الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أعلام الاجتهاد الإسلامي الحديث
الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين (1)
* عقل إسلامي مجدِّد، ومناضل في سبيل النهضة العربية والإحياء الإسلامي.
* كلان لسان الأصالة المعبّر عن مشكلات المعاصرة وضرورتها.
ليست هذه بالترجمة المستفيضة لحياة الشيخ الفاضل محمد الخضر حسين، وإنما هي "بطاقة" تجتهد لتكثف هذه الحياة الخصبة في سطور.
- فمن أسرة جزائرية "شريفة" - يرتفع نسبها إلى الأمراء الأدارسة بالمغرب - جاء والده، ومن أسرة تونسية - اشتهرت بالعلم والفضل والتقوى هي أسرة عزوز - جاءت والدته
…
- وفي مدينة "نفطة" من أعمال "الجريد" بجنوب القطر التونسي، ولد شيخنا في (26 رجب سنة 1293 هـ 16 أغسطس سنة 1876 م)
…
وفي "نفطة" كانت نشأته الأولى، التي تأثر فيها بأبيه، وبخاله السيد محمد المكي ابن عزوز، الذي كان من كبار العلماء، وموضع احترام رجالات الدولة العثمانية يومئذ، والذي قضى الشطر الأخير من حياته في الآستانة؛ تلبية لرغبة السلطان عبد الحميد (1258 - 1336 هـ 1842 - 1918 م)
…
وله مؤلفات علمية
(1) مجلة "الدوحة"، العدد 125 الصادر في (شعبان 1406 هـ - ماي أيار 1986 م)، قطر، مقالة الدكتور محمد عمارة.
معروفة، وترجمة في بعض كتب التاريخ.
وفي هذه النشاة الأولى بـ "نفطة"، حفظ شيخنا القرآن الكريم، وألمَّ بجانب من الأدب، والعلوم العربية، والشريعة.
* نبوغ مبكر:
- وفي الثانية عشرة من عمره (سنة 1305 هـ، سنة 1888 م) انتقل مع أسرته إلى تونس العاصمة، وبعد عامين (سنة 1307 هـ ، سنة 1889 م) التحق "بجامع الزيتونة" المناظر في تونس والمغرب للجامع الأزهر الشريف.
وفي الزيتونة تقدم الفتى في تحصيل العلم، وظهرت أَمارات نبوغه في علوم العربية، وعلوم الشريعة، وتجلى ذوقه الأدبي في الإنشاء وفي التذوق، حتى لقد طلبتْه الحكومة ليتولى بعض الخطط العلمية، قبل إتمام دراسته، لكنه اعتذر عن عدم القبول لرغبة حكومة تونس الفرنسية!
- كانت رحلته الأولى خارج تونس إلى الشرق، ولما يزل طالباً، فزار طرابلس الغرب في ليبيا سنة (1317 هـ، سنة 1899 م)، فأقام بها أياماً، ثم عاد إلى تونس، فلازم جامع الزيتونة.
- وفي سنة (1321 هـ سنة 1902 م) نال شهادة العالمية، وأصبح من علماء الزيتونة، وفي العام نفسه الذي تخرج فيه من جامع الزيتونة أنشأ مجلة "السعادة العظمى"، التي كانت رائدة المجلات العلمية والأدبية في بلاد الشمال الأفريقي يومئذ، فلفَتَ الأنظار إلى قلمه ولسانه، فلقد كان خطيباً، ومحاضراً، إلى جانب كونه أديباً وشاعراً وكاتباً.
- وفي سنة (1324 هـ سنة 1905 م) تولى قضاء مدينة "بنزرت" ومنطقتها، إلى جانب التدريس والخطابة بجامعها الكبير.
