّ احتياجات الحجاج [المسيحيين] والوافدين الجدد التى يطلبونها من الناحية الدينية والمادية، ويرجع الفضل فى إقامة هذه المؤسسات بالقدس إلى الإمبراطور شارلمان ومن خلفه (ويوجد ثبت يضم هذه الأعمال وارد فى: Toblerltinera hierozlymitano، I، 314) ونعرف أن لويس بن شارلمان وخليفته فى حكم الامبراطورية أصدر أمرًا يقضى بأن تدفع كل ولاية فى مملكته "دينارًا denarius" لسدّ احتياجات القدس المسيحية. ومن الواضح أن معظم الأموال التى كانوا يحتاجونها لدفع الجزية وغيرها من الالتزامات المفروضة على نصارى المدينة إنما كانت تأتى من خارج البلاد، ونستطيع أن نتبين ما كانت عليه بِنْيَةُ السكان المسيحية من الكلمة التى تحتوى على النساك الذين كانوا يعيشون فى الخلايا والصوامع على جبل الزيتون، فقد كان منهم أحد عشر فردًا مهمتهم قراءة المزامير باليونانية، وستة لقراءتها بالسريانية، وخمسة لتلاوتها باللاتينية، وأربعة ينشدونها بالجرجية واثنان بالأرمنية وواحد بالعربية (راجع Toble I، 302: Op. Cct)
وحدث فى حوالى سنة 800 م أن المجلس اليهودى الأعلى المعروف باسم يشيفا Yeshiva والذى يرأسه الحاخام
الأكبر الذى يسمونه بالجاؤن Caon (وهو يعادل البطرك عند النصارى) انتقل من طبرية إلى القدس، لكن سرعان ما نافس سلطانه القراءون، وهم طائفة يهودية منشقة اتخذت القدس مركزًا لها، وكانت فتوى القرَّائين (التى نمت وتطورت فى أرض إيرانية) تشبه كثيرًا ما تدعو إليه الشعوبية فى الإسلام من وجوب العودة إلى الكتاب المقدس وإحياء اللغة العبرية واتخاذ الأرض المقدسة وطنًا والاستقرار بها. والغالب أن هذه الحركة ولدت وترعرعت فى دوائر قريبة من العرب أو موظفى الحكومة اليهود وغيرهم من البارزين فى المجتمع. ولقد ترتب على ذلك أن أصبح من اليسير على "القرائين" المستقرين فى القدس أن تكون لهم اليد العليا، كما صارت القدس فى واقع الأمر مركزهم الروحى الرئيسى. وقد حدث فى أثناء المنازعات الجدلية بين هذه الجماعات اليهودية وفى خلال الفتن التى كانت ظاهرة تميز بها القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادى) أن فَقَد أحد رؤساء اليهود الجاؤن حياته، وكاد أن يلحقه اثنان غيره ويشاركانه مصيره لولا نجاحهما -ولكن بعد مشقة- فى الفرار فكتبت لهما الحياة. (I. Mann: Jews in Egypt and the Fatimids، reps.470، Palestine under p.57
ولقد تعلمت هاتان الطائفتان بمرور الوقت التعايش معًا جنبًا إلى جنب والتعاون فيما بينهما فى مصر، وإن كان ذلك على مجال أقل فى القدس *. ولقد اعترف الفاطميون بجاؤن القدس رئيسًا ليهود القدس الربانيين فى الدولة الفاطمية (انظر Giotein: A Mediterauaeu Socicly، Berhley 2 les Augeles، 97/.5 ff
وقد حدث فى أثناء عهد المأمون (918 - 218 هـ = 813 - 833 م) أن ضربت المجاعة القدس وقل عدد مسلميها مما ساعد البطرك على اغتنام الفرصة لإنجاز بعض الترميمات فى مبانى البلد الدينية (Eutychius، 55 - 57) لكن الذى كان أشد هولًا هو فتنة الفلاحين الكبرى التى اندلعت نيرانها قرب نهاية حكم الخليفة المعتصم (218
(*) مقابر اليهود القرائين فى مصر منفصلة عن مقابر غيرهم من الطوائف الأخرى. [التحرير].
