الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحياة بالقدس فى القرنين الرابع والخامس للهجرة
إن الإشارات الجمة الواردة فى مؤلفات المؤرخين المسلمين وفى أكثر من مائة رسالة من رسائل "الجنيزة" من القدس والتى كتبت خلال القرن الخامس من الهجرة (= الحادى عشر الميلادى) لتساعدنا على رسم صورة صادقة عن واقع الحياة فى القدس خلال القرنين السابقين لاستيلاء الصليبيين عليها، وينطبق هذا أصدق انطباق -وعلى وجه الخصوص- على الثلث الأخير من القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادى) حين كتب المطهر بن طاهر والمقدسى ما كتباه، وكذلك ينطبق على الثلث الثانى من القرن الخامس الهجرى (= الحادى عشر الميلادى) حين زار ناصر خسرو المدينة، وحين كان الإقليم ينعم بشئ من الهدوء الذى يسود فى الأوقات العادية، وهى الفترة التى كانت فيها بين فظاظة البدو الغلاظ وبين ما ارتكبه التركمان من أعمال التدمير، ويتجفى هذا واضحًا فى رسائل "الجنيزة" التى بين أيدينا.
كان من الطبيعى أن يصرف الجغرافيون جل اهتمامهم بالمبانى المقدسة والتحصينات، من بين هؤلاء المقدسى وكان من الرجال الدقيقى الملاحظة، ومما يدل على دقة ملاحظة ما دوّنه عن وجود حمَّام قرب باب الأسباط (المعروف الآن بباب القديس استيفان) الذى بنى أحد نصفيه على النمط المحلى المألوف، ونصفه الآخر على نمط العمارة الفارسية.
وأثنى المقدسى على جمال بيت المقدس الفريد فى بابه وأطنب فى ذكر أسواقها النظيفة الحافلة بشتى أنواع السلع، كما أشاد بحماماتها العامة، وهو لا ينسى أن يشير إلى "الكنف" القريبة من المساجد والموجودة أيضًا بالأسواق، ويبدو أن العمارة الإسلامية فى القدس خلال القرن الرابع الهجرى، العاشر الميلادى كانت تتركز فى مساجد الحرم، ونستفيد مما ذكره مجير الدين فى الأنس الجليل ص 64، أنه حدث فى أعقاب اضطهاد الحاكم أن تحولت بعض العمائر المسيحية إلى "زوايا" وحدث أن قامت إحدى الطوائف الدينية الفارسية
المعروفة "بالكرامية"(والتى نزلت أولا بالقدس) بتشييد بعض الخوانق لينتفع بها أتباعها؛ وذلك حوالى منتصف القرن الثالث للهجرة (التاسع للميلاد)، كما أننا نرى -خلال منتصف القرن الخامس (الحادى عشر للميلاد) مثل هذه الزوايا قد أقيمت فى الحى المسيحى بالقسم الشمالى الغربى من المدينة، أى حول القبر المقدس وحول بعض الكنائس التى ترجع إلى عصر قديم، كما أنشئ حى خاص بالأرمن قرب كاتدرائية سنت جيمس فى الناحية القبلية، كذلك أقيمت منطقتان يهوديتان إحداهما قريبة من سور البلد الغربى حيث يصلى الناس والأخرى قرب باب دمشق. وربما كانت "السيناجوجات" (الهياكل اليهودية) التى يشير إليها كل من المطهر وناصر خسرو وابن القلانسى هى "المدراشات" أو دور العلم التى وردت الإشارة إليها فى إحدى رسائل الجنيزة كأماكن تقام بها الصلوات. أما "القراءون" فكان لهم حيّهم الخاص بهم الواقع جنوبى المدينة والمسمى بحارة "المشارقة" نظرًا لأن غالبيتهم العظمى كانت وافدة من الشرق: من فارس والعراق.
وقد يكون من العسير أن نقرر كم كان عدد السكان وإن كان ناصر خسرو يقدرهم بعشرين ألفًا ونلاحظ أنه يورد نفس العدد حين يتكلم عن طرابلس الشام وعن الناس الذين تجمعوا ببيت المقدس أثناء الاحتفال "بعيد القربان" أما ابن الأثير فيجعل هذا الصدد لطائفة "الكرامية" الذين يسكنون القدس وحدها. غير أن المقدسى كان أدق حين يقول إن القدس كانت فى عهده أصغر من مكة وأكبر من المدينة (المقدسى، ص 167) أو أكثر إزدحاما بالسكان من كثير من العواصم الإقليمية (شرحه، ص 165)، ولا يمكن الأخذ فى تقدير عدد السكان بما يردده كثيرا القائلون بأن من أبادهم الصليبيون مثلا فى سنة 492 هـ (= 1099 م) كانوا سبعين ألف شخص، وإن كان هناك الكثيرون قد فروا إلى المدينة قبل اقتراب الغزاة الفرنجة وطبيعى أن نرى طابع المبالغة فى تقدير الاعداد فى مثل هذه الظروف، وهى
مبالغة لا ينبغى أن نقيم لها حسابًا كبيرًا. وإذا كانت أجنحة المسجد الأقصى قد صارت سبعة بعد أن كانت أربعة عشر جناحًا بعد زلزال 424 هـ (= 1033 م) فلابد أن يكون عدد السكان قد تضاءل كنتيجة حتمية لما نزل من الأهوال والبلايا على أيدى البدو بالبلد فى العشرينيات من القرن الحادى عشر.