- وفي (17 ربيع الآخر سنة 1324 هـ 9 يونيو سنة 1906 م) ألقى في نادي قدماء خريجي المدرسة الصادقية محاضرة عن "الحرية في الإسلام"، فكشف بها عن موقف فكري ذي مغزى في بلد يستبد بحكمه المستعمرون الفرنسيون، ثم ما لبث أن استقال من قضاء "بنزرت"، وعاد إلى تونس العاصمة مدرساً بالمدرسة الصادقية، وكانت المدرسةَ الثانوية الوحيدة بتونس يومئذ، وكان ذلك في سنة (1326 هـ سنة 1908 م)، وفي العام التالي لتدريسه بالصادقية (1327 هـ سنة 1909 م) تطوع للتدريس بجامع الزيتونة، ثم أحيلت إليه مهمة تنظيم خزائن الكتب الخاصة بهذه الجامعة، وتم تعينه، رسمياً، مدرساً بجامع الزيتونة.
- وفي سنة (1325 هـ سنة 1907 م) اشترك في تأسيس (الجمعية الزيتونية)، ثم كلف بالخطابة في "الخلدونية"، وفي (11 شوال سنة 1327 هـ 26 أكتوبر سنة 1909 م) ألقى محاضرة في نادي الجمعية الخلدونية عن "حياة اللغة العربية"، وفي العام التالي (1328 هـ سنة 1910 م) نظم قصيدة يدعو فيها علماء جامع الزيتونة إلى العناية بتنشئة جيل من الكتاب والأدباء والدعاة، فوضحت مقاصده من وراء الدعوة إلى إحياء قيم "الحرية"، و"العروبة"، وأدوات "الكتابة" و"الخطابة" في وطن يخضع لاستعمار ينهب خيراته، ويستبد بمقدراته، ويمسخ هويته العربية الإسلامية!
- ولما قامت الحرب الطرابلسية في (5 شوال 1329 هـ 29 سبتمبر 1991 م) بين إيطاليا والدولة العثمانية، وزحفت الجيوش الإيطالية، فاحتلت طرابلس، وبنغازي، وقف الشيخ الخضر بقلمه ولسانه، ومن خلال مجلته "السعادة العظمى" يستنفر الأمة لتقاوم الغزو الإيطالي، ويستنهض الدولة
العثمانية لاستخلاص الحق من غاصبيه.
ومن بيانه في ذلك: قصيدة مطلعها:
رُدُّوا على مجدِنا الذكْرَ الذي ذهبا
…
يكفي مضاجِعَنا نومٌ مضى حقبا!
- ثم سافر إلى الجزائر زائراً لأمهات مدنها، ومحاضراً فيها، وعاد إلى تونس يواصل دروسه بالزيتونة، ونشاطه في المحاضرات والخطابة، والكتابة في الإصلاح الإسلامي، والنهضة العربية، وإذكاء الروح الوطنية.
* صِدَام مع الاستعمار:
- وفي هذه الفترة رفض رغبة الحكومة ضمَّه إلى سلك القضاء في محكمة فرنسية!
- وكان لابد من الصدام بين سعي الشيخ المناضل، وبين سلطات الاستعمار الفرنسي في تونس، فوجهت هذه السلطات إليه في سنة (1329 هـ سنة 1911 م) تهمةَ "بث روح العداء للغرب، وبخاصة لسلطة الحماية الفرنسية في تونس".
فلما استشعر الشيخ الخطر على حياته، غادر تونس إلى الآستانة؛ بحجة الرغبة في زيارة خاله السيد محمد المكي بن عزوز، الذي كان يعيش هناك، وكانت رحلته هذه إلى الآستانة عبر مصر، فدمشق، لكنه لم يلبث أن حسن إلى وطنه تونس، فعاد إليه، عبر نابولي في إيطاليا، ونشر أخبار رحلته هذه، وعينته الحكومة عضواً بإحدى لجان التاريخ التونسي. لكن الجو الخانق الذي كان مفروضاً على تونس من سلطات الاحتلال الفرنسي دعاه إلى الهجرة ثانية، فقصد إلى دمشق، وفي طريقه إليها مر بالقاهرة، فلبث فيها مدة وجيزة تعرَّف فيها على كوكبة من العلماء الأعلام المناضلين في سبيل النهضة العربية، والإحياء
الإسلامي، منهم: الشيخ طاهر الجزائري (1268 - 1338 هـ 1852 - 1920 م)، والسيد محمد رشيد رضا (1282 - 1354 هـ 1865 - 1935 م)، والسيد محب الدين الخطيب، وأحمد تيمور باشا (1288 - 1345 هـ 1871 - 1930 م).
