الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من وثائق محمد الصالح المهيدي
(1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله
ترجمة الشيخ سيدي محمد الخضر بن الحسين
ولد في "نفطة"، وهي بلدة واقعة بناحية الجنوب من القطر التونسي.
(1) محمد الصالح المهيدي (1322 - 1389 هـ) - (1902 - 1969 م): الكاتب، والصحفي، والمؤرخ، والباحث، من أعلام تونس، ولد في مدينة "نفطة" بالجنوب التونسي، وتلقى علومه في "جامع الزيتونة"، وحصل على شهادة معهد الحقوق، وعمل بالتدريس، وبجمعية الأوقاف، شارك في تحرير الصحف والمجلات من سنة 1920 م حتى سنة وفاته، وله دراسات قيمة ومحاضرات في المعاهد والنوادي الأدبية، وعمل في وزارة التربية، والثقافة، والدار التونسية للنشر. كان مغرماً في تصنيف ملفات خاصة بمكتبه للأعلام والأحداث، وفي مختلف الفنون والآداب، ومن حسن حظ الثقافة التونسية أن آلت ملفاته وكافة أوراقه إلى دار الكتب الوطنية بتونس. وهذا كسب كبير، وتضم الملفات والوثائق التي اطلعت عليها في قسم الدوريات بدار الكتب الوطنية ثروة ضخمة من المعلومات، وقد استفدت منها إلى أبعد الحدود في تراجم الأعلام الذين اعتنيت بتراجمهم ومؤلفاتهم.
وللأستاذ محمد الصالح المهيدي -رحمه الله تعالى- عناية خاصة بكل ما يتعلق بالإمام محمد الخضر حسين، وكلاهما من مواليد مدينة "نفطة". وهو مثقف مجدّ وجادّ، خدم أعلام تونس والثقافة أجل خدمة.
ومن مؤلفات الأستاذ المهيدي: تاريخ الصحافة التونسية وتطورها بالبلاد التونسية - أعلام الصحافة بتونس - تراجم التونسيين - تاريخ الصحافة المغربية - تاريخ المدن والقرى التونسية وغيرها. وله أحاديث قيمة ألقاها في الإذاعة التونسية.
كانت ولادته في اليوم السادس والعشرين من رجب 1293 هـ. ونشأ في زاوية والده القائمة في تلك البلدة. وابتدأ تعلّم القرآن الكريم وهو ابن خمسة أعوام وخمسة أشهر وخمسة أيام على أحسن الحفّاظ الذين تفقهوا بين يدي الأستاذ الشيخ سيدي المدني ابن عزّوز.
وفي آخر صفر سنة 1306 هـ رحل به والده في جملة العائلة إلى مدينة تونس، وضرب بها أطناب الإقامة. وفي آخر هذه السنة أتمَّ حفظ القرآن على ظهر قلب. وكان في خلال تعلّم القرآن يتلقى دروساً في التوحيد والفقه والحديث عن الأستاذ الشيخ أحمد الأمين بن عزوز، بعضها في بلدة "نفطة"، وبعضها في حاضرة تونس، كما أنه تمرَّن في صناعة القريض على يد هذا الأستاذ الجليل. ومما بثَّ في نفسه داعية حبِّ العلم والأدب: أنه كان لا يغيب عن مجالس والده التي كانت محطَّ رحال الزائرين من أهل العلم والأدب، وكثيراً ما تدور فيها المذاكرات العلمية والأخلاقية.
دخل صاحب الترجمة الجامعة الزيتونية سنة 1307 هـ، ودرس علوم الشريعة من فقه وأصول وكلام وحديث وتفسير، وعلوم العربية من نحو وبلاغة وأدب وفقه لغة، وبعض العلوم النظرية؛ كالمنطق، وأخذ هذه العلوم من كبار الأساتذة مثل: رئيس العلماء بالديار التونسية الأستاذ الشيخ سالم بوحاجب -مدَّ الله في حياته-، والأستاذ الشيخ عمر بن الشيخ، والأستاذ الشيخ أحمد بو خريص، والأستاذ الشيخ مصطفى رضوان، والأستاذ الشيخ محمد النجار، والأستاذ الشيخ ابن حسين، والأستاذ خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز، والأستاذ الشيخ إسماعيل الصفايحي، والأستاذ الشيخ مصطفى بن خليل، والأستاذ الشيخ طاهر صفر، والأستاذ الشيخ محمد بن يوسف. وشهد
دروس أساتذة آخرين أو مجالسهم على قلة؛ مثل: شيخ الإسلام أحمد بن الخوجة، وشيخ الإسلام أحمد كريم، والقاضي الشيخ الطاهر النيفر، والقاضي الشيخ محمود بيرم، والعلامة الشيخ الشاذلي بن القاضي، والشيخ محمد يحيى الشنقيطي، والشيخ النوري شيخ الشيوخ بوطن الجريد.
