الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإمام محمد الخضر حسين
(1)
في الثاني من الشهر الثاني في العام القادم، يمرُّ خمسون عاماً على وفاة عالم جزائري جليل، خطّت الأقدار في صحيفته أن يولد في خارج الجزائر، وأن يقضي حياته بعيداً عنها، وأن ينسب إلى غيرها، إنه العلامة الخضر حسين.
إنني أقترح بهذه المناسبة أن يُعقد ملتقى دولي لدراسة حياة هذا العالم وآثاره، فهو ذو شهرة واسعة، وترك تراثاً علمياً ثرياً.
لقد استعجلت الحديث عن هذه الذكرى؛ لكي يتمكن المسؤولون -إن خلصت نياتهم، وصحّت عزائمهم- من الإعداد الجيد لهذه المناسبة بما يتناسب مع قيمة هذا العالم العلمية والنضالية، حتى لا يقول المعذّرون: إن الوقت داهمنا.
إن المؤسسات المؤهلة لإقامة هذا الملتقى هي المجلس الإسلامي الأعلى، وزارة الشؤون الدينية، وزارة التعليم العالي، المجلس الأعلى للغة العربية، مجمع اللغة العربية. فإن لم تتمكن هذه المؤسسات من إقامة هذا الملتقى، أو رَغِبَتْ عنه، فلْتتولَّ إقامته الزاويةُ العثمانية في "طولقة"، أو الزواية القاسمية في "الهامل"؛ لما بينه وبينهما من رحِمٍ مادية وروحية.
(1) للكاتب والباحث الجزائري الأستاذ محمد الهادي الحسني - جريدة "الشروق"، العدد 1912 الصادر في (8 فيفري 2007 م - الموافق 20 محرم 1428 هـ) - الجزائر.
ولد الإمام محمد الخضر حسين في 21/ 7/ 1873 م بمدينة "نفطة" التونسية، التي استقرت بها أسرته بعد الاحتلال الفرنسي للجزائر. وبعد أن استظهر آي الذكر الحكيم، وألم بمبادئ العلوم الشرعية واللغوية، انتقل إلى مدينة تونس، وهو في الثالثة عشرة من عمزه، فالتحق بجامع الزيتونة، وتخرج فيه بشهادة التطويع عام 1898، وكان من شيوخه فيه: خاله محمد المكي بن عروز، والشيخ سالم بو حاجب، والشيخ محمد النجار، والشيخ عمر بن الشيخ، وقد أثر كل واحد من هؤلاء الشيوخ في جانب من جوانب شخصية الإمام محمد الخضر، الذي أشاد بهم، ولم ينس فضلهم عليه.
ومما يلفت النظر: أن الإمام محمد الخضر حسين لاحظ -وهو طالب- أن مادة الإنشاء التي تُعِدُّ الطالب للكتابة، وتهيئه للتحرير لا تجد الكفاية من العناية، فوجّه أبياتاً شعرية إلى أشياخه، يلفت فيها أنظارهم إلى هذا النقص، داعياً إلى تداركه، ومنها:
بذلتم في نَفاقِ العلمِ وُسعاً
…
وذلَّلتم طرائقه الصِّعابا
ولكنَّ الخصاصةَ في فنونٍ
…
تساورني المخافة أن تُعابا
أصابَ صناعةَ الإنشاء مَحلٌ
…
وغاض مَعينُها إلا سرابا
أني علم البيان نغوص فهماً
…
ونملأ من جواهره الوِطابا
وإن ركبتْ أناملنا يراعاً
…
تعاصى أن يشق بها عُبابا
ولا ترقى شؤونُ الشعب إلا
…
بأقلامٍ تناقشه الحسابا
كانت همة محمد الخضر حسين متعلقة بالانضمام إلى هيئة التدريس بجامع الزيتونة، ولكن المؤامرات والمناورات حالت بينه وبين ما يشتهي، فاكتفى بإلقاء الدروس تطوعاً.
لم يقل محمد الخضر حسين ما يقوله المعذِّرون: "صحَّ مني العزمُ والدهر أبي"، فقرر أن يُوسع ساحة تأثيره، وأن يكون معلماً غير مباشر لأكبر عدد من الناس، فأسس في عام 1904 م مجلة "السعادة العظمى"، و"هي أول مجلة عربية ظهرت في تونس"(1)، ولكن عمرها لم يطل؛ إذ توقفت في يناير 1905 م بعدما صدر منها واحد وعشرون عدداً.