وفي دمشق عُين مدرساً للغة العربية في المدرسة السلطانية سنة (1330 هـ سنة 1912 م). وخلال تلك الفترة سافر إلى القسطنطينية، فوصلها يوم إعلام حرب البلقان "الروسية - العثمانية" في (ذي القعدة سنة 1330 هـ، أكتوبر سنة 1912 م)، ثم عاد إلى دمشق، ومنها سافر بسكة حديد الحجاز إلى المدينة المنورة سنة (1331 هـ 1913 م)، ثم عاد إلى دمشق.
ومن دمشق سافر إلى الآستانة، ولقي وزير حربيتها أنور باشا (1299 - 1340 هـ، 1882 - 1922 م)، فاختاره محرراً عربياً بالوزارة، ولقد أتيحت له الفرصة ليلمس عوامل الفساد التي تفتك بمقومات الدولة، فسجل ذلك شعراً في قصيدته التي نظمها سنة (1332 هـ 1914 م)، والتي يقول فيها:
أَدْمى فؤادي أَنْ أرى الـ
…
أقلامَ ترسُفُ في القُيودِ
فهجَرْتُ قوماً كنتُ في
…
أنظارِهِمْ بيتَ القَصيدِ
وحسبتُ هذا الشرقَ لم
…
يبرحْ على عهدِ الرشيدِ
فإذا المجالُ كأنَّه
…
من ضيقِه خُلُق الوليدِ!
- وفي سنة (1333 هـ، سنة 1915 م) أرسله أنور باشا إلى العاصمة الألمانية برلين في مهمة رسمية، فمكث بها تسعة أشهر، اجتهد خلالها أن يتعلم اللغة الألمانية، وعندما تحدث إليه المدير الألماني للقسم الشرقي بوزارة الخارجية الألمانية، خلال صحبته بقطار ضواحي برلين، عن قول ابن خلدون (732 - 808 هـ، 1332 - 1406 م): إن العرب أبعدُ الناس عن السياسة،
رفض هذا التفسير العنصري لكلام ابن خلدون، ودافعَ عن العرب، ونظم أبياتاً قال فيها:
عَذيري من فَتى أَزْرى بقومي
…
وفي الأهواءِ ما يلد الهذاءَ
سَلُوا التاريخَ عن حكمٍ تملَّتْ
…
رعاياهُ العدالةَ والإخاءَ
هو الفاروقُ لم يدركْ مداهُ
…
أميرٌ هَزَّ في الدنيا لِواءَ
ومن برلين عاد إلى الآستانة، وما لبث أن ضاقت به، فحن إلى دمشق، وعاد إليها.
* ويدخل السجن:
وفي دمشق اعتقله السفاح أحمد جمال باشا (1289 - 1340 هـ 1872 - 1922 م) الحاكمُ العام في سورية، في (رمضان سنة 1334 هـ، يوليو سنة 1916 م) لعدة أشهر، حتى أنقذه من السجن تدخُّل وزير الحربية العثمانية أنور باشا، فغادر دمشق بعد الإفراج عنه إلى الآستانة، فأوفده أنور باشا ثانيةً، إلى برلين سنة (1335 هـ، سنة 1917 م)، فالتقى فيها بزعماء الحركات الإسلامية هناك، من مثل: الشيخ عبد العزيز جاويش (1293 - 1347 هـ، 1876 - 1929 م)، والدكتور عبد الحميد سعيد (1299 - 1359 هـ، 1882 - 1940 م)، والدكتور أحمد فؤاد، ثم عاد بعد فترة طويلة إلى الآستانة، ومنها رجع إلى دمشق، وإلى التدريس في المدرسة السلطانية بقية سنة (1335 هـ وسنة 1336 هـ، سنة 1917 وسنة 1918 م)، فشرح لنجباء الطلاب كتاب ابن هشام (708 - 761 هـ 1309 - 1360 م)"مغني اللبيب" في علم العربية، وهو الشرح الذي كان الأساس لبحثه في "القياس وشروطه ومواقفه وأحكامه"، وهو البحث الذي طوره، فيما بعد، كتاباً نال به عضوية "هيئة كبار العلماء"
بالجامع الأزهر، وطبع سنة (1353 هـ، سنة 1934 م).