إن أبرز ظاهرة للحياة فى القدس كانت تتمثل فى أنه "لا يمر يوم من غير أن يفد على البلد جماعات من الأغراب"(المقدسى ص 166) فتزدحم المدينة بوفودهم وبالحجاج القادمين إليها من جميع الأقطار (المقدسى، ص 167) ويشبههم فى هذه الكثرة جماعات اليهود القادمة من الغرب (المقدسى ص 243) واسبانيا الذين جاءوا لأداء حجتهم بالقدس فى الأيام المخصصة لأداء هذه الفريضة، أو جاءوا زوارًا فى غير ذلك من المناسبات الأخرى. وتحتوى وثائق "الجنيزة" على ما خلفه هؤلاء اليهود. ولم تكن الاحتفالات الدينية للجماعات المختلفة قاصرة على زيارة دور العبادة أو حتى زيارة أسوار المدينة. وتوجد بين أيدينا أوصاف مفصلة عن هذه المواكب والتجمعات، ولابد أن هذه الجموع قد أضْفَتْ على القدس مظهر الاحتفال فى كثير من أيام هذه السنة.
أما فيما يتعلق بحكومة المدينة فنرى المقدسى يشكو من أنْ ليس للمضطهد من "نصير"(المقدسى، ص 167) ولكنه يورد شبه هذه الملاحظات حين يتكلم عن أماكن أخرى، وإن كانت وثائق "الجنيزة"، تبين أن الموقف لم يكن يدعو إلى مثل هذه النظرة المتشائمة، فالعدالة تأخذ مجراها طالما وُجد الشخص القوى الذى يهتم بإقرارها ومنذ أن صارت "الرملة" عاصمة للولاية فقد صارت الأمور جميعها تحال إليها، إلا ما كان فيها من قضايا خطيرة كل الخطورة فإنها تحال إلى القاهرة للفصل فيها.
كذلك كانت "الرملة" مركز القطر من الناحية الاقتصادية كما تُبرهن على ذلك شواهد تدل على صحة هذا الأمر، "فالسفناجات * " التى لشخص ما فى
* وهى أوراق أو مستندات مقبولة الدفع يمكن تشبيهها بالشيكات البنكية. (التحرير)
القدس كانت تدفع نقدًا فى الرملة وترسل هذه السفناجات إلى القدس، أما أكثر العملة التى كانت متداولة فى القدس فى منتصف القرن الخامس الهجرى (= الحادى عشر الميلادى) فكانت هى العملة "الرومية"(أى العملة الايطالية الجنوبية)، وإن كنا نجد أيضًا بالقدس صيرفيا يحمل اسمًا فارسيًا كان يصدر السفناجات للصرف بالقاهرة، وكانت العملة الأكثر تداولًا بالقدس فى منتصف القرن الخامس الهجرى (= الحادى عشر الميلادى) هى العملة الرومية (أى عملة جنوب إيطاليا) أما إذا جئنا إلى الحىّ الإسلامى فوحدة التعامل به كانت هى دينار الغرب وذلك لأن الحجاج الوافدين من تلك النواحى من أوربة الغربية كانوا يؤلفون الأكثرية.
ونطالع فى كتب الجغرافيين المسلمين إشارات إلى الزيت والجبن والقطن والفواكه، كما يرد ذكر هذه المواد فى رسائل "الجنيزة" باعتبارها صادرات القدس الرئيسية، ولدينا رسالة من مدينة "صور" تتكلم عن كمية من الغزل مرسلة من القدس تكفى لنسج ألف ثوب مما يباع فى الأسواق ومن نوع الثياب المصنوعة منزليا. ولما كان كل رحالة من رحالة العصور الوسطى يسعى لكسب شئ من المال فإننا نجد فى القدس تجارة "التزانزيت" خاصة مع الفرس الذين يحملون أثقالًا من الحرير المعروف بالحرير "الابريزم" الثقيل المستورد من خراسان ليعاد تصديره ثانية إلى مصر، ثم يعود هؤلاء الرحالة بسلع البحر الأبيض المتوسط كالمرجان. ولما كانت القدس مدينة مقدسة فقد فرضت نوعا من "التشدد" على الملابس التى يرتديها الناس، ويوجد بين أيدينا كتاب كتبه أحد تجار الحرير وقد بعث به إلى الفسطاط يقول له فيه "الناس هنا يرتدون الحرير الأسود والداكن اللون وليس الحرير القرمزى الذى هو شائع بين أهل الرملة وعسقلان".
