الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شخصيات إسلامية
الإمام محمد الخضر حسين
(1)
* الشخصية في سطور:
ولد محمد الخضر حسين في مدينة "نفطة " بتونس سنة (1293 هـ = 1876 م).
تلقَّى تعلميه في مسقط رأسه، ثم انتقل إلى تونس العاصمة مع أسرته، والتحق بجامع الزيتونة.
بعد تخرُّجه في جامع الزيتونة عمل بالخطابة والتدريس والقضاء.
أسَّس في تونس مجلة لخدمة الفكر الإسلامي بعنوان "السعادة العظمى".
غادر تونس إلى الآستانة سنة (1329 هـ = 1911 م)، وتردّد بين دمشق والآستانة وبرلين، ودامت هجرته نحو عشر سنين.
استقر في القاهرة سنة (1338 هـ = 1920 م)، وعمل في دار الكتب المصرية.
التحق بالأزهر، وحصل على عالمية الأزهر، واشتغل بالتدريس فيه.
دخل معارك فكرية كبيرة مع "طه حسين"، والشيخ "علي عبد الرازق".
تولّى رئاسة تحرير مجلة "الأزهر"، ودخل مجمع اللغة العربية مع
(1) ترجمة الإمام في الموقع على (الأنترنيت) www.ikhwanonline.com
الجيل الأول من علماء المصريين والعرب الأجانب سنة (1351 هـ = 1932 م).
اشترك مع "أحمد تيمور" باشا في تأسيس جمعية الشبان المسلمين، وأسس بمفرده جمعية "الهداية الإسلامية".
تولى مشيخة الأزهر سنة (1371 هـ = 1952 م).
توفي "محمد الخضر حسين" سنة (1377 هـ = 1958 م) تاركاً عدداً من المؤلفات المهمة.
* المجاهد بالقلم:
أتى على القاهرة حين من الدهر كانت مستقر العلماء، وقادةِ التحرير، وزعماءِ الإصلاح في العالم العربي والإسلامي، وشهد النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري نزوح عدد كبير من هؤلاء إلى قاهرة المعزّ التي فتحت لهم ذراعيها، وأحسنت استقبالهم، وكرمت وفادتهم، فقدم من الدولة العثمانية شيخ الإسلام "مصطفى صبري"، ووكيله "محمد زاهد الكوثري"، ومن الشام "طاهر الجزائري"، و"محمد كرد علي"، و"شكيب أرسلان"، ومن بلاد المغرب العربي "علال الفاسي"، و"محمد الخضر حسين"، و"البشير الإبراهيمي"، وغيرهم.
واستقر بعضهم في القاهرة، واتخذها وطناً له، وعمل في مؤسساتها، وتبوأ المناصب العليا في الدولة؛ مثل: الشيخ "محمد الخضر حسين"، الذي قدِم من تونس إلى القاهرة، وأقام بها، وعمل في هيئاتها، ومؤسساتها العلمية حتى اختير شيخاً للجامع الأزهر.
* المولد والنشأة:
وُلد "محمد الخضر حسين" في مدينة "نفطة" بجنوب تونس في (26 من
رجب سنة 1293 هـ = 16 من أغسطس 1876 م)، وبها نشأ وتعلم، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وألمَّ بشيء من الأدب والعلوم العربية والشرعية.
ثم انتقل وهو في الثانية عشرة من عمره سنة (1305 هـ = 1888 م) إلى تونس العاصمة، والتحق بعد عامين بجامع الزيتونة، وهو سورة مصغَّرة من الأزهر في ذلك العهد، تُقرأ فيه علوم الدين؛ من تفسير، وحديث، وفقه، ونحو، وصرف.
وفي الزيتونة تقدم الطالب النابغة في تحصيل العلم، وظهرت أمارات نبوغه في العلوم العربية، والشرعية، وتجلّى ذوقه الأدبي في الإنشاء، حتى تخرَّج سنة (1321 هـ = 1903 م) حاصلاً على الشهادة العالمية، وأصبح بذلك من علماء الزيتونة.