- وفي سنة (1337 هـ ، 1918 م) سافر من دمشق إلى الآستانة، وكانت الحرب العالمية الأولى في نهاياتها، ومنها توجه إلى ألمانيا للمرة الثالثة، فقضى بها سبعة أشهر، وكانت نُذُر الزوال للدولة العثمانية تُطل في الأفق، فعاد من ألمانيا إلى دمشق مباشرة!
…
- وصادفت عودته إلى دمشق إقامةَ الحكم العربي بقيادة فيصل بن الحسين (1300 - 1352 هـ ، 1883 - 1933 م) سنة (1338 هـ ، سنة 1919 م)، لكن الاحتلال الفرنسي عاجل هذا الأمل العربي سنة (1338 هـ ، سنة 1920 م)، ففكر الشيخ الذي هاجر من تونس المحتلة بالفرنسيين في العودة إليها، بعد أن احتلوا دمشق أيضاً!
…
لكنه رحل إلى القاهرة، وألقى بها عصا ترحاله الذي استمر عشر سنوات، فاستوطن القاهرة سنة (1399 هـ، سنة 1921 م).
- وفي القاهرة أعانه الاستقرار في الإنتاج العلمي المنظم، والنشاط الإصلاحي الدائم، فوضحت معالم نهجه في التجديد والإصلاح، وتكونت من حوله حلقات الطلاب والمريدين، وأخذت تأثيرات علمه وإصلاحه تلفتُ إليه أنظار العلماء وطلاب الإصلاح.
ففي سنة (1340 هـ ،1922 م) ألف رسالته: "الخيال في الشعر العربي".
واشتغل عدة سنوات في التحقيق لكتب التراث بالقسم الأدبي في دار الكتب المصرية، وتجنس بالجنسية المصرية، ثم تقدم إلى امتحان العالمية لجامع الأزهر، فحصل عليها بجدارة، وأصبح واحداً من علماء الأزهر الشريف.
- ولم يكن التجنس بالجنسية المصرية، ولا الانخراط في "هيئة كبار
العلماء"، والاشتغال بالبحث والتحقيق، لم يكن في ذلك ما يعوق الشيخ الخضر عن مواصلة النهوض بمسؤولياته وواجباته كعالم مسلم، ومجاهد عربي، و-أيضاً- رعاية حقوق وطنه الأصلي تونس، وأشقائه الرازحين بالمغرب تحت نير الاستعمار الفرنسي، فنهض الشيخ في سنة (1342 هـ ، سنة 1924 م) بتأسيس (جمعية تعاون جاليات إفريقية الشمالية)؛ لتكتيل وتحريك جهود أبنائها في خدمة قضية تحرير هذه البلاد من الاستعمار، ولقد كانت هذه الجمعية مكان اللقاء والتعاون بين أحرار تلك البلاد ومناضليها، فضمت عضويتها من المغرب: الفضيل الورتلاني، ومن الجزائر: البشير الإبراهيمي (1306 - 1385 هـ ، 1889 - 1965 م)، ومن تونس: الحبيب بورقيبة (1221 هـ، 1903 م).
* معاركه الفكرية:
- وفي سنة (1344 هـ ، سنة 1925 م) بدأت معاركه الفكرية الكبرى بكتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، ولقد كان الشيخ صديقاً لأسرة عبد الرازق، يتردد على منزلهم، وبينه وبينهم علاقات المودة والاحترام، وعندما قارب طبع كتاب الشيخ علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" على التمام، طلب آل عبد الرازق من الشيخ الخضر عناوين زعماء العالم الإسلامي ومفكريه؛ ليهدوا إليهم الكتاب، فأتاهم بقائمة العناوين من صديقه محب الدين الخطيب، فلما طبع كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، أهديت إليه نسخة منه، ففاجأته أفكار صاحبه، فعكف على الرد عليه ونقضه، فطبع الرد في نفس السنة، ونفدت طبعته خلال شهر واحد!
