الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة عَلَّامة الشام محمد بهجة البيطار
(1)
كان من حكمة الله تعالى ورحمته أن يسر لنا -معشر طلاب العلم- بعد وفاة شيخنا علامة الشام الشيخ جمال الدين القاسمي: إماماً حكيماً، وهو أستاذنا الشيخ محمد الخضر حسين -رحمهما الله تعالى، ورضي عنهما-؛ فقد شملنا بعنايته بعد وفاة صديقه القاسمي (1332 هـ)، وخيّرنا فيما نحب أن نقرأه من العلوم والفنون والكتب، فكان أن وقع اختيارنا -بتوجيهه وإرشاده- على كتاب "المستصفى في أصول الفقه" لحجة الإسلام الغزالي، وكتاب "بداية المجتهد" للفيلسوف ابن رشد في فن الخلاف، و"صحيح الإمام مسلم" في علم الحديث، و"المغني في العربية" لشيخ النحاة ابن هشام، و"الكامل في الأدب" للمبرد.
فتولى شيخنا قراءة هذه الكتب على أفضل طريقة، وأنشأ تعليقات مهمة عليها، يصح أن تكون مرجعاً فيما يُشكل على الباحث في مطالبها المنوعة، ومقاصدها العليا، وقد نظمت أبياتاً في ذلك العهد في شأنها، وقرأتها على
(1) مقدمة علامة الشام الشيخ محمد بهجة البيطار لكتاب "دراسات في العربية وتاريخها" للإمام محمد الخضر حسين - الطبعة الأولى (1380 هـ - 1960 م) بدمشق، ولم تكرر في الطبعات التالية للكتاب؛ لذا اقتضت الأمانة العلمية أن نوردها هنا.
أستاذنا الخضر والطلاب في جلسة الدرس، فأعجبته -عليه الرحمة والرضوان- من حيثُ كونهُا تاريخاً لمجتمعنا، وقراءتنا عليه، وقدمت له منها نسخة، وها هي هذه:
يا سائلي عن درْسِ رَبِّ الفضلِ مولانا الإمام
ابنِ الحسينِ التونسي محمدِ الخضرِ الهمام
سَلْ عنه مُستصفى الأُصول لليثِ مُعْتَرك الزِّحام
أعني الغزاليَّ الحكيمَ رئيسَ أعلامِ الكلام
وكذاكَ في فَنِّ الخلافِ بدايةَ العالي المقام
أعني ابنَ رشدٍ مَنْ غدا بَطَلَ الفلاسفةِ العِظام
وكذلك المغني إلى شيخِ النحاةِ ابنِ الهشام
وكذا كتاب أبي يزيدَ ابنِ المبرِّدِ في الختام
تلك الدروسُ كما الشموسِ تُنير أفلاكَ الظلام
فتكونُ منكَ حقائقُ المعنى على طرفِ الثمام
فالحقُّ عَوَّضَنا به من شيخِنا شيخِ الشآم
وكذا صحيحُ أبي حسينٍ مسلمٍ حبرِ الأنام
فعليه ما ذرّ الغزالة رحمةُ الملكِ السلام
وقد أشار أستاذنا الجليل في مقدمة هذا الكتاب إلى دراستنا إياه عليه، وإلى اقتراحنا جمعَ أصوله المفرقة، وإلى استجابته لنا بقوله رحمه الله رحمة الأبرار-: واستخدمت القلم في تحرير مطلبهم، فألفت مقالات تشرح حقيقة القياس، وتفصِّل شروطه، وتدل على مواقعه وأحكامه، وقد كتبتُ هذه الرسالة
في عهده، وأطلعته على كلمتي فيها، فراقته، وأذنَ في بنشرها، وها هي ذي بنصِّها:
* القياس في اللغة العربية:
أورد المؤلف لهذا الكتاب مقدمات في فضل اللغة العربية، ومسايرتها للعلوم والمدنية، وحالها في الجاهلية، وارتقائها في الإسلام، وجعله إياها لغة الشعوب، وبحث في وجه الحاجة إلى إنشاء مجمع لغوي؛ ليرفع لواء اللغة العربية في الشرق والغرب، ثم بعد أن مهد المؤلف تمهيداً بين فيه حاجتنا إلى القياس في اللغة، عقد فصلاً ممتعاً تحت عنوان:"أنواع القياس، وما الذي نريده من بحثه في هذه المقالات؟ " استهله بقوله:
تجري كلمة القياس عند البحث في معاني الألفاظ العربية وأحكامها، فترد على أربعة وجوه:
1 -
حمل العرب أنفسهم لبعض الكلمات على أخرى، وإعطاؤها حكمها؛ لوجه يجمع بينهما.