* في معترك الحياة:
وفي العام الذي تخرج فيه أنشأ مجلة "السعادة العظمى"؛ لتَنْشر محاسن الإسلام، وتفضح أساليب الاستعمار الذي يحاول أن يطمس نور الشريعة عن عيون المسلمين، ويبذل جهوداً مضنية لتشويه اللغة العربية، ورميها بالجمود والتخلّف؛ لينصرف الناس عن قرآنهم المجيد، وأحاديث نبيَّهم الكريم، وقامت المجلة بمهمتها -حسب الطاقة والجهد- في عزم وصبر شديدين، وإلى جانب التدريس والخطابة بالجامع الكبير بمدينة "بنزرت" تولَّى قضاءها في سنة (1324 هـ = 1905 م)، غير أنه ما لبث أن ترك وظيفة القضاء المرموقة سنة (1326 هـ = 1908 م).
وعاد إلى تونس العاصمة، وعمل مدرساً بالمدرسة "الصادقية"، وهي
المدرسة الثانوية الوحيدة بتونس يومئذ، وفي العام التالي تطوع للتدريس بجامع الزيتونة، ثم أحيلت إليه مهمة تنظيم خزائن الكتب الخاصة بهذه الجامعة العريقة، وتمَّ تعيينه رسمياً مدرساً بها.
وفي أثناء ذلك يقوم بالخطابة في المنتديات الثقافية، داعياً إلى إحياء قيَم الحرية والتحرُّر، وبثِّ روح العروبة في النفوس، والعناية بالنشء وتعلميه.
* رحلاته إلى العالم الإسلامي:
ولما قامت الحرب الإيطالية الطرابلسية سنة (1329 هـ = 1911 م)، وزحفت الجيوش الغازية، واحتلت طرابلس، وبني غازي، وقف الخضر بقلمه من مغتصبيه، وأشعلت مقالات الشيخ الحماس في النفوس، ونبَّهت الغافلين من الأمة، وشعر المستعمر الفرنسي بخطورة ما يقوم به الشيخ المجاهد، فاتَّهمه ببثِّ روح العداء للغرب، وبدأ يضيّق عليه، واضطرَّ الشيخ إلى مغادرة تونس إلى الآستانة سنة (1330 هـ = 1912 م)، وعُيِّن مدرساً للتربية في المدرسة "السلطانية" وتعمَّدت رحلاته بين دمشق والآستانة وبرلين؛ في سبيل خدمة قضايا العالم الإسلامي، والاتصال بزعماء الحركات الإسلامية، إلى أن عاد مرة أخرى إلى عمله في المدرسة السلطانية سنة (1335 هـ = 1917 م)، وشرح لطلابه كتاب "مغني اللبيب" لابن هشام.
* الاستقرار في القاهرة:
ولما وقعت سورية في قبضة الاحتلال الفرنسي سنة (1338 هـ = 1920 م)، غادر الشيخ "الخضر حسين" دمشق، وقصد القاهرة، وما كاد ينزل حي الحسين غريباً لا يعرف أحداً، ومهاجراً في سبيل الله بقلمه المجاهد الشجاع، حتى وُفِّق للعمل بدار الكتب المصرية بأجرٍ زهيد لا يتفق ومنزلته الكبيرة، ثم توثَّقت
صلته بزعماء الفكر الإسلامي من أمثال: "أحمد تيمور"، و"محب الدين الخطيب"، و"عبد الوهاب النجَّار"، و"محمد رشيد رضا" الذين عرفوا قدر الرجل ومنزلته العلمية.
وفي أثناء ذلك حصل على الجنسية المصرية، وتقدَّم إلى امتحان العالمية بالجامع الأزهر، وكان الشيخ عبد المجيد اللبَّان رئيس اللجنة مع نخبة من زملائه المختارين، فأبدى الشيخ من الرسوخ والتمكُّن ما أدهش، حتى إن الشيخ اللبّان صاح -إعجاباً- قائلاً: هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حجاج؟! ونال الشهادة العالمية الأزهرية، وبها صار أستاذاً في الجامعة الأزهرية.