وفي العام التالي (سنة 1345 هـ، سنة 1926 م) ظهر كتاب "في الشعر
الجاهلي" للدكتور طه حسين، فرد عليه الشيخ بكتابه "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، فصنع معه ما صنع مع كتاب "الإسلام وأصول الحكم" عندما فنده فقرة فقرة، وفكرة فكرة، مع أدب رفيع في الحوار، وبراعة في الجدل، كشفت عن عقل متمكن ومتمرس في ميدان البحث والمناظرة، يغترف صاحبه من معين من العلم لا يغيض.
لقد أدى الرجل بهذين الكتابين حقَّ دينٍ وأمة، ونهض بفرض كفائي وجب على الأمة جمعاء، وكان -بحق- كما قال هو:
ناضلْتُ عن حقٍّ يحاولُ ذو هَوى
…
تصويرَهُ للناس شيئاً مُنْكَرا
- وفي سنة (1346 هـ، سنة 1927 م) اشترك مع صديقه العلامة أحمد تيمور باشا في تأسيس (جمعية الشبان المسلمين)، التي جاءت طليعة الجمعيات الإسلامية التي تكونت للتعريف بالإسلام، والذود عن حضارته في تلك الحقبة التي تميزت بزحف فكرة "التغريب" على وطن العروبة، وعالم الإسلام، ولقد رأس أولَ اجتماع تحضيري لتأسيسها في (25 نوفمبر سنة 1927 م).
كذلك نهض الشيخ الخضر بتأسيس (جمعية الهداية الإسلامية)، التي ضمت كوكبة من المثقفين ثقافة دينية ومدنية، وأصدر لها مجلة "الهداية الإسلامية"، وكون لها مكتبة عامة، جعل من مكتبته الخاصة نواة لها، ولقد امتد نشاط هذه الجمعية إلى الأقاليم، فقامت لها فروع فيها، وكانت محاضراته المستمرة فيها، ومقالاته في المجلة جهداً منظماً ومستمراً، قدم -من خلاله- معالم دعوته للإحياء الإسلامي، والنهضة العربية، وتحرير ديار العروبة والإسلام، ولقد جمعت مقالاته ومحاضراته هذه في كتاب من
ثلاثة أجزاء هو "رسائل الإصلاح".
- وعندما أصدر الأزهر مجلته، التي بدأت باسم "نور الإسلام" في سنة (1349 هـ، 1930 م) عهد إلى الشيخ الخضر برئاسة تحريرها، فنهض بهذه المهمة من عددها الأول (محرم سنة 1349 هـ، مايو سنة 1930 م) حتى عدد ربيع الآخر سنة (1352 هـ، يوليو سنة 1933 م) عندما استقال من رئاسة تحريرها، رافضاً التعاون مع الأستاذ محمد فريد وجدي (1295 - 1373 هـ ، 1878 - 1954 م) الذي عين -دون إذن الشيخ الخضر- مديراً لتحرير المجلة، وكان بينهما جدل فكري يومئذ في الصحف والمجلات، ولم تفلح وساطة الشيخ الظواهري (1295 - 1363 هـ، 1878 - 1944 م) -شيخ الأزهر- في أثنائه عن الاستقالة، وكان معاشه -يومئذ- أقل من خمسة جنيهات؟! لكن نشاطه تواصل في التدريس بكلية أصول الدين.
* في المجمع اللغوي:
- وعندما تكون "مجمع اللغة العربية" بالقاهرة في سنة (1351 هـ ، سنة 1932 م) من عشرين عضواً عاملاً، كان الشيخ الخضر واحداً من أقدم هؤلاء الأعضاء، ومن أكثرهم إنتاجاً، فلقد شارك في كثير من لجان المجمع العلمية، من مثل: لجنة اللهجات، ولجنة الآداب والفنون الجميلة، ولجنة دراسات معجم (فيشر)، ولجنة الأعلام الجغرافية، ولجنة الأصول، ولجنة معجم ألفاظ القرآن الكريم، ولجنة المساحة والعمارة، ولجنة المعجم الوسيط، الأمر الذي يعكس وزنه العلمي، وثقله الفكري، وثقافته الموسوعية، وجهده الدؤوب في خدمة الفكر.