ومن الشيوخ الذين كان يشهد مجالسهم، ويلتقط من معارفهم: المفتي المالكي الشيخ الطيب النيفر، والأستاذ الشيخ محمد السنوسي، وشيخ الإسلام محمود بن الخوجة.
وخوطب صاحب الترجمة على ولاية القضاء خارج الحاضرة قبل أن يحرز شهادة العالمية، فامتنع؛ حيث رأى أن مبارحة المعهد الزيتوني تقف به دون الغاية المطلوبة.
وفي سنة 1316 هـ تقدم لمجلس الامتحان، وألقى درساً من الشرح المطوّل على مختصر السعد، وآخر من شرح الزرقاني على مختصر الشيخ خليل، وثالثاً من شرح الخبيصي على التهذيب، وأحرز شهادة التطويع المساوية لشهادة العالمية بالجامع الأزهر، وأقبل على التدريس بالجامع الأعظم، مع الاستمرار على الحضور في بعض الكتب العالية؛ كتفسير القاضي البيضاوي الذي كان يدرّسه الأستاذان الشيخ عمر بن الشيخ، والشيخ محمد النجار، وشرح القسطلاني على صحيح البخاري الذي كان يدرسه الأستاذ الشيخ سالم بو حاجب، وشرح السعد للمؤلف الذي كان يدرسه الشيخ النجار.
وفي سنة 1317 هـ عزم على الرحلة إلى مصر لاختبار الحالة العلمية، والمقام في ساحة الأزهر إن رأى في الأخذ عن أساتذته فائدة فوق ما يجتنيه من دروس الأساتذة بجامع الزيتونة.
فوصل إلى طرابلس الغرب، وأقام بها بضعة أيام نزيل الأستاذ محمد السماتي، ثم اعترضه عائق صرفه عن هذه الوجهة، فقفل راجعاً إلى الحاضرة، ومضى في سبيل التلقي والعلم بجامع الزيتونة.
وفي سنة 1321 هـ أنشأ مجلة علمية أدبية تسمّى: "السعادة العظمى"، وأقبل عليها أهل العلم والأدب في تونس والجزائر، وانهالت عليه لأول بروزها رسائل التقريظ شعراً ونثراً. وقد حاول بعض من لم يفقهوا الغرض من تحريرها أن يلقوا في سبيلها عثرات، أو يمسوا صاحبها بأذى، فأومأ إليهم الوزير الشيخ محمد العزيز بوعتّور بالكف عن ذلك، فأحجموا. وممن كان يشدّ عزمه على متابعة نشرها الأستاذ الشيخ سالم بوحاجب، حتى قال له يوماً بعد انتهاء درس "صحيح الإمام البخاري": لا يهمك ما تلاقي في سبيل القيام بهذه المجلة، فالأمر كما قال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي".
وفي سنة 1323 هـ تقلّد منصب القضاء بمدينة "بنزرت"؛ كما عهد له بالخطابة والتدريس بجامعها الكبير، واستمر قائماً بهذه الوظائف سنة وبضعة أشهر، ولما رأى خطّة القضاء محفوفة بمكاره، زيادة على كون العمل فيها أقل مما تتعلق به الهمة، راسل الحكومة بالاستعفاء منها، فتمهلت في قبوله، إلى أن كرر عليها المراسلة والخطاب مشافهة، وتحققت تصميمه على ذلك، فراسلته بقبول الاستقالة، وفي أثناء ولايته القضاء، ألقى محاضرة موضوعها:"الحرية في الإسلام" بنادي جمعية قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية، وحضرها جم غفير من العلماء والشبيبة المتنورة والمستشرقين.
عاد صاحب الترجمة إلى الحاضرة، وتصدى للتدريس بجامع الزيتونة
الأعظم متطوعاً، وعينته الحكومة في لجنة تنظيم المكتبة الصادقية.
وفي سنة 1325 هـ قام طائفة من أهل العلم بتأسيس جمعية زيتونية، وأقاموا حفلة بنادي المدرسة الخلدونية، فارتجل صاحب الترجمة خطاباً في تحبيذ المشروع، واستنهاض الهمم لتعضيده، وانتخب يومئذ عضواً في مجلس إدارتها، وكان أحد المشاركين في وضع قانونها.
وفي سنة 1325 هـ تولى وظيفة التدريس بالجامع الأعظم.