- 227 هـ = 833 - 842 م) وكانت بقيادة رجل عرف بأبى حرب المبرقع [اليمانى، فقد كان غائبًا عن داره فلما حضر أنبأته امرأة من آل بيته أن جنديا دخل الدار فدفعته فضربها بسوط أثر فى ذراعها، فلما رأى أبو حرب أثر الضرب اشتمل سيفه ومضى إلى الجندى المعتدى فقتله ثم هرب ووضع على وجهه برقعا، ومضى إلى جبل من جبال الأردن لا يعرف أحد له خبرًا، فإذا كان الوقت نهارًا ظهر وراح يحث الناس على الأمر بالمعروف وشايعه الكثيرون لاسيما من اليمنية] وأحدث فتنة سرعان ما اجتاحت أرجاء بلاد الشام، وادعى أبو حرب بدعوى السفيانى، الذى هو من أصل أموى، وقلل مقدار الجزية وأسرف فى وعوده للناس، ثم دخل القدس ففر من أمامه أكثر سكانها من المسلمين والمسيحيين واليهود، وامتدت أيدى من معه بالنهب والسلب ولم تسلم أماكن العبادة ولم يحل بينه وبين أن يحرق القبر المقدس إلّا ما دفعه له البطرك من الأموال الطائلة، ولقد برهنت هذه الفتنة على أنها حقا "ثورة فلاحين" إلا أنها عجزت عن الصمود فى وجه القوات النظامية التى بعث بها الخليفة المعتصم بقيادة رجاء بن ايوب الحضارى، وانتظر حتى إذا صار أبو حرب المبرقع فى زهاء ألف أو ألفين من رجاله هاجمه ووقع أسيرًا وبعثوا به إلى المعتصم. راجع فى ذلك ابن الأثير الكامل جـ 6 ص 371 - 372. الذى لم يشر إلى القدس.
ولما كانت سنة 256 هـ (= 869 م) ولى حكم الشام وفلسطين لأول مرة وال تركى اسمه "امجور" كما يقول ابن الأثير ولكن ذلك لم يؤد إلى تغيير فى أساليب الحكم العباسى الذى طبع منذ زمن بعيد بطابع البيروقراطية التى تعتمد إلى حدّ كبير على المرتزقة الأجانب الماجورين ثم قام "اثيودوسيوس" بطرك القدس وأثنى على المسلمين لسماحهم للنصارى بتشييد الكنائس وممارسة شعائر دينهم دون ضغط أو تضييق عليهم J. D. Mansi: cancibiarum collctio، repr.، 1960، xvi، 26
كما أبدى الراهب "برنارد" إعجابه بسلامة الطرق فى البلاد (راجع: Tobler
Itinera، 310. ولقد قام أحمد بن طولون الذى أخذ فى يده مقاليد السلطة سنة 254 هـ (= 868 م) فغزا فلسطين عام 264 هـ (= 878 م) لكنه لما قامت الحرب بين الطولونيين والاخشيديين وبين ولاة مصر وساداتهم العباسيين لم تحرّك القدس ساكنًا ولم تقم بأى دور فى هذا الصراع، غير أن دور القدس دخل منعطفًا جديدًا ذلك أن الاعتقاد السائد بأنها سوف تكون مسرح القيامة والباب المؤدى إلى الجنّة كما يقول ابن الفقيه، أقول كان لهذا الاعتقاد أثره فيما جرى من جانب الأثرياء إذ أعدّوا أنفسهم ليدفنوا بها؛ ويقرر الطبرى (تاريخ جـ 1 ص 486) وغيره من المؤرخين أن اليهود من كافة الأقطار فعلوا ما فعله موسى إذ حمل نعش يوسف معه من مصر، فراحوا يجيئون بموتاهم إلى الأرض المقدسة. وتبرهن كثير من وثائق "الجنيزة" على أن هذه العادة انتشرت بصورة ملحوظة حتى بين ذوى الدخل المحدود وأنها ترجع إلى أيام الرومان حين كان اليهود الحميريون يدفنون موتاهم فى مقبرة "بيث شعرييم" قرب حيفا. ويبدو أن هذه العادة أصبحت عامة مألوفة فى القرن الرابع للهجرة (العاشر للميلاد) بين المسلمين أنفسهم، فنجد أن "عيسى ابن موسى النوشرى" -وهو أول والٍ عباسى على مصر بعد زوال الطولونيين يدفن فى القدس سنة 269 هـ (= 909 م)، كما ضم ثراها رفات مؤسس الدولة الاخشيدية التركى محمد بن طغج الذى مات بدمشق سنة 334 م (946 م) فحملوه إلى القدس ودفنوه بها كما دفنوا رفات غيره من أهل بيته وحواشيهم ومنهم الخصىّ الأسود كافور أحد حكام مصر.
