المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌علم من أعلام الزيتونةالشيخ محمد الخضر حسين من خلال آثاره العلمية - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - جـ ١٣

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(26)«الإرثُ الفِكريُّ للإِمَامِ مُحَمَّدٍ الخَضِرِ حُسَين»

- ‌المقدمة

- ‌السياسة القضائية

- ‌أسماء الصفات وأسماء الأعيان المشيرة إلى وصف

- ‌الحالة السياسية في تونس محاولة إدماج التونسيين في الجنسية الفرنسية

- ‌رسالة الإمام محمد الخضر حسين إلى الأستاذ محمد الصادق بسيس

- ‌رثاء الوزير الأكبر محمد العزيز بوعتّور

- ‌تهنئة لمقام المشيخة الإسلامية

- ‌من شعر الإمام محمد الخضر حسين

- ‌تقريض كتاب "مرآة البراهين في مضار النشوق والتدخين

- ‌تقريض رسالة "إجمال القول في مضار الكحول

- ‌الحمد لله - هذه حياتي

- ‌من وثائق محمد الصالح المهيدي

- ‌من وثائق محمد الصالح المهيديالسيد محمد الخضر حسين

- ‌من وثائق محمد الصالح المهيديالشيخ الخضر حسين

- ‌من وثائق محمد الصالح المهيديالشيخ الخضر حسين

- ‌ كيف يقضي يومه بالقاهرة:

- ‌ اللغات التي يحسنها:

- ‌من وثائق محمد الصالح المهيدي

- ‌تلامذة جامع الزيتونة

- ‌ربع ساعة أمام المذياعالأدب التونسي في القرن الخامس مسامرة الشيخ محمد الخضر حسين

- ‌العلامة التونسي الشهير الشيخ الخضر بن الحسين يسمى شيخاً على الأزهر الشريف

- ‌من وحي القلملمسة وفاء

- ‌شخصيات إسلاميةالإمام محمد الخضر حسين

- ‌الإمام محمد الخضر حسين في كتاب "إمداد الفتاح بأسانيد ومرويات الشيخ عبد الفتاح

- ‌مقتطفات من الكتب من تتعلق بالإمام محمد الخضر حسين وتراثه

- ‌هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام

- ‌صوت الحق

- ‌تزويد أحد الشبان التونسيين بموعظة

- ‌مِرْقاة العُلا

- ‌إجازة الإمام محمد الخضر حسين للعلامة الشيخ حامد التقي الدمشقي

- ‌الشيخ محمد الخضر حسين

- ‌علم من أعلام الزيتونةالشيخ محمد الخضر حُسين من خلال آثاره العلمية

- ‌على هامش ذكرى الإمام الشيخ محمد الخضر حسين

- ‌في ذكرى الشيخ الإمام محمد الخضر حسين (1873 هـ -1958 م)

- ‌قال أمير شعراء تونس الشاذلي خزنة دار في تهْنِئَة الشيخ الخضر بن الحسين بمشيخَة الجامع الأزهر، ودخول العام الهجري الجديد

- ‌محمد الخضر بن الحسين التونسي

- ‌رثاء المنعم العلامة الشيخ محمد الخضر حسين نظم الشيخ المنعم على النيفر

- ‌تونس ملهمة الشعراء محمد الخضر حسين

- ‌رسائل محمّد الخضر حسين

- ‌مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها

- ‌حفلة الترحيب بالرئيس الجليل

- ‌حفلة تكريم رئيس الجمعية

- ‌تكريم أعضاء في جمعية الهداية الإسلامية

- ‌تقدير علمي

- ‌مذكرات شيخ الأزهر

- ‌من أعلام الاجتهاد الإسلامي الحديث

- ‌مقدمة عَلَّامة الشام محمد بهجة البيطار

- ‌محمد الخضر حسين لغوياً وناقداً أدبياً

- ‌الإمام محمد الخضر حسين

- ‌الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين

- ‌الأخوَّة بين الإمامين محمد الخضر حسين ، ومحمد الطاهر بن عاشور

- ‌تدهور الفكر العربي

- ‌حكم عليه بالإعدام في تونس…فأصبح شيخاً للأزهر

- ‌الاجتهاد والفكر المستنير بالبلاد التونسية في القرن العشرين نماذج من المجتهدين التونسيين في القرن العشرين