* معاركه الفكرية مع "علي عبد الرازق، وطه حسين":
شاءت الأقدار أن يدخل "الخضر حسين" معارك فكرية لفتت الأنظار إليه؛ لسعة علمه، وقوة حُجَجِه، ونزاهته في عرض آراء الخصوم، وموضوعيته في الردِّ عليها، وبدأت معاركه الفكرية الكبرى سنة (1344 هـ = 1925 م) بنقضه لكتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ "علي عبد الرازق" الذي ادَّعى فيه أن الإسلام دين ليست به شريعة لسياسة الدولة والمجتمع، وحاول تجريد الإسلام من طابعه ودوره السياسي، وتجريد الدولة في وطن المسلمين من صبغته"لإسلامية، وتقديم الإسلام ديناً لا دولة، ورسالة روحية لا شرع فيها ولا سياسة.
وتصدَّى الشيخ المجاهد هذا الكتاب الذي أثار ضجَّة واسعة، واحتفى به الكارهون لشرع الله، فنقده نقداً علمياً نزيهاً، معتمداً على الحجة والبرهان، والاستناد إلى القواعد الأصولية والفقهية، وضمن ذلك كتابه "نقض كتاب
الإسلام وأصول الحكم"، وفي العام التالي سنة (1345 هـ = 1926 م) ظهَر كتاب "في الشعر الجاهلي" لـ "طه حسين"، نادى باحتقار كل قديم دوِّن في صحف الأدب، والشكّ فيه، ويزعم أن معظم ما قيل منسوباً إلى شعراء الجاهلية اختلاقٌ زائف، وهاجم المقدّسات الإسلامية هجوماً لا هوادة فيه، وادَّعى أن حديث القرآن الكريم عن "إبراهيم" و"إسماعيل" عليهما السلام لا يكفي لإثبات وجودهما في التاريخ.
وقد ردَّ الشيخ "الخضر" على "طه حسين" بكتابه "نقض كتاب في الشعر الجاهلي"، فصنع معه ما صنع مع كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، عندما فنَّده فقرة فقرة، مع أدب رفيع في الحوار، وبراعة في الجدل كشفت عن عقل متمكن ومتمرس في ميدان البحث والمناظرة.
* جهوده الإصلاحية في القاهرة:
لم يكن الشيخ ممن يكتفون بوسيلة واحدة من وسائل الإصلاح، فهو معلّم متمكن، وخطيب بارع، ومؤلف موهوب، وصحفي مجاهد، وداع إلى إنشاء الجمعيات الإسلامية، وقد اشترك في سنة (1346 هـ = 1927 م) مع صديقه العلامة "أحمد تيمور" في تأسيس "جمعية الشبان المسلمين"، التي تكونت للتعريف بالإسلام، والذَّود عن حضارته، وكانت مصر تتعرض لحملة ثقافية تغريبية لطمس هوية البلاد.
ولما نجحت جمعية "الشبان المسلمين"، تفرَّغ الشيخ لإنشاء "جمعية الهداية الإسلامية"، وضمَّ إليها جمهرة مستنيرة من شيوخ الأزهر وشبابه، ومن طبقات المثقفين ثقافة مدينة، وأنشأ بها مكتبة كبيرة كانت نواتها مكتبته الخاصة، وأصدر مجلة تحمل اسم الجمعية، وأنشأ لها فروعاً بالأقاليم، وكانت
محاضراته المستمرة فيها، ومقالاته في المجلة جُهداً منظماً ومستمراً قدَّم من خلاله معالم دعوته للإحياء الإسلامي، والنهضة العربية، وتحرير ديار العروبة والإسلام، وقد جُمعت مقالاته ومحاضراته هذه في كتاب من ثلاثة أجزاء بعنوان:"رسائل الإصلاح".