وفي سنة 1325 هـ عين مدرساً بالمدرسة الصادقية، وفي هذه السنة انتخبته هيئة إدارة المدرسة الخلدونية لدرس الإنشاء في هذه المدرسة، وألقى بها محاضرة موضوعها:"حياة اللغة العربية"، وكان النادي غاصاً بالعلماء والناشئة المفكِّرة وبعض المستشرقين.
ولما قامت الحرب الطرابلسية الطليانية، كان من الداعين لمساعدة جمعية الهلال الأحمر، ونشر في جريدة "الزهرة" قصيدته التي يقول في طالعها:
ردّوا على مجدِنا الذّكْرَ الذي ذَهَبَا
…
يكفي مضاجعنا نَوْمٌ دَها حُقُبا
ثم إن صاحب الترجمة رحل إلى بلاد الجزائر من عاصمتها إلى أكثر مدنها، وكان في أثناء رحلاته يلقي دروساً في الحديث والتفسير، والبلاغة والمنطق والعروض في بلاد مختلفة، وحضر دروس أو مجالس كثير من أفاضل علمائها؛ مثل: الشيخ عبد القادر المغربي، والشيخ عاشور، والشيخ حمدان الونيّسي، والشيخ محمد بن الخمّار، والشيخ المدني بن أحمد بن عمر، والشيخ عبد الحليم بن سماية، والشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي، والشيخ بن شريط.
وكان يلذّ له السفر إلى الجزائر؛ لما يجده لدى أهلها من شدة الحرص على المذاكرات العلمية، ولاسيما في أحكام الشريعة وآدابها، حتى إن سكان "وادي سوف" وما حوله من القرى كانوا يستقبلونه بغاية البشر والاحتفاء، ولشغفهم بدراسة الحديث والتفسير، كان يقضي الصباح والمساء وصدراً من الليل في إلقاء دروس وعظ بالجامع، أو في مجالس تعقد بمحل إقامته.
أقرأَ صاحب الترجمة بجامع الزيتونة الأعظم فنوناً وكتباً متعددة؛ مثل: "شرح الدردير لمختصر خليل"، و"مختصر السعد"، و"شرح المحلى بجمع الجوامع"، و"شرح الأشموني لألفية ابن مالك"، و"التنقيح" للقرافي، و"المثل السائر" لابن الأثير، وأقرأ دروساً من "تفسير القاضي البيضاوي" بمسجد الشيخ سيدي قاسم الزلّيجي، حضرها طائفة من أذكياء أهل العلم، ولم ينقطع عنها إلا برحلته الشرقية.
ونشر في الجرائد مقالات وقصائد اجتماعية إصلاحية؛ كقوله من قصيدة نشرت في جريدة "الزهرة":
إن الحياةَ هي الأيامُ زاهرةٌ
…
ولا أرى الموْتَ غَيْرَ العَيْشِ في نكًدِ
ولا يَطيب الفتى عيشاً إذا نَسَجَتْ
…
في أرضِه مُزْنةٌ والناسُ في جَرَدِ
وإنما الشعبُ أفرادٌ مؤلفةٌ
…
في هيئةِ الفرد ذو قلبٍ وذو جَسَدِ
أما الفؤادُ فأربابُ السياسةِ إنْ
…
هَمّوا بخيْرٍ فباقي الجسمِ في رَشَدِ
وإن ذَكَتْ أمةٌ لانتْ قِلادتُها
…
بكفِّ قائدِها في السهْلِ والسَّنَدِ
والعِزُّ في الدولةِ العُظمى إذا بُنِيَتْ
…
على أساسٍ من الأحْكام مُطَّرِدِ
تحمي حقوقَ بني الإنسانِ قاطبةً
…
لايعتدي أحدٌ منهم على أَحَدِ
والعدلُ أن يرِدوا فصلَ القضيةِ مِنْ
…
باب المساواةِ لا إيثارِ ذي حَفَدِ
وكيف يَرْجَحُ أقوامٌ ووزنُهُم
…
فيما يُحَدُّ به الإنسانُ لمْ يزدِ
إن الرعيةَ أعضاءٌ مساعدةٌ
…
للمُلْكِ بالرأي والأموال والحَشَدِ
تلكَ العظائمُ لا تشتدُّ أزْمتُها
…
وطئاً إذا ضربوا فيها يداً بيدِ
كذا المشاكلُ لا تجلو غوامِضَها
…
إلا بمجلس شورى راسخِ العُمُدِ
وإن تصادمتِ الأفكارُ لاح سنى
…
حَقٍّ وأصبَح ذاك الحقُّ في زردِ
والقابضونَ على أمرِ السياسةِ لا
…
يسرُّهُمْ أنْ تُرى الأقلامُ في صَفَدِ
يسمو بهم شرفُ الوجدانِ أن يضَعوا
…
نظامَهُم بمكانِ العير والوَتدِ
الخضر بن الحسين