كذلك نشرت له مجلة المجمع العديد من الأبحاث، من مثل:
1 -
"المجاز والنقل وأثرهما في حياة اللغة العربية".
2 -
"شرح قرارات المجمع، والاحتجاج بها، وتكملة مادة لغوية ورد بعضها في المعجمات، ولم ترد بقيتها".
3 -
"الاستشهاد بالحديث في اللغة".
4 -
"وصف جمع العاقل بصيغة فعلاء".
5 -
"اسم المصدر في المعجم".
6 -
"طرق وضع المصطلحات الطبية وتوحيدها في البلاد العربية".
7 -
"شعر البديع في نظر الأدباء".
8 -
"من وُثِّق من علماء العربية ومن طُعن فيه".
ولم يقف نشاطه المجمعي عند مجمع القاهرة، فلقد اختير عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق.
- وفي سنة (1366 هـ ، سنة 1947 م) رأس تحرير مجلة "لواء الإسلام"، وبدأ فيها تفسيره للقرآن الكريم.
- وفي سنة (1370 هـ، سنة 1951 م) نال عضوية (هيئة كبار العلماء) برسالته "القياس في اللغة العربية".
وعندما قامت الثورة المصرية في 23 يوليو سنة 1952 م، كان منصب شيخ الأزهر شاغراً، فوقع اختيار الثورة وحكومتها على الشيخ الخضر إماماً أكبرَ، وشيخاً للإسلام، ووجهاً مشرقاً لهذه الجامعة العريقة تطلّ من خلاله على عالم العروبة والإسلام، فتوجه ثلاثة من الوزراء إلى منزل الشيخ بشارع خيرت، في يوم الثلاثاء (26 ذي الحجة سنة 1371 هـ ، 6 سبتمبر سنة 1952 م) طالبين منه قبولَ مشيخة الأزهر، فنهض بالأمانة ما وسعت طاقته، وعندما
أحس بضغوط تحول بينه وبين تنفيذ ما يريد، أو تطلب منه تنفيذ ما لا يرضى، صمم على الاستقالة في (2 جمادى الأولى سنة 1373 هـ، 7 يناير 1954 م) قائلاً كلمته الشهيرة: "يكفيني كوب لبن، وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدهما العفاء"؟!
…
ولقد ألمح إلى ملابسات استقالته عندما قال: "إن الأزهر أمانة في عنقي، أُسلِّمها -حين أُسلِّمها- موفورةً كاملة، وإذا لم يتأتَّ أن يحصل للأزهر مزيدٌ من الازدهار على يدي، فلا أقل من ألا يحصل له نقص".
- ومنذ ذلك التاريخ تفرغ للبحث والكتابة والمحاضرة، حتى وافاه الأجل، فانتقل إلى جوار ربه مساء يوم الأحد (13 رجب سنة 1377 هـ، 3 فبراير سنة 1958 م)، فشيعه العلماء والفضلاء والعارفون لفضله وعلمه ونضاله، حتى لقد امتد موكبُ جنازته ما بين ميدان باب الخَلْق، والجامع الأزهر الشريف.
* الكنوز الباقية:
ولم يخلف الرجل وراءه من حطام الدنيا شيئاً، حتى لقد دفن - بناء على وصيته - بمدفن الأسرة التيمورية، مع صديقه العلامة أحمد باشا تيمور، لكنه خلّف - غيرَ النضال، والأثر الطيب، والذكر الحسن، والقدوة الصالحة - كنوزاً من الفكر، شاهدة على عقله المبدع والمجدد، وجهده الدؤوب، وعزمه الذي لم يعرف الوهن أو التقصير، فغير خطبه ومحاضراته ومقالاته وأبحاثه التي لم تجمع خلَّف لنا هذه المؤلفات:
1 -
"رسائل الإصلاح" - في ثلاثة أجزاء.