* في المؤسسات والهيئات العلمية:
عرف أهل العلم في مصر قدر الرجل، وسعة علمه منذ أن نزل بها، فعهدوا إليه بالقيام ببعض الأعمال التي تحتاج إلى الراسخين في العلم، فعندما أصدر الأزهر مجلته التي بدأت باسم "نور الإسلام" في سنة (1349 هـ = 1930 م) عهد إلى الشيخ "الخضر" برئاسة تحريرها، فنهض بهذه المهمة ثلاث سنوات، وأرسى قواعد التحرير في المجلة، ونظم شؤونها، وعندما تكوّن مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة (1351 هـ = 1932 م) كان الشيخ "الخضر" من الرعيل الأول الذي اختِير لعضوية المجمع ضمن عشرين عالماً وأديباً من كبار رجال العلم في مصر والعالم العربي وأوروبا، واشترك في كثير من لجان المجمع العلمية، ونشرت له المجلة عدداً من البحوث اللغوية العميقة، وتقديراً لعلمه اختاره المجمع العلمي العربي بدمشق عضواً به، وفي سنة (1370 هـ = 1951 م) نال عضوية هيئة كبار العلماء- أكبر هيئة علمية إسلامية- برسالته:"القياس في اللغة العربية".
* في مشيخة الأزهر:
وعندما قامت حركة الجيش في (23 يوليو 1952 م) كان منصب شيخ الأزهر شاغراً، وقع اختياره على الشيخ "الخضر" إماماً أكبر، وشيخاً للإسلام، ووجهاً مشرقاً هذه الجامعة العريقة، ووُلي الأستاذ الشيخ المنصب الكبير،
وفي ذهنه برنامج إصلاحي كبير للنهضة الإسلامية التي يتطلع إليها العالم الإسلامي، لكنَّ رجال الحكم لم يتركوا الشيخ يعمل في هدوء، ووضعوا العراقيل في طريقه، وشعر الشيخ بضغوط تحُول بينه ويين ما يريد، أو تَطلب منه تنفيذ ما لا يرضيه، فتقدم باستقالته في (2 من جمادى الأولى سنة 1373 هـ = 7 من يناير 1954 م) قائلاً كلمته الشهيرة:"يكفيني كوب لبن وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء".
ويذكر له: أنه حينما تولَّى مشيخة الأزهر، لم يغير شيئاً من عاداته، ولم يكن له في شهوات المنصب من حظ، وكان دائماً يحتفظ باستقالته في جيبه، ويقول:"إن الأزهر أمانة في عنقي، أسلمها -حين أسلِّمها- موفورة كاملة، وإذا لم يتأتَّ أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من ألا يحصل له نقص".
* مؤلفات الخضر حسين:
لم يخلف الشيخ "الخضر" وراعه من حطام الدنيا شيئاً، لكنه ترك ذكرى طيبة، وسيرة حسنة في ميادين السياسة والجهاد والقدوة الحسنة، وترك كنوزاً من الفكر شاهدة على عقله المبدع، وجهده الدؤوب، ومن هذه المؤلفات:
= رسائل الإصلاح.
= نقض كتاب "الإسلام وأصول الحكم".
= نقض كتاب "في الشعر الجاهلي".
= القياس في اللغة العربية.
= الخيال في الشعر العربي.
= آداب الحرب في الإسلام.
= تعليقات على كتاب "الموافقات" للشاطبي.
= خواطر الحياة "ديوان شعره".
= وفاة الإمام الأكبر:
بعد استقالة الشيخ "الخضر" من مشيخة الأزهر تفرَّغ للبحث والكتابة والمحاضرة حتى وافاه الأجل، فانتقل إلى جوار ربه مساء الأحد الموافق (13 من رجب 1377 هـ = 3 من فبراير 1958 م)، فشيَّعه العلماء وعارفو فضله ونضاله في مشهد مهيب، ودُفن في مدفن الأسرة التيمورية مع صديقه "أحمد تيمور" باشا.
* مصادر الشخصية:
= علي عبد العظيم - "مشيخة الأزهر منذ إنشائها حتى الآن" -الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية- القاهرة (1399 هـ = 1979 م).
= محمد عبد المنعم خفاجى - "الأزهر في ألف عام" - عالم الكتب - ببيروت (1408 هـ = 1988 م).
= محمد رجب البيومي - "النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين" - دار القلم - دمشق (1415 هـ = 1995 م).