- ‌رجل عظيم ويزيده عظماً وقدراً أنه يعرف قدر العظيم

- ‌القياس في اللغة العربية للأستاذ محمد الخضر حسين عضو مجمع اللغة العربية الملكي

- ‌الشيخ محمد الخضر حسين

- ‌شهادة عن الشيخ محمد الخضر حسين

- ‌الشيخ الخضر حسين منافح عن الإسلام والعروبة

- ‌العَلَّامة محمد الخضر الحسين

- ‌إفريقيا الشمالية حديث لرئيس جبهة الدفاع عنها

- ‌التعريف والنقد دراسات قي العربية وتاريخها تأليف محمد الخضر حسين

- ‌العلامة الشيخ محمد الخضر حسين الطولقي مشيخة الأزهر، وتأسيس أول مجلة بتونس

- ‌مقابلة فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين

- ‌الإمام محمد الخضر حسين الجزائري حياته وآثاره

- ‌محمد الخضر بن الحسين

- ‌سلالة الشيخ علي بن عمر

- ‌العلامة محمد الخضر حسين التونسي

- ‌محمد الخضر بن حسين التونسي

- ‌القاديانية

- ‌أعلام مصر والعالم. . . لوديع فلسطين

- ‌تونسي ثائر في ثورة عبد الناصر

الفصل: ‌علم من أعلام الزيتونةالشيخ محمد الخضر حسين من خلال آثاره العلمية

‌علم من أعلام الزيتونة

الشيخ محمد الخضر حُسين من خلال آثاره العلمية

(1)

الأستاذ محمود الشمام

عالم فقيه متعمق، جامع محقق، وطني مكافح، مدرس محاضر، خطيب حاذق، أديب شاعر متمكن، زيتوني صادقي، خلدوني أزهري.

انتسب إلى كل هذه المعاهد، ودرس بها، وأخلص في حبها، وذكرها، واعتزّ بالانتماء إليها.

يخوض معامع السياسة، ويرتمي في ساحات الكفاح بروح مغامر مكافح، مؤمن بأن التضحية في سبيل الوطن لا جزاء لها إلا الجنة.

هو وديع لطيف، خجول متواضع، يلتهب ناراً في بحوثه وأدبه وشعره، وسعيه السياسي.

هو رحّالة جاب البلاد الإسلامية، وبعض البلدان الغربية، وسخّر مواهبه وقدراته وإمكانياته وعلمه في سبيل مبادئه السياسية والعلمية، حتى ألقى عصا الترحال بالبلاد المصرية، وسكن القاهرة المعزِّية، فكان الجوهر الثاني مبعوثَ الجامعة الزيتونة؛ لتحصين ما أسسه الجوهر الأول

(1) مجلة "الهداية" تصدر عن المجلس الإسلامي الأعلى بتونس، العددان الخامس والسادس من السنة الثانية والعشرين لعام (1418 هـ - 1998 م).

ص: 259

مبعوثُ الدولة الفاطمية.

ذلكم هو الشيخ الإمام القاضي، المدزس بالجامع الأعظم جامعِ الزيتونة وشيخ الأزهر بالقاهرة، محمدُ الخضر بن حسين بن علي بن عمر الشريف النفطي الجريدي التونسي.

* ولادته:

اختلفت الروايات حول ضبط تاريخ ميلاده، فذكر حفيده للأخ الأستاذ علي الرّضا الحسيني: أنه ولد سنة 1874 م، لكن أثبت غيره -وهو الراجح-: أنه ولد سنة (1290 هـ الموافق 1873 م).

