الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من وثائق محمد الصالح المهيدي
الشيخ الخضر حسين
من زعماء الإصلاح الاجتماعي في العصر الحاضر: الشيخ الخضر بن الحسين، الذي جاهد الباطل والمحسوبية، وكافح الجهل والأنانية، وتصدى لرد الظلم ودحضه أينما حلَّ وارتحل، فكان من الموفقين. تستحق حياته المملوءة بالعمل الصالح التسجيل، وذلك يستدعي ويستلزم كتاباً، ولا يكفي لاحتوائه فصل في جريدة، ولكن طلب صاحب "العزة" الفاضل لنشر حياة هذا الرجل الكامل في ميدان الكفاح الإسلامي في جريدته، جعلني أضطر إلى استعراض ما لدي من المعلومات عن حياته وأعماله، حتى يكون في ذلك موعظة ودرساً للشباب المتحفز للنسج على منواله.
* مولده ونشأته:
ولد الشيخ الخضر بمدينة "نفطة" الواقعة في أقصى نقطة من الجنوب الغربي من المملكة التونسية في 26 رجب 1293 هـ من أبوين كريمين، فوالده من قادة رجال التصوف الإسلامي في القرن الماضي، وأمه هي ابنة العالم التونسي الشهير والصوفي المعروف الشيخ مصطفى بن عزّوز دفين بلدة "نفطة"، والذي لعب دوراً كبيراً في سياسة الدولة التونسية في أواسط القرن الماضي، عندما اشتدت وطأة ظلم الولاة وبغي العتاة، فكان الملجأ لمن حاق بهم مكرهم، ومجيرهم عند ذوي السلطة والنفوذ.
وانتقل والد الشيخ من مسقط رأسه إلى الحاضرة التونسية في العام السادس من هذا القرن 1306 هـ، وفيها بدأ يزاول حفظ القرآن الكريم إلى أن أتمّه، ثم أخذ يتعلّم مبادئ العلوم، حيث أدخل إلى جامع الزيتونة، وفيها تتلمذ إلى شيوخ أعلام أمثال المشايخ: عمر بن الشيخ، وسالم بوحاجب، ومحمد النجار، فزاول عنهم المنقول والمعقول إلى أن أحرز على شهادة التطويع سنة 1316 هـ.
* الإصلاح الاجتماعي:
كانت الروح السائدة في التعليم الزيتوني لا تبعث على الاطمئنان، فالتوكل والتسليم للقضاء والقدر هي كل ما يتحدث به شيوخ الزيتونة إلى تلاميذهم، وقد كان ذلك يفضي إلى طغيان سيادة الجبرية، فإذا جادل مجادل في العمل والكسب، وجاهر بالسعي والعمل المتواصل لخير هذا الوطن، عُدّت عنه أنفاسه، وابتعد منه الخاصة فضلاً عن العامة، وسبب ذلك يرجع في معظمه إلى الجو السياسي الذي غمر البلاد التونسية بعد انتصاب الحماية، واستمرار حالة الحصار سنوات عديدة، فالحكم العسكري، واستمرار حالة الطوارئ جعل أكثر الناس يهمسون برغائبهم المشروعة همساً، وفي آذان بعض الدوائر المسؤولة في الحكومة، أما أن يقوم خطيب على منبر يدعو الناس إلى الإصلاح الاجتماعي أو السياسي، أو تتولى صحيفة محلية القيام بهذا العمل، فذلك ضرب من المحال.
* شجاعة نادرة:
لكن الشيخ الخضر حسين خرق الاجتماع، وتقدم إلى ميدان العمل بخطى ثابتة، فأنشأ مجلة "السعادة العظمى" سنة 1321 هـ فكانت أول صوت ارتفع
ينادي بوجوب الإصلاح الاجتماعي، وحاول أن تكون في خطواتها الأولى كمجلة "المنار" بمصر، فكانت تشتمل على بحوث في التفسير والحديث، وإصلاح المجتمع الإسلامي، يقوم على تحريرها نخبة من شيوخه وزملائه، وكان الأمل أن تستمر على الظهور والصدور، لكنها لم تقو على ذلك؛ لأنها كانت سابقة عن أوانها، فاضطر الشيخ إلى إيقاف إصدارها.
* إبعاده عن تونس:
لم يقف الشيخ بعد احتجاب مجلته مكتوف اليدين، بل أخذ يقوم بإلقاء دروس وعظية، ويعقد الاجتماعات الخاصة لإرشاد الشعب إلى طرق الصلاح والسداد، وبينما هو في تلك الحال، إذ سلطت عليه الحكومة بعض قرابته، فحبَّب إليه قبول خطبة قضاء مدينة "بنزرت"، وكان ذلك في سنة 1323 هـ مع إسناد خطّة الإمامة والخطابة بجامعها الكبير، فقبل ما عرض عليه عساه يتخذ مما ذكر وسيلة لإبلاع رسالته إلى المجتمع، ومباشرة الحكم بالعدل بين الرعية، وإنقاذ السكان من ظلم القضاة المرتشين، حتى يكون قدوة لغيره من قضاة العدل.
فارق الشيخ مدينة تونس، وانتصب في مدينة "بنزرت"، ووضع برنامجاً إعلامياً ذا ثبتين: الأولى قضائية، يطبق فيها قواعد الشرع الإسلامي كما هي فيما يعرض أمامه من القضايا الاستدقاقية والشخصية، والثانية اجتماعية، وهي معالجة أمراض المجتمع الإسلامي على طريق الخطيب المنبرية كل يوم جمعة، يرشد الناس فيها إلى أمور دينهم ودنياهم. ولما شرع في تطبيق برنامجه الإصلاحي، بدأت الدسائس تحوم حوله، وأخذ المرجفون يتقولون عنه الأقاويل، فحمله ذلك على المبادرة بتقديم استقالته مما هو مسند إليه من
الخطط، فأعفي من تكاليفها، وعاد إلى تونس.
* التدريس بتونس:
عاد الشيخ الخضر إلى تونس، وشرع يلقي دروساً حرّة بجامع الزيتونة إلى أن فتحت مناظرة لاختيار مدرس من الطبقة الثانية بجامع الزيتونة سنة 1325 هـ، فساهم مع المتناظرين، وكان الفوز حليفه، كما كان سبباً لتسميته مدرساً بالمدرسة الصادقية سنة 1326 هـ وعهدت إليه الخلدونية بإلقاء دروس على طلابها في فنون الإنشاء والخطابة، فتصدى لذلك على أكمل وجه.