2 -
"نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم".
3 -
"نقض كتاب في الشعر الجاهلي".
4 -
"القياس في اللغة العربية".
5 -
"الخيال في الشعر العربي".
6 -
"آداب الحرب في الإسلام".
7 -
"خواطر الحياة"(ديوان شعر).
8 -
"تعليقات على كتاب "الموافقات" للشاطبي".
لقد كان رحمه الله عقلاً إسلامياً مجدداً، ومناضلاً في سبيل النهضة العربية، والإحياء الإسلامي، يتحلَّى بخلق الأولياء والصديقين والشهداء.
- فهو في تونس يواجه الاستبداد الاستعماري، والمسخ الحضاري بالدعوة إلى إحياء العربية؛ لتكون سلاحاً في معركة الأمة من أجل حريتها، واستخلاص هويتها العربية الإسلامية، ويستنهض الشعب بإبراز قيمة ومكانة "الحرية" في الإسلام، ويدفع الثمن هجرة من الربوع التي نشأ فيها.
- وهو في المشرق، بدمشق، يواجه تسلط السفاح أحمد جمال باشا، فيدفع الثمن سجناً وتعذيباً، فلقد كان عداؤه للاستعمار الأجنبي وللاستبداد الداخلي شديداً ودائماً.
فَلا كانَ من عيشٍ أَرى فيه أُمَّتي
…
تُساسُ بِكَفَّيْ غاشمٍ وغريبِ!
وهو في مصر يتصدى لخطر الغزو الفكري، ممثلاً في تياره "التغريب"، فينقض كتابي علي عبد الرازق، وطه حسين، ويسهم بالفكر في إنهاض العروبة، وتجديد الإسلام، ويسلك سبل التنظيم - الاجتماعي والفكري والقومي والعلمي - من خلال (جمعية الهداية الإسلامية)، ومجلتها، و (جمعية تعاون جاليات إفريقية الشمالية)، و (جمعية الشبان المسلمين)، و (وهيئة كبار
العلماء)، و (المجامع اللغوية)، و (القسم الأدبي بدار الكتب المصرية)، ومجلات "نور الإسلام"، و"لواء الإسلام"
…
إلخ؛ ليجمع الأنصار حول فكره التجديدي، وليمهد السبل لهذا الفكر؛ كي يوضع في الممارسة والتطبيق.
لقد جمع إلى وعيه بتراث أمته وكنوزها الحضارية، وعياً بالتحديات المعاصرة التي تحول بينها وبين النهضة والإحياء، فكان لسان "الأصالة"، المعبر عن مشكلات "المعاصَرَةِ"، وضروراتها، يذود عن "فكر الإسلام ومجد العروبة"، ويدعو إلى النهضة الحديثة المرتكزة على "المعارف"، و"الصناعات".
أبناءَ هذا العصرِ! هل من نهضةٍ
…
تشفي غَليلاً حرُّه يتصعَّدُ؟!
هَذِي الصنائعُ ذُلِّلَتْ أدواتُها
…
وسَبيلُها للعالَمينَ مُمَهَّدُ
إِنَّ المعارفَ والصنائعَ عُدَّةٌ
…
بابُ الترقِّي من سِواها مُوصَدُ!
ولقد أصاب صديقُه العالم الفاضل محبُّ الدين الخطيب، عندما وصفه، فقال: "هذا رجل آمن بالإسلام ودعوته، وأحبَّ من صدر حياته أن يكون من الذين قال الله سبحانه فيهم:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30} (1).
محمد عمارة
(1) لقد جمعنا مادة هذه الصفحات عن حياة الشيخ الخضر من مقال صديقه محب الدين الخطيب، وعنوانه:(شيخ الأزهر السابق: السيد محمد الخضر حسين) مجلة الأزهر، عدد شعبان سنة 1377 هـ. وكتاب "مشيخة الأزهر" لعلي عبد العظيم (ج 2 ص 147 - 162)، طبعة القاهرة سنة 1979 م