وفي سنة 1330 هـ انتقل إخوته ووالدته إلى الشام، ونزلوا في دمشق، والتحق بهم صاحب الترجمة بعد شهر، فمرَّ بمصر، واقترح عليه الطلبة قراءة درس بالجامع الأعظم، فألقى درساً في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122} الآية. وبعد أن مكث فيها ثلاثة أيام سافر إلى دمشق، فقضى فيها نحو شهر ونصف، وتعارف من خلال هذه المدة بكثير من علمائها وفضلائها، وألقى دروس وعظ بالجامع الأموي، ثم سافر إلى الآستانة، ودخلها أيام أعلنت الحرب بين الدولة العلية والبلقان، وأقام بها نحو أربعين يوماً نزيل خاله الأستاذ الشيخ محمد المكي بن عزّوز، فتعارف ببعض أهل الشرف والعلم، وتروّر على مكاتبها، وعاد إلى تونس في ذي الحجة آخر تلك السنة، وتوارد العلماء والفضلاء من أهالي الحاضرة على تهنئته بالقدوم، وواصل دروسه بجامع الزيتونة، ونشر خلاصة من
رحلته في جريدة "الزهرة".
وفي سنة 1331 هـ ألقى محاضرة موضوعها: "مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها" بنادي جمعية قدماء تلاميذ المدرسة الصادقية، وحضرها -كالمحاضرتين السابقتين- جمّ غفير من العلماء والناشئة المتنورة. وفي هذه السنة عقدت الحكومة لجنة لتأليف كتاب شامل لتاريخ المملكة التونسية، وعينته عضواً في هذه اللجنة، فعمل معها بضعة أشهر. وفي شهر شعبان من هذه السنة أزمع الرحلة إلى الشام، فسافر على طريق الجزائر، وفي بلدة "تبسّة" احتفل به مؤسسو مدرستها، والتمسوا منه الإقامة لديهم على الوجه الذي يختاره، فاعتذر، وغادرهم إلى مدينة "عنّابة" حيث ركب الباخرة إلى مرسيليا، ثم إلى الإسكندرية، ثم إلى مصر، فأقام بها ثلاثة أيام، التقى فيها بالأستاذ السيد رشيد رضا، ورفيق بك العظم صاحب "أشهر مشاهير الإسلام"، وغيرهم، ثم انتقل إلى الشام، ودخل دمشق في أوائل شهر رمضان، وألقى دروساً بالجامع الأموي، حضر بعضها الأستاذ محمد أفندي كرد علي، ونوَّه بشأنها في جريدة "المقتبس". ثم في أواخر هذا الشهر سافر إلى المدينة المنورة للتبرّك بالحضرة النبوية ومشاهدها المحترمة، فأقام بها نحو خمسة عشر يوماً، قضاها في مذاكرات علمية وأدبية، واقترح عليه طائفة من أهل العلم قراءة درس في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] الآية. فأجاب مقترحهم، وقرأه بالحرم النبوي ما بين المغرب والعشاء، وهناك أنشد قصيدته في الحضرة النبوية التي يقول في طالعها:
أُحَييك والآماقُ ترسلُ مَدْمَعا
…
كأنيَ أحدو بالسلامِ مُوَدِّعا
وما أدمعُ البُشرى تموجُ بِوجْنَةٍ
…
سوى ثَغْرِ صبًّ بالوصال تَمَتّعا
ولقي من أفاضل العلماء الأستاذ المحدّث السيد محمد بن جعفر الكتاني، والشيخ أحمد شمس خليفة، والشيخ ماء العينين الشنقيطي.
وممّن لازم صاحب الترجمة في أغلب أوقات المذاكرات، وكان أحد الطالبين للدرس الذي ألقاه في الحرم النبوي: العالم الشيخ عبد العزيز البدّاح المدرّس لدى أمير الكويت الآن، وقد راسل هذا الشيخ بعد عوده إلى وطنه صاحب الترجمة برسائل متعددة، يطلب منه القدوم إلى الكويت بقصد الإقامة، فإن لم يتيسر، فعلى وجه الزيارة.
ثم عاد إلى دمشق، فأقام بها بضعة أيام، وسافر إلى الآستانة العلية، وحين وصوله إليها عينته وزارة المعارف مدرساً لآداب اللغة العربية والفلسفة بالمدرسة السلطانية الجديدة في دمشق، وفي هذه المرة زار دار الفنون صحبة خاله الأستاذ الشيخ محمد المكني بن عزّوز مدرس علم الحديث بها. وحضر مجلس امتحان الطلبة في آداب اللغة العربية.