رأى المستعمرون الفرنسيون وأولياؤهم من التونسيين أن يقيدوا محمد الخضر حسين بوظيفة تحدد حركته، وتقلل نشاطه، فعينوه قاضياً في مدينة "بنزرت"، وخطيباً في جامعها، و"كان للشيخ محمد الطاهر بن عاشور قسط كبير في التأثير عليه لقبول هذه الوظيفة"(2)، ولكن الشيخ لم يستطع صبراً، فاستقال بعد بضعة أشهر، ولا يُستبعد أن تكون هذه الاستقالة قد وقعت بعد ضغوط عليه إثر محاضرته الشهيرة:"الحرية في الإسلام" التي لقيت صدًى واسعاً، ونالت قبولاً كبيراً.
قام الشيخ محمد الخضر حسين برحلتين إلى الجزائر، موطنِ آبائه وأجداده، وكانت أولى الرحلتين في عام 1903 م، وكانت ثانيتهما في 1904 م، ولعله كان يستكشف من خلالهما إمكان العمل في الجزائر، ولكنه أدرك أن الجزائر تعيش في سَموم وحميم، وأن الوضع فيها أسوأ من تونس أضعافاً مضاعفة، وأن يوماً من العذاب فيها كألف يوم في غيرها.
وفي سنة 1912 م سافر الشيخ إلى دمشق، وكان قد سبقه إليها في السنة التي قبلها إخوانه: زين العابدين، والمكي، والعروسي، كما أن خاله
(1) محمد مواعدة: "محمد الخضر حسين"، ط 2، (ص 32).
(2)
المرجع نفسه (ص 38).
العلامة محمد المكي بن عزوز قد سبقهم إلى الإقامة بمدينة إستانبول منذ عام 1898 م.
وجد الشيخ في دمشق من الحرية النسبية ما لم يجده في تونس، فنثر معارفه، فتهافت عليه عِلْيَة القوم ووجهاؤهم، وعقدت المجالس العلمية، وكان الشيخ الخضر "واسطة العقد في تلك المجالس"(1)، وانتصب للتدريس في "كرسي الشيخ محمد عبده"(2) في المدرسة السلطانية.
اندلعت الحرب العالمية الأولى، وكانت تركيا طرفاً فيها إلى جانب ألمانيا، فضيقت الحكومة التركية حرية القول ومجال الحركة على الناس، وكانت ممارسة ممثليها في الشام -وعلى رأسهم جمال باشا- سيئة ظالمة، فتعرضت إلى انتقادات، خاصة أن أمر تركيا يزيد من يسمون: الشبان الأتراك ذوي الاتجاه اللائكي، المتورطين في التعامل مع الصهيونية والماسونية، وكان الشيخ محمد الخضر ممن مسّهم نصب وعذاب جمال باشا؛ إذ ألقاه في السجن بضعة شهور.
* نضال في سبيل القضبة الوطنية:
دُعي الشيخ محمد الخضر إلى إستانبول في عام 1917 م، وعهد إليه بوظيفة "التحرير بالقلم العربي" في وزارة الحرب التركية، ولكن مقامه لم يطل في تركيا، فانتقل رفقة مواطنه صالح الشريف (من الصومام) إلى ألمانيا وسويسرا، وشكَّلا لجنة لتحرير الجزائر وتونس، يؤازرهما فيها مجموعة
(1)"آثار الإمام الإبراهيمي"(ج 3، ص 566).
(2)
أنور الجندي: "الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقية"(ص 17).
من المناضلين الجزائريين والتونسيين، وكان من أهداف هذه اللجنة: إعلان الثورة على فرنسا في شمال إفريقية، واعلان "جمهورية شمال إفريقية"، و"ذهب وفد برئاسة الشيخ الخضر حسين إلى وزارة الخارجية الألمانية، ووعد الألمانُ الوفدَ بإمداد الثورة بالسلاح ولوازم الحرب"(1).
وكان المعوّل في هذه الثورة على الجنود المغارييين في الجيش الفرنسي، الذين وُجهت إليهم فتاوى بوجوب ترك صفوف الجيش الفرنسي، والالتحاق بالجيش الألماني، وقد أُعدَّ في برلين معسكرٌ لتجميع هؤلاء الجنود سُمي:"معسكر الهلال"، ولكن الحرب توقفت في سنة 1918 م قبل أن تكتمل الاستعدادات.
