الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شهادة عن الشيخ محمد الخضر حسين
(1)
التقيت بأحد تلامذة الشيخ محمد الخضر حسين بجامع الأزهر بالقاهرة، وهو الشيخ أحمد بوقرة العوني التونسي، وكان تتلمذ على يديه طيلة عشر سنوات.
قلت له: هاتِ حدثني عن شيخك شيخ الأزهر، والعالم التونسي الكبير، صاحبِ المؤلفات الكثيرة، ومن أشهر العلماء التونسيين في الشرق، ممن أسدَوا له الخدمات العلمية الجليلة.
قال الشيخ: ولد محمد الخضر في "نفطة"، ثم تحول إلى تونس وعمره ستَّ عشرة سنة، كانت له علامة بالكيِّ في عنقه. وسكن بتونس في الأول في نهج المرّ بباب منارة، في منزل أخيه العالم محمد المكي بن الحسين.
وسرعان ما ارتبط بعلاقة وثيقة مع الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، ولم يكن يفرق بينهما في العمر غير سنتين، وكان يسهر معه في داره، وكان
(1) بقلم الباحث والكاتب التونسي الدكتور أحمد الطويلي، صحيفة الحرية، الملحق الثقافي، الصادر في 31/ 1/ 2002 م، تونس. وقدمت الصحيفة المقال بقولها:"يبقى الشيخ محمد الخضر حسين علماً تونسياً بارزاً، استفادت من خدماته وعلمه وفكره كل الأمة العربية والإسلامية".
الشيخ الطاهر يقاسمه طعامه، وقد نظم محمد الخضر شعراً توجه به لمحمد الطاهر بن عاشور قال له:
أَينعَمُ لي بالٌ وأنتَ بعيدُ
…
وأسلو بطيفٍ والمنامُ شريدُ
لقيتُ الودادَ الحرَّ في قلب ماجدٍ
…
وأصدقُ مَنْ يُصفي الودادَ مجيدُ
فأين ليالينا وأسمارُنا التي
…
تُبَلُّ بها عند الظَّماء كبودُ
ليالٍ قضيناها بتونسَ ليتها
…
تعود وجيشُ الغاصبين طريدُ
فأجابه محمد الطاهر بن عاشور من قصيدة:
إذا ذكروا للودِّ شخصاً محافِظاً
…
تجلّى لنا مرآك وهو بعيدُ
إذا قيل مَنْ للعلمِ والفكرِ والتُّقى
…
ذكرتُك إيماناً بأَنكَ فريدُ
فقل لليالي جَدِّدي من نظامنا
…
فحسبكِ ما قد كان فهو شديدُ
عيِّن محمد الخضر حسين قاضياً ببنزرت، وكان يخطب في الجُمع، وضايقته حكومة الحماية الفرنسية حينما أصدر مجلة "السعادة العظمى"، فأراد الانتقال إلى الشرق، وتحول إلى مصر، وألقى بالجامع الأزهر درساً حضره أكبر المشايخ، فأعجبوا بعلمه، وقال له الشيخ عبد المجيد الغرياني: لقد ذكرتنا بابن عرفة.
وسمع وهو غائب في مصر بأنه عُزل من التدريس بجامع الزيتونة، فعاد إلى تونس، ثم صمم على الرحلة إلى بيت الله الحرام، فباع منزله، وتوجه إلى المشرق عن طريق أوربا. وقصد سويسرا مع ثلاثة من المشايخ، وقد نفد ما عندهم من مال، واتصل بهم وزير مشرقي حينما علم بهم، واقترح عليهم الذهاب إلى ألمانيا للقيام بنشاط سياسي، فرحبوا بالفكرة؛ لأن ألمانيا كانت
حليفة الدولة العثمانية، وقاموا هناك بخدمات لفائدة سياسية ضد الحلفاء.
وفي ألمانيا اتصل الخضر بألماني، واقترح عليه تعليمه الألمانية، وبالمقابل يعلمه العربية، وهذا ما كان.
وفي ألمانيا بلغه نعيُ خاله العالم محمد المكي بن عزّوز، فرحل إلى إسطنبول، وأسرع بالتوجه إلى قبره، ورثاه بقصيدة قال فيها:
رُبَّ شمسٍ طلعتْ في مغربٍ
…
وتوارى في ثَرى الشرقِ سَناها
ها هنا شمسُ علومٍ غَرَبَتْ
…
بعد أن أبلَتْ بترشيشَ (1) ضُحاها
بفؤادي لَوْعَةٌ من فقدِها
…
كما أذكرُهُ اشتدَّ لَظاها
طِبْ مقاماً يا بنَ عَزُّوزٍ فقدْ
…
كنت تُعطي دعوةَ الحقِّ مُناها
وأقام في إسطنبول، ودرس الحديث النبوي الشريف، ثم رحل إلى سورية، وألقى فيها دروساً لاقت الاستحسان والإعجاب. وإذ ذاك سمع بأن فرنسا أرسلت قواها إلى سورية، وخشي من أن تلاحقه، وأُوصي بأن يغادر بَرَّ الشام، وقيل له: إنك محكوم عليك بالإعدام في تونس؛ لنشاطك السياسي بها وبألمانيا، فانتقلَ إلى القاهرة، ونزلَ بحيّ خان الخليلي قرب سيدِنا الحسين.
وقد ارتبط محمد الخضر بعلاقة وطيدة مع أحمد تيمور، فكنت تراهما دومًا معاً، وكانا صديقين وفيين لبعضهما بعضاً، وهو الذي قربه إلى الملك فؤاد، فصار يجالسه، وكتب له كتاب "نقض كتاب الشعر الجاهلي" رداً على طه حسين، وكان يشتغل في دار الكتب، فأمر الملك بأن يكون مدرساً بالجامع
(1) اسم قديم لتونس.
الأزهر، وامتُحن بالرواق العباسي، ونال شهادة العالمية هنالك، وصار مدرساً بكلية أصول الدين بالجامع الأزهر، يُدرِّس للقضاة السياسة الشرعية إلى أن تولى مشيخة الأزهر.