وبعد أن أقام بالآستانة مقدار شهر ونصف، رجع إلى دمشق، فقام بوظيفة التدريس بالمدرسة المومأ إليها، وكان مع ذلك يحرر وينشر مقالات وقصائد في الإصلاح وتقويم الخلاف بين الأمتين التركية والعربية، زيادة على الدرس الذي كان يلقيه بالجامع الأموي في أيام رمضان.
وفي سنة 1332 هـ قدم حاضرة دمشق الطيّاران فتحي وصادق، وتسابق الأدباء إلى نظم القصائد في هذا الغرض، فنظم من بينهم قصيدة نشرت في جريدة "المقتبس"، وكان لها وقع حسن في نفوس أهل الأدب من السوريين، وهي التي يقول في طالعها:
قضيتَ مدىً بمضمارِ الحياةِ
…
تجولُ على مُتونِ الصّافناتِ
كأنَّ الخيلَ غايةُ مُستطاعٍ
…
وأسرعُ نافذٍ بكَ في فَلاةِ
وفي سنة 1334 هـ زاره أحد المحامين من أدباء طرابلس الشام بكتاب ألّفه في أدبيات اللغة العربية، ورغب إليه أن يطالعه، وينبهه على ما يحتاج إليه من زيادة وإصلاح. وبعد أيام زاره صاحب الترجمة بمكتب المحاماة، وكان بجانبه أحد الشيوخ من أقاربه، فأخذ ذلك المحامي يخوض في سياسة الدولة، ويشير إلى تأليف حزب يعمل ضدها، فقام صاحب الترجمة في معارضته، وأقام له الشواهد على سوء عاقبة هذا الرأي، حتى انقطع عن الكلام، وطُويَ بساطُ المجلس. وبعد شهرين وقفت الحكومة على ما جرى في ذلك المجلس لإبلاع من بعض أقارب المحامي نفسه، فاستدعت دائرة الشرطة صاحب الترجمة يوم عشرين في رمضان من تلك السنة بالحقيقة، وتيقنت براءته من المشاركة في ذلك الغرض، واعتذر على عدم المبادرة إلى إعلام الحكومة بما صدر من ذلك المحامي: أنه لم يكن بيده دلائل وأمارات يستطيع أن يثبت بها ما يدعيه على ذلك المحامي متى أقام قضية، وطالبته الحكومة بالإثبات.
والقانون يقتضي عقوبة من يتهم إنساناً بجريمة سياسية، ثم لا يثبتها ببينة، وقصَّ لهم حادثة رجل امتلأ منه الوالي غيظاً، وطرده من ساحته بعلّة أنه أبلغه بعض حوادث، ولما بحث عنها، لم يجد لها ما يصدقه. ورجل آخر اتهم فريقاً بمساعي ضد الحكومة، فلم تأخذ قوله على علاته، بل أودعته السجن، وطالبته بإثبات ما يدعيه على أولئك الفريق، فقنعت دائرة الشرطة بهذا الاعتذار، ووقع الإذن باعتقال صاحب الترجمة إلى أن تنتهي قضية المتهمين، فاعتقل في جملتهم بخان (مردم بك) ستة أشهر وأربعة عشر
يوماً، ولما عرضت أوراقه على المحكمة العرفية، أحضرته، وبحثت معه في القضية بتدقيق، ثم حكمت ببراءته، بل قدمت إلى جمال باشا طلباً بمكافأته، وقال له رئيس المحكمة العرفية فخري باشا يوم استدعاه من المعتقل ليخبره بحكم البراءة على ملأ من الناس: اطلب ماذا تريد، ونحن نسعى لك عند الدولة، فأجاب بأنه لا رغبة له في شيء، ولامه بعض الحاضرين من أعيان طرابلس الشام على عدم انتهاز هذه الفرصة، ولكن صار بعد ذلك يذكرها له في شواهد عدم الالتفات إلى المنافع المادية.
اعتقل صاحب الترجمة، ولم يتزحزح عن مبدئه، بل كان وهو في نفس المعتقل يجادل المتطرفين في الإنكار على الدولة، حتى قال بعض أعيان السوريين الذين صاحبوه في المعتقل: ما رأينا رجلاً يدافع عن الحكومة وهو بين جدران سجنها إلا فلاناً، يعنون: صاحب الترجمة.