= محمد مهدي علام - "المجمعيّون في خمسين عاماً" - مطبوعات مجمع اللغة العربية - القاهرة (1406 هـ = 1986 م).
= محمد عمارة - "معركة الإسلام وأصول الحكم" - دار الشروق - القاهرة (1410 هـ = 1989 م).
رسالة العالم الجليل محمد الصادق بن عرجون (1) إلى العالم الفاضل اللغوي محمد المكي بن الحسين شقيق الإمام محمد الخضر حسين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
القاهرة المعزّية - في 20 ربيع الأول سنة 1351 هـ - 24 يولية سنة 1932 م.
= من عبد الله، خادم "الهداية الاسلامية" في ظل لواء المصلح الأكبر، المجدّد لأمر الدين الأنور، ذي المناقب الغرر، سيدي أبي عبد الله تاج العلماء، نسيج وحده، وواحد عصره، السيد السند محمد الخضر -مدَّ الله في أجله- صادق إبراهيم عرجون المصري الأدفوي.
= إلى سماحة الفضل والتقى، ومعهد العلم والحسب، وذروة سنام المجد والنسب، السيد الأمجد فضيلة الأستاذ محمد المكي بن الحسين -أبقاه الله للغة الضاد ذخراً، وسلك به إلى العلا مذهباً-. آمين.
أما بعد:
حمداً لله لك ولآلك وصحابتك من أهل العلم وحملة الأقلام، فسلام
(1) رسالة من العالم الجليل صادق بن إبراهيم عرجون في القاهرة إلى العالم اللغوي محمد المكي بن الحسين بتونس، وشقيق الإمام محمد الخضر حسين، بخصوص رغبته في كتابة ترجمة وافية عن شيخه الإمام محمد الخضر، صوّرت الرسالة من دار الكتب الوطنية بتونس - الدوريات - وثائق محمد صالح المهيدي ..
عليك وعليهم ورحمة الله ويركاته.
شرفني كتابكم، فحرَّك من النفس ساكناً، ومن الشوق إليكم كامناً، ذلك أن أهل العلم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الخصوص، وإن تباعدت جسومهم، وافترقوا بالعناصر المادية، فما كان ذلك سارياً على أرواحهم؛ لسموّ عنصرها عن القيد إلى الإطلاق، فهم متعارفون متآلفون. من يوم طربوا من لذيذ خطاب: ألست، فقالوا: بلى. فمنَّ الله عليهم بأنس المحبة والاجتماع، ووقاهم الوحشة والافتراق، كما أخبرنا بذلك كامل الأخلاق، فيما رواه الأثبات الثقات:"الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". وحاشا أن تتناكر أرواح خدّام العلم وجنود الإسلام.
أيها السيد! قد عرَّفتُك بالرغبة المُلِحَّة مني على أستاذي ومولاي (الخضر) في أن أحيط علماً بكل ما يتعلق به، أو يقاربه، وفي الحق لست أعلم كنه هذه الرغبة، وأجهل حقيقة الباعث إليها، ولا أدرك من نفسي إلا إحساساً باطنياً يدفعني إلى تعرّف كل شيء. وهنا إذا فزت ببعض ما كنت أجهل، شعرت بلذة إن شئت -أيها السيّد- فسمّها: لذة الوصل بعد الهجر كما يقولون مبالغة في الحلاوة ورضا النفس، فهل يكون هذا هو الحب مع الإجلال؟ ولِمَ لا، وهو لله والعلم والدين.
عَرفتكَ بتقضي الفائقة الرائقة في اللغة وأسرارها، عرفتك بالحديث عنك كما سنحت الفرصة إزكاء للشوق، فهل يا تُرى تلتقي الأبدان؛ ليكون أبلغ في القرب والائتناس؟ سيكون -إن شاء الله- إذا سمحتم بزيارة مصر، حقق الله الآمال.
أما حديث الأستاذ الجليل مجدد عهد ولي الدين ابن خلدون السيد
حسن حسني عبد الوهاب المؤرخ الكبير -حفظه الله سنداً لتاريخ الإسلام- عن "الفقير"، فذاك انعكاس سورة من خلقه الكريم في مرآة نفسه، ففاضت بالحديث إليكم في مناسبة، فإذا شكرته، فإنما هو شكر الجميل، وحمد الأخلاق الفاضلة، جزاه الله عن حسن ظنّه بإخوانه وأبنائه خير الجزاء.