2 -
أن تعمد إلى اسم وُضع لمعنًى يشتمل على وصف يدور معه الاسمُ وجوداً وعدماً، فتعدِّي هذا الاسمَ إلى معنى آخر تحقَّقَ فيه ذلك الوصف، وتجعلَ هذا المعنى من مدلولات ذلك الاسم لغة، ومثال ذلك: اسم (الخمر) عند من يراه معتَصراً من العنب خاصة.
3 -
إلحاق اللفظ بأمثاله في حكم ثبت لنا باستقراء كلام العرب حتى انتظمت منه قاعدة عامة؛ كصيغ التصغير، والنسب، والجمع.
4 -
إعطاء الكَلِم حكَم ما ثبت لغيرها من الكلم المخالفة لها في نوعها، ولكن توجد بينهما مشابهة من بعض الوجوه، كما أجاز الجمهور ترخيمَ المركب
المزجي؛ قياساً على الأسماء المنتهية بتاء التأنيث.
ثم قال -بعد أن بسط القولَ في هذه الأقيسة الأربعة التي أوردنا منها ما يدل عليها-: "وهذا النوع من القياس، والذي قبله-أي: الثالث والرابع- هما موقع النظر، ومجال البحث في هذه المقالات، واخترت للفرق بينهما التعبيرَ عن الأول: بالقياس الأصلي، وعن الثاني: بقياس التمثيل".
وقد ذكر في القياس الأصلي ما يحتج به في تقرير أصول اللغة ومفرداتها، وألقى في القياس في صيغ الكلم واشتقاقها نظرة على المصادر والأفعال ومشتقاتها؛ كاسمي الفاعل والمفعول، وأفعل التفضيل.
وقد استشهد بكلام المحققين على الاحتجاج بالكتاب العزيز، وفصّل القول في القياس على الحديث الشريف، ثم عقد فصلاً مهماً في الاشتقاق من أسماء الأعيان؛ لإصابتها أو إمالتها، (قلت: لعله أو إنالتها، كما ذكره من بعد، ومثل بنحو: شحمه ولحمه: أطعمه ذلك، ص 69).
وجاء بعده فصل عنوانه: "ما هو الاستقراء الذي قامت عليه أصول الاشتقاق؟ "، وقد حقق فيه أن الأفعال والمصادر التي لم يُسمع لها فروع في الاشتقاق على نوعين:
1 -
منها: ما لم يتصرفوا فيه، على كثرة وروده في محاوراتهم ومخاطباتهم؛ مثل: وَيْل، ووَيْح، ونعم، ويذر، وما يماثلها، فيجب أن تبقى على هيئتها بدون اشتقاق منها، ولا أدنى تصرف فيها.
2 -
ومنها: ما لا يكثر في مخاطباتهم حتى يستفاد من وروده بهيئة واحدة أنهم قصدوا إلى ترك تصريفه، فيصح لنا أن نجري قاعدة الاشتقاق في هذا النوع، وإن لم ندر أن العرب تصرفوا فيه على هذا الوجه من الاشتقاق؛
كاشتقاق فعلٍ واسمِ فاعلٍ مما سُمع مصدرُه، أو إحداثِ مصدرٍ لفعل مسموعٍ -مثلاً-.
ثم أنشأ فصولاً قصيرة وغير قصيرة في أنواع الأقيسة الكثيرة؛ كأقيسة التمثيل والشبه والعلة، وأقسام علة القياس، وأقسام قياس العلة، وشرط صحة قياس التمثيل، ومباحث مشتركة بين القياس الأصلي والقياس التمثيلي، والقياس في الاتصال، وفي الترتيب، والفصل والحذف، ومواقع الإعراب، وشرط العمل، والقياس في الأعلام، ثم ختم الكتاب باقترل الأستاذ المغربي في الكلمات غير القاموسية، وجوابه على هذا الاقتراح.
وقد بحث الأستاذ في هذه الفصول جميعها بحث الناظر المستقل المستدلّ، فبين في كل منها ما يُقبل وُيرد، وما يقاس عليه وما لا يقاس، ومذهبه وسطٌ بين المعجميين الذين يجمُدون على السماع فيما يمكن إجراء القياس فيه لاستيفاء شروطه، وبين من يفتاتون على اللغة، فيشتقون من عندهم أقيسة لا تستند إلى نصوص لغوية، ولا قواعد عربية من صرفية أو نحوية، ومن هذه الرسالة يعلم أن المعاجم اللغوية وحدَها لا تفيد معرفة الأسس التي ينبني عليها القياس الصحيح من غيره؛ لأنها لم توضع لذلك، بل لابد من الجمع بين معرفة النصوص، ودراسة القواعد والأصول التي تشتق منها الفروع، وتجري على مقتضاها الأحكام.
هذا ما كتبته في موضوع العلامة الإمام - عليه من الله الرحمة والرضوان والسلام -.
دمشق في 28 ذي الحجة 1379 هـ
22 حزيران 1960 م