ولما وصل خبر اعتقاله إلى الآستانة، كلّف وزير الحربية أحد رؤساء بعض أقسامها إرسال تلغراف على لسانه إلى جمال باشا يأمره بأن لا يفصل في قضية صاحب الترجمة شيئاً إلا بعد عرضها على وزارة الحربية بالآستانة.
وقدّم صاحب الترجمة إلى المحكمة العرفية -زيادة على الجواب الشفاهي- دفاعاً نثراً، وآخر شعراً يقول في أوله:
يسوسُ أخو الفِكْرِ القَضايا ويفصلُ
…
وما كلُّ مَنْ ساسَ القضيةَ يَعْدِلُ
وما ضلَّ وجهُ الحقِّ عن رأي باحثٍ
…
وإن راح في بحر الدّجى يَتَوَغَّلُ
ويلبس من صُنع القضاءِ مَحامِداً
…
إذا كان من باب العَدالةِ يَدْخُلُ
فيا مجلسَ الحكّامِ دونَكَ بعضَ ما
…
أرَتْنا الليالي والحقائق تُنْقَلُ
وقال أيام حيل بينه وبين أدوات الكتابة وهو في المعتقل:
غلَّ ذا الحبسُ يدي عن قلمِ
…
كان لايصحو عن الطّرسِ فنَاما
هل يذودُ الغَمْضُ عن مقلتِه
…
أوْ يُلاقي بعلَه الموتَ الزّؤاما
أنا لولا هِمَّةٌ تحدو إلى
…
خدمة الإسلامِ آثرتُ الحِماما
ليستِ الدُّنيا وما يقسُمُ مِنْ
…
زَهْرِها إلا سراباً أو جَهاما
وقال في حال الاعتقال، وقد جرت بينه وبين بعض الأدباء محاورة في المفاضلة بين الحاضرة والبادية:
رأى صاحبي في الحبْسِ أن الحياةَ في الـ .... ـحضارةِ أرقى ما يتم به الأنْسُ
فقلتُ له فضلُ البداوة راجِحٌ
…
ويكفيكَ أنَّ البَدْوَ ليس به حَبْسُ (1)
أُطلق سراح صاحب الترجمة في اليوم الرابع من ربيع الثاني سنة 1335 هـ، فأقبل إليه علماء دمشق وفضلاؤها وأدباؤها جماعات وفُرادى لتهنئته بالسلامة، ومن بينهم: جماعة من الموظفين الأتراك؛ لاطلاعهم على حقيقة القضية، ومعرفتهم بالأعمال التي قام بها صاحب الترجمة تجاه الأمة العثمانية.
ولما انتهى خبر الإفراج عنه إلى الآستانة، بعث إليه الأستاذ إسماعيل
(1) الأبيات في ديوان "خواطر الحياة":
جرى سمر يوم اعتقلنا بفندق
…
ضحانا به ليل وسامرنا رمس
فقال رفيقي في شقا الحبس إن في الـ
…
ـحضارة أنساً لا يقاس به أنس
فقلت له فضل البداوة راجح
…
وحسبك أن البدو ليس به حبس
الصفايحي برسالة التهنئة، ومما يقول له ضمنها:"أنا على يقين من براءتكم وإخلاصكم، ولم يدخل علينا شك في ذلك".
وفي هذه السنة 1335 هـ كان يلقي دروساً دينية وأدبية بالمدرسة العثمانية، والتمس منه جماعة من أهل العلم قراءة كتب منها "صحيح الإمام مسلم"، و"بداية المجتهد"، و"المستصفى" للغزالي، و"المغني" لابن هشام، و"الكامل" للمبرد، فأجاب طلبهم، وشرع في دراستها بجامع باب سريجة، وواظب على قراءتها أشهراً إلى أن اقتضى الحال سفره إلى الآستانة سنة 1336 هـ، فسافر على طريق حلب، ثم أَدَنَةَ، ثم قونية، ثم أسكيشهر، ونزل في الآستانة ضيفاً مكرماً ببيت الأستاذ المرحوم الشيخ إسماعيل الصفايحي، وعيّن يومئذ كاتباً بالقلم العربي في بعض أقسام وزارة الحربية. كما عينته المشيخة الإسلامية واعظاً بجامع (الفاتح) في شهر رمضان مكان الأستاذ الشيخ إسماعيل الصفايحي حيث تنازل له عن هذه الوظيفة. ومن حسن تواضع ذلك الأستاذ الشيخ العظيم: أن حضر بنفسه في أول درس ألقاه صاحب الترجمة، وكان جالساً بجانبه داخل حلقة الدرس.