ويسوق الطبرى (تاريح: جـ 3 ص 2128) وآخرون غيره فى أحداث عام 891 م أن طائفة القرامطة الباطنية كانوا يتجهون فى صلاتهم نحو بيت المقدس ولم يفت الطبرى أن يلاحظ فى الوقت ذاته أنهم يجعلون يوم الاثنين يوم صلاتهم الاسبوعية بدلا من يوم الجمعة، ويتشبهون باليهود فيجعلونه يوم راحتهم. ولم تكن هذه الأمور الغريبة وأمثالها من الأمور المتبعة فى الإسلام. ولقد واصل القرامطة غاراتهم
المدمرة فلم تسلم منهم فلسطين، لكن لا توجد ثمة إشارة على وصول هذه الغارات إلى بيت المقدس.
إن عدم قيام حكومة مركزية قوية أثناء القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادى) إلى جانب ظروف أخرى مثل الاعتداءات البيزنطية على التخوم الإسلامية والتى بلغت ذروتها على يد الإمبراطور "نقفور فوكاس" الثانى فى سنة 964 م حتى راح يتباهى بتهديده بالاستيلاء على القدس وانتزاعها من يد المسلمين، . . . كل ذلك أدّى إلى وقوع مصادمات بين شتى الطوائف الدينية المختلفة، فقد تم الاستيلاء على نصف الساحة الخارجية للقبر المقدس وأنشئ مكانها مسجد عرف فيما بعد بمسجد عمر، وذلك تأكيدًا بأن الخليفة صلَّى هنا. وكان ذلك ردًا على الدعاوى المسيحية، كما أنه جرى بعد قليل من هذا الحادث، وفى يوم حدّ السعف عام 938 هـ، أن هوجم احتفال مسيحى وأضرمت النار فى القبر المقدس، على أن سوء الأوضاع فى هذا العصر بلغ ذروته فى أحداث عام 355 هـ (= 966 م) مما حمل بطرك القدس على أن يلتمس من والى مصر العبد الحبشى كافور الاخشيدى أن يتدخل بنفسه لوقف تجاوزات والى القدس الظالم حين فرض على النصارى مطالب مالية جائرة فبادر كافور الاخشيدى وبعث من ناحيته ضابطا تركيا لحماية النصارى ولكن واليه القاسى لم يتزحزح قيد أنملة عن موقفه الذى تمثل فى تحريكه الرعاع ضد البطرك حين ألزمه -يوم الاحتفال بأحد السَّعف- على أن يدفع أكثر مما جرت العادة بدفعه فى مثل هذا اليوم، وترتب على ذلك أن امتدت يد النهب إلى القبر المقدس وغيره من الكنائس وأشْعِلَتْ فيها النيران حتى لقد اغتيل البطرك ذاته فقتل وأحرق جثمانه. وإذا كان يحيى ابن سعيد الانطاكى هو الذى يروى هذا الخبر فإنه يضيف إليه أن اليهود بزّوا المسلمين فى تدمير المبانى المقدسة، ولكن هذا الأمر يبدو من الأمور المستغربة إذا أخذنا بعين الاعتبار ضعف موقف اليهود فى بيت المقدس لكن ربما وجدنا تفسيرًا لهذا العمل من