كوكب سنيّ أضاء من سماء المغرب في أفق (تونس الخضراء) شقيقة القاهرة وأختها، ومن القديم تزجي العناية الربانية بدور (تونس) إذا اكتملوا إلى مصر؛ ليبددوا سحباً من الشكوك، يحوك أديمها مراض الأفئدة ضعاف القلوب، وليضعوا في بناء الأخلاق أسساً، وليربّوا من الناشئة نفوساً، وحسبنا في القديم شيخ المؤرخين، وفيلسوف الاجتماع ولي الدين ابن خلدون، قاضي قضاتنا، وحضين تربتنا.
وفي الحديث، هو ذلك البدر المنير، فرع الدوحة الطاهرة المباركة، أستاذي - وشرف الإضافة - استفدناه من (يا عبادي)، العلامة مجدد القرن الرابع عشر، سيدي صاحب الفضيلة والفضل الأستاذ الشيخ (محمد الخضر) - أطال الله في حياته-.
كم أنا أيها الصديق الجليل شاعر بالغبطة والفخر، إذ كنت ملحوظاً بعناية هذا المربي العامل مشمولاً برعايته وفي كنفه، وإن نفسي لتدفعني بشدة إلى أن أصنع بقلمي -على عجزه- ترجمة وافية تحوي آثار قلم السيد المتفرقة شعراً ونثراً، والكلام على رحلاته في الشرق والغرب، ومناقبه، وسموّ محتده؛ تزلفاً إلى الله تعالى، وأداء بحق البنوّة والتلمذة، وقد استخرت الله تعالى في جمع المعلومات من مظانّها، ومراقبة ما يكتب عنه في الجرائد الإسلامية وغيرها، وساعدني -حفظه الله- وأرشدني إلى كثير منها.
وقد وقع في نفسي أنه لا بدَّ أن تكون لدى سيادتكم متفرقات منها وعنها، ولاسيما بعض أعداد مجلة "السعادة العظمى" التي كان يصدرها السيد في تونس، وفي بعض القصائد التي لم تنشر، أو نشرت قديماً في جرائد تونسية. وطالما دار بخلدي أن كتب إلى سيادتكم في هذا الشأن، حتى كنتم السابقين إلى الفضل، فجزاكم الله عني أحسن الجزاء، فإذا سمحتم بإسعادي بشيء مما ترونه مساعداً في محاولتي من حوادث تاريخية، ونوادر أدبية، حتى يتم لنا جمع أطراف الحديث، ثم نستعين الله في الوضع والترتيب عند توفيق الله، وفسحة الأوقات -إن شاء الله تعالى-.
شرفتموني بطلب ثلاثة أعداد من جريدة "طريقه متى"، وها هي ذي مرسلة إليكم الآن. وإني على استعداد تام لإجابة لازمكم من مصر. والله ولي الهداية والتوفيق. وختاماً تقبلوا سلامي وتحياتي.
المخلص صادق إبراهيم عرجون (1)
الهداية الإسلامية
(1) العالم الجليل والداعية الإسلامي محمد الصادق بن إبراهيم عرجون (1321 - 1400 هـ = 1903 - 1980 م) ولد في (أدفو) بمحافظة أسوان، من طلاب الإمام محمد الخضر حسين، ومن كتّاب مجلة "الهداية الإسلامية"، وله أبحاث قيمة فيها، نال شهادة التخصص من الأزهر، ودرَّس في معاهده وكلياته، وأصبح عميداً لكلية أصول الدين. له نشاط واسع في عدد من الجامعات الإسلامية، ولاسيما في جامعات أم القرى، والمدينة المنورة، والكويت، وبنغازي. وضع كتابه القيم:"محمد رسول الله منهج ورسالة" في أربعة مجلدات. وله مؤلفات عديدة (انظر ترجمته في: كتب الأعلام).