وترد الإشارة إلى "الصوافين"(أى تجار الصوف) والملابس باعتبارهم من الطبقات البارزة بين رجال الأعمال فى القدس، ونستدل على أن هناك من
يجعلون خدماتهم فى تناول تجارة الأقمشة بين القاهرة والقدس على أن الأخيرة بلغت من التقدم الاقتصادى درجة طيبة (lyoitein a mediterranean society، 292 - 294)
وكان بعض الوافدين الجدد من القادرين على شراء الدور والمخازن التى يعيشون من دخل ايجاراتها، هذا إلى جانب وجود غيرهم إلى جانبهم ممن كانوا يسعون فى الوقت ذاته إلى المتاجرة والربح، إلا أنهم كانوا يكثرون من الشكوى من "تقطع أسباب الحياة والمعيشة فى القدس ويقولون إنها ازدادت مضايقة"، وقول بعضهم "لقد جاء الكثيرون إلى هنا أغنياء فأضحوا فى زمرة الفقراء وذلك لبعد المدينة بعدًا شاسعًا عن أسواق التجارة العالمية" وكان مما يأخذونه على الوضع فرض الضرائب الباهظة على غير المسلمين، وربما أيضًا على كل الأجانب، وأصبح اليهود مدينين للمسلمين يدفعون لهم فوائد عالية حتى أصبحت المدينة غاصة بالفقراء lyoitein: of cit. 96 - 97
وكانت القدس محط رحال كثير من علماء المسلمين الذين جاء بعضهم للتدريس والبعض الآخر للدراسة (انظر ياقوت جـ 1 ص 516، 859، 887، وابن عساكر جـ 1 ص 397 جـ 2 ص 54، جـ 3 ص جـ 4 ص 153، 154 إلخ.).
على أنه من الأمور التى تستلفت النظر هو ورود ذكر "البصرة" فى معجم الأدباء لياقوت مائة وسبعين مرة ومعلها دمشق فقد وردت مائة مرة، على حين أن القدس لم يرد ذكرها إلا مرة واحدة أما الأغانى للأصفهانى فقد خلت خلوًا تامًا من ذكرها، ولذلك تجسّر المقدسى (ص 167) حين يقول إن المسجد الذى يعتبر مدرسة كان فارغًا من الناس وليس فيه من مدرسين ولا خدم. وليس من شك فى أنه كان مبالغًا فى هذا القول، وما تحسب أنه قال ما قال إلا بدافع من حبه الشديد لمدينته التى هى مسقط رأسه.
وقد زارها العالم الجليل الغزالى سنة 488 هـ (= 1095 م) حين أراد أن يعتزل الناس وآثر الوحدة فكانت القدس منتجعه، وقد أصبحت المدينة
ذات أهمية فكان ملاذًا يلجأ إليه ذوو العقائد التى لا تستقيم مع السنة أو من يُنفَون إليها. وقد ظهر هذا الأمر أول مرة زمن الأمويين (انظر الطبرى جـ 1 ص 1920، ابن سعد جـ 7 ص 156 - 157) فيطالعنا " ثور بن يزيد" الذى يضطر لترك دمشق من أجل آرائه فى "القَدَر" ويمضى إلى القدس ليقيم بها حتى يوافيه أجله حوالى سنة 153 هـ (= 770 م)، (انظر ابن عساكر جـ 1 ص 68، جـ 3 ص 383 - 384).
ونرى "تكين" التركى الذى دفن بالقدس سنة 321 هـ استجابة لرغبته بأمر أيام ولايته على مصر بنفى الصوفى أبى الحسن الدينورى إلى القدس (السيوطى: المحاضرة جـ 1 ص 294). ولما جاء العهد المملوكى أصبحت الإقامة الإجبارية فى القدس أمرا مألوفًا.
واشتهرت القدس بأنها مدينة نسّاخى الكتب. فكان يمارس نسخ الكتب عدد كبير من الأتقياء ومن العلماء والفقراء ولا تزال توجد إلى اليوم مخطوطات عربية مسيحية فى دير "ماد سابا" قرب فلسطين وهى ترجع إلى النصف الثانى من القرن الثالث للهجرة ومطلع القرن الرابع، وتوجد أيضًا نسخة أرمنية بخط مؤلفها تعود إلى سنة 870 م.
ويمدّنا النساخون اليهود ممن عاشوا بالقدس خلال القرن الخامس الهجرى (الحادى عشر الميلادى) بكثير من التفاصيل عن عملهم.
وتبعًا لما يقوله مجير الدين (ص 263 - 265) فقد كان المذهب الشافعى المذهب السائد بالمدينة حتى قبل مجئ الصليبيين، ثم يليه المذهب الحنبلى الذى أدخله أبو الفرج الشيرازى الفارسى فى الوقت الذى كان القاضى إبانه حنفيًا تركيًا.
ولقد كان هناك اختلاف ظاهر بين روح القرن الرابع الهجرى والتالى له، إذ امتاز الرابع بثلاثة مقادسة من أصل فارسى كانوا على جانب كبير من الاهتمامات الانسانية، أولهم الرحالة العظيم "المقدسى" الذى يعد واحدًا من أكبر الشخصيات التى تمخضت عنها