ومما جرت إليه المناسبة في الدرس: أن صاحب الترجمة قرّر ما قاله ابن حزم في قصة داود عليه السلام من الأخذ فيها بظاهر القرآن، وأن قوله تعالى:{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21]، وارد في رجلين حقيقيين، لا كما يقوله بعض المفسرين من أنهما ملكان أتياه في سورة رجلين. فأورد أحد الحاضرين من الأتراك: أن هذا الوجه لا يصحّ معه قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24]؛ فإن هذه الآية تدل على صحة ما يقوله المفسرون من أنهما ملكان أرسلهما الله لتنبيهه وعتابه على
ما صدر منه، فأجابه صاحب الترجمة بأن الخصمين لما تسوّرا المحراب، فزع منهما داود عليه السلام، وظن أنهما يريدان إذايته، وهذا الظن الذي سبق إليه، ووقع على بريئين من تلك الإرادة السيئة هو الذي ندم عنه، وعدّه مما يستحق أن يستغفر الله منه، واستحسن الأستاذ الشيخ إسماعيل هذا الجواب جداً، حتى كلف صاحب الترجمة بعد عوده إلى البيت لكتابته.
وحضر صاحب الترجمة يوماً من أيام الجمعة بجامع تكية الشيخ ظافر، فرغب منه الإمام، وهو من الشيوخ المصريين، أن يقوم مقامه في الخطبة، فصعد المنبر، وارتجل خطبة في الحث على اتّباع الشرع العزيز، والتمسك بآدابه، وكان لها موقع في نفوس السامعين.
وشهد حفلة صلاة الجنازة على السلطان محمد رشاد، ومبايعة السلطان وحيد الدين بقصر "طوب كبو"، وكلفته وزارة الحربية بتحرير منشور في الإعلام بوفاة السلطان الأول، ووصف حفلة مبايعة السلطان الثاني، والدعوة إلى مبايعته؛ ليوزع في أنحاء المملكة العثمانية.
والتقى بالسيد أحمد السنوسي، وكان في صحبته يوم تجول بمحل آثار الانكشارية العتيقة، وحين أجري أمامه تمثيل بعض وقائع حربية بوسيلة السينما تغراف، وكلف بتحرير منشور في وصف استقبال هذا السيد، وعناية السلطان به، واختياره لأن يقلده سيف الملك، على خلاف عادة سلاطين آل عثمان الأقدمين من أن الذي يقلّدهم السيف إنما هو شيخ الطريقة المولوية.
وحضر أياماً متعددة في درس الأستاذ الشيخ إسماعيل الصفايحي لصحيح البخاري بجامع الوالده، وتجري في الدرس أبحاث مفيدة، حيث إن الأستاذ الصفايحي يتصدى في الدرس لدحض الشبه التي يوردها زنادقة هذا العصر
على الإسلام، كما يتعرض لإبطال الآراء التي تنشرها بعض الصحف، وتكون مصادمة لتعاليم الشريعة.
ثم اتخذ صاحب الترجمة منزلاً خاصاً بالقرب من الباب العالي، ورغب منه أحد أهل العلم من الأتراك الذين كانوا يشهدون دروسه الوعظية بجامع الفاتح قراءة "تفسير القاضي البيضاوي"، فأجاب مطلبه، وكان ذلك الشيخ يتردد عليه لسماع دروس من التفسير المومأ إليه إلى أن عزم صاحب الترجمة على مبارحة الآستانة.
وفي أول يوم من رمضان سنة 1337 هـ انطلق من الآستانة إلى "بالي كسي"، ثم "أزمير"، وأقام بها نحو عشرين يوماً، ثم ركب الباخرة إلى إيداليا، فجزيرة قبرص، فإسكندرونة، فطرابلس الشام، وشهد بها اليوم الثاني من عيد الفطر في جملة بعض أعيانها الذين انعقدت بينه ويينهم صداقة في دمشق، ثم انتقل إلى حمص، ومنها إلى دمشق الشام. ومما قاله في أثناء هذا السفر:
أنا كأسُ الكريمِ والأرضُ نادٍ
…
والمطايا تطوفُ بي كالسُّقاةِ
رُبَّ كأسٍ هوتْ إلى الأرض صَدْعاً
…
بين كفٍّ تديرها واللَّهاةِ
فاسْمحي يا حياةُ بي لبخيلٍ
…
جَفْنُ ساقِيه طافحٌ بسُباتِ
وقال:
كأنيَ دينارٌ ودِمَشْقُ راحةٌ
…
تعودتِ الإنفاق طولَ حياتها
فكم سمحتْ بي للنّوى عقبَ النَّوى
…
ولم أقْضِ حقَّ الأنْس بين سَراتِها
وبعدما استقر به النوى في دمشق، عُيّن عضو شرف في المجمع العلمي، وبعث إليه رئيس المجمع محمد أفندي كرد علي بكتاب يقول فيه: "بناء على
ما عهد بكم من العلم والفضل والغيرة على المصالح الوطنية، قد انتخبكم المجمع العلمي العربي عضو شرف فيه؛ للاستعانة بآرائكم السديدة، واختباراتكم الثمينة، فالمرجو أن تتكرموا بقبول ذلك".