واصل الشيخ محمد الخضر عمله مع مواطنه الشيخ صالح الشريف، ومجموعة من المناضلين الجزائريين والتونسيين، وكان أبرز عمل قاموا به هو: توجيه تقرير إلى مؤتمر الصلح بباريس بحقوق الشعبين، وكان التقرير تحت عنوان:"مطالب الشعب الجزائري والتونسي"، وقد وقعه من الجزائريين كل من الشيخين: صالح الشريف، ومحمد الخضر حسين، ومحمد مزيان التلمساني، ومحمد بيزار الجزائري، وحمدان بن علي الجزائري، ومن التونسيين: محمد الشيبي، واسماعيل الصفايحي، ومحمد باش حامبة
…
عاد الشيخ إلى دمشق، وما كاد يلتقط أنفاسه، ويعود سيرته الأولى في التدريس ونشر العلم حتى كانت جحافل الجيش الفرنسي تحتل سورية، فانتقل الشيخ إلى القاهرة حيث ذاع صيته، وسما مكانه، وسطع نجمه.
(1) أحمد العباسي: "الشيخان المجاهدان"(ص 50).
وفي القاهرة أسس الشيخ في عام 1924 م (جمعية تعاون جاليات إفريقية الشمالية)، كما أسس في الأربعينيات (جمعية الدفاع عن إفريقية الشمالية)، رفقة الأمير سعيد الجزائري، والشيخ الفضيل الورتلاني، والأمير عبد الكريم الخطابي، وغيرهم.
واختير للتدريس في جامع الأزهر، ورأس (جمعية الهداية)، و"مجلتها"، وتولى رئاسة تحرير مجلة "نور الإسلام"، ونال عضوية هيئة كبار العلماء، كما عين عضواً في (مجمع اللغة العربية) عندما أسس المجمع في سنة 1932 م، فقد "جمع بين التفقه في الدين واللغة والأدب"(1)، وكان أرقى ما تقلده من مناصب هو: مشيخة الأزهر، الذي عُين شيخاً له، من غير سعي منه، في أواخر عام 1952 م، إلى أن تخلى عن إدارته بإرادته في جانفي 1954 م، بعد أن "ضرب أكبر مثل للتاريخ بالإخلاص والتفاني في العمل لمصلحة الأزهر والإسلام"(2)، وقد قال عندما وُلي رئاسة الأزهر الشريف:"وُليتُ أمر الأزهر، فإن لم يَزِد في عهدي، فلن ينقص منه شيء".
* معارك علمية:
إن أهم ما أبان عن مكانة الشيخ محمد الخضر العلمية، ولَفَت إليه الأنظار، وحاز بسببه الإعجاب والتقدير هو: رده العلمي، القوي الحجة، الساطع البرهان على كل من الشيخ علي عبد الرازق، والدكتور طه حسين.
فقد كتب الشيخ عبد الرازق في سنة 1925 م كتاباً سماه: "الإسلام
(1)"مجمع اللغة العربية في ثلاثين عاماً"، القسم الثاني (ص 158).
(2)
محمد سعيد البوطي: "من الفكر والقلب"(ص 242).
وأصول الحكم "، نفى فيه أن تكون الخلافة من الدين، وزعم أن الدين لا يتدخل في شؤون الحكم، وقد ردّ عليه الشيخ محمد الخضر بكتاب من 552 صفحة، سماه: "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم".
كما كتب الدكتور طه حسين في سنة 1926 م كتابه المشهور: "في الشعر الجاهلي"، ادعى فيه أن هذا الشهر منحول، مردّداً في ذلك دعوى المستشرق (مارجوليوث)، فتصدى الشيخ محمد الخضر لهذه الدعوى ولصاحبها، وكتب رداً تحت عنوان:"نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، وقد لاحظ بعض الدارسين أن كلمة "نقض" التي استعملها الشيخ أكثر حدة وشمولًا من كلمة نقد، وقد اعترف الدكتور طه حسين -كما روى الشيخ محمد الفاضل بن عاشور-: أن "كتاب الشيخ محمد الخضر من أهم الردود، وأشدها حجة"(1).
رحم الله الإمام محمد الخضر حسين، وبوأه مقعد الصدق؛ فقد عاش "كأنما يستشعر دائماً أنه لم يخلق لنفسه، وإنما للإسلام"(2)، الذي ما هوجم في وقعة إلا وكان للأستاذ -محمد الخضر- دفاع أمتن من الفولاذ، وأرسخ من الجبال الراسيات" (3).
(1) محمد مواعدة: مرجع سابق، (ص 86).
(2)
البوطي
…
(ص 241).
(3)
محب الدين الخطيب: نقلاً عن آثار الإمام ابن باديس، ج 3، (ص 114).