وعاد صاحب الترجمة إلى إلقاء دروس دينية وعربية في المدرسة العثمانية، وهي أكبر مدرسة أهلية بدمشق، ثم عينته الحكومة لدرس صناعة الإنشاء والخطابة بالمدرسة العسكرية، وعينته وزارة المعارف مدرسَ العلوم الدينية بالمدرسة السلطانية "مكتب عنبر"، وبعد تعيينه هذه الوظيفة ترجح لديه السفر إلى مصر، فلم يتمكن من مباشرتها.
ولقي صاحب الترجمة من علماء دمشق وأدبائها وفضلائها سائر أيام إقامته بها حفاوة واحتراماً، ولما عزم على الرحيل منها، كتب إليه صديقه خليل مردم رئيس الرابطة الأدبية رسالة يذكر فيها أسفه على الفراق، وفي صحبتها قصيدة أومأ في الرسالة أن تكون كالرَّتيمة وتذكار الود والصداقة. فبعث إليه صاحب الترجمة بالأبيات الآتية:
ما النجمُ تجري بهِ الأفلاكُ في غَسَقٍ
…
كالدُّرِّ تقذِفُه الأقلامُ في نَسَقِ
لقد سلوتُ محيّا البدْرِ إذ طلعتْ
…
عقيلةُ الطِّرْسِ والأجفانُ في أَرَقِ
وكنتُ أرشُفُ من مجرى بَلاغَتِها
…
راحًا فيهدَأ ما في الجأْشِ من قَلَقِ
تخشى إذا أفصحتْ عمّا توهَّج مِنْ
…
حماسةٍ أن تَشُبَّ النارُ في الوَرَقِ
فألْبَسَتْها أساليبَ النَّسيبِ وكم
…
ذاقَ الحشا لوعةً من ناعسِ الحَدَقِ
هي الرَّتيمةُ فيما قالَ مبدعُها
…
وهل يغيبُ السَّنا عن طلعة الفَلَقِ
إني على ثقةٍ مِنْ أن ذكرَك لا
…
ينفَكُّ مرتَسماً في النَّفْسِ كالخُلُقِ
وكيف أنسى خليلاً قد تضوَّعَ في
…
حُشاشتي ودُّهُ كالعَنْبر العَبِقِ
وفي الورى خَزَفٌ لكن تبرَّجَ في
…
نضَارةِ الذهبِ الأصفى أو الوَرِقِ
لا عتب إن ضاق باعي في القريضِ فلمْ
…
يُضِئْ كما ضاءتِ الجوزاءُ في الأُفُقِ
فإنَّ إحساسي الشِّعريَّ أَوشَكَ أنْ
…
يلاقي النَّفَسَ الأقْصى من الرَّمَقِ
لم تُبْقِ لي حادثاتُ الدَّهْرِ منه سوى
…
أَثارةٍ كبقايا الشَّمسِ في الشَّفَقِ
وكان جماعة من أهل العلم مثل: الأستاذ الشيخ محمود ياسين، والسيد الشريف النص، والسيد توفيق، والسيد عارف الدّوجي يعقدون مجالس في بيوتهم لمطالعة كتب شرعية أو أدبية، وكان بينهم وبين صاحب الترجمة مودة خالصة، وصداقة محكمة، ولما طابت له مذاكراتهم، وحمد رقة آدابهم وشرف همتهم في العلم، كان لا يغيب عن هذه المجالس -التي تنعقد في أغلب أيام الأسبوع- إلا لعذر، وختموا بهذه السيرة كتباً؛ مثل:"المواهب اللدنية"، وقد فارقهم وبين أيديهم "إعلام الموقعين" لابن القيم.
وبما أن صاحب الترجمة باشر التدريس في مدارس الحكومة وبعض المدارس الأهلية مدة ليست بالقصيرة، تخرّج على يديه عدد كبير من التلاميذ، أصبحوا يشغلون اليوم دواوين الحكومة وغيرها من المصالح، وكان يلاقي منهم عاطفة احترام وإجلال يبدونها في مظهر جعله يشهد لتلك الناشئة بصحة العهد، وصفاء الذوق.