وكانت ولادته بمدينة "نفطة" من الجنوب التونسي، مهدِ العلماء الفقهاء، والأدباء النبغاء، المعروفة بالكوفة الصغرى، كما عُرفت جارتها "توزر" بالبصرة. لا أحسب أني في حاجة للتعريف بهذه المدينة الفيحاء "نفطة"، فهي غنية عن التعريف.

وعائلة ابن الحسين ماجدة في حسبها ونسبها المتصلِ بالشرف النبوي الكريم، وإخوة الشيخ الخضر هم: محمد الجنيدي، ومحمد العروسي، ومحمد المكي، وزين العابدين.

وأفرادها الذين عرفناهم نجوماً لامعة في سماء العلم والمعرفة هم: مترجَمنا الشيخ الخضر، وأخوه الشيخ محمد المكي، وأخوهما الشيخ زين العابدين.

وقد عرفتُ ثلاثتهم عن قرب معرفة شخصية. ففي غضون زيارتي للقاهرة رفقة المولى الخال الشيخ سيدي الحاج علي ابن الخوجة، تشرفت بزيارة الشيخ محمد الخضر بمحله، فأكرمنا وأطعمنا، ورحّب بنا، ومدَّنا

ص: 260

ببعض إنتاجه، وزوّدنا بنصائحه وتوجيهاته، وفي غضون زيارتي لدمشق، زرت شقيقه الشيخ زين العابدين، فاستضافني، وفرح بمقدمي، وأهداني بعض كتبه. وهناك تعرفت على ابنه الأستاذ علي الرضا الذي زارني بتونس.

أما الشيخ المكي، فهو صديق العائلة، تعرفت عليه بواسطة شقيقي سيدي محمد شمام صديقه الحميم، وكان يزورنا بمحلنا من نهج الناعورة نهج الباشا، ونزوره برحبة الغنم، ونجالسه في مكتبة الاستقامة عند الشيخ الثميني، توفي الشيخ المكي رحمه الله في (20 شعبان سنة 1382 هـ الملاقي 26 جانفي سنة 1963 م).

وثلاثتهم رحمهم الله من كابر العلماء، أثروا المكتبة العربية بمؤلفاتهم وتحريراتهم، فخلّد التاريخ ذكرهم، وها نحن أولاء نعدد محاسنهم مترحِّمين عليهم.

وعائلة الشيخ محمد الخضر تنتسب إلى الطريق الصوفية، فأبوه، وجدُّه للأب ينتسبان للطريقة الرحمانية، أما جدّه لأمه، فهو الشيخ مصطفى ابن عزوز شيخ الطريقة الرحمانية، وخاله الذي رباه وعلمه هو الشيخ محمد المكي بن عزوز كان علماً من أعلام العلم والأدب والمعرفة الواسعة، وفذاً من الأفذاذ في معرفة الكتب، مع الحرص على اقتنائها وجمعها، كان أديباً شاعراً، تولّى خطة الإفتاء بنفطة، وانتقل إلى الآستانة ودرّس بها الحديث الشريف، ونقل معه من تونس مكتبته التي يصفها الشيخ الفاضل ابن عاشور بأنها مكتبة من أندر وأعز وأنفس المكتبات وأفضلها من الخزائن الخاصة في العالم الإسلامي. -توفي رحمه الله سنة (1334 هـ الملاقي 1916 م).

ص: 261

في هذه البيئة، وفي كنف خاله هذا، تربّى شيخنا الخضر، الذي تحدث عن نشأته، فقال:"نشأت في بلدة من بلاد الجريد بالقطر التونسي يقال لها: "نفطة"، وكان للأدب المنظوم والمنثور في هذه البلدة نفحات تهب في مجالس علمائها، وكان حولي من أقاربي وغيرهم من يقول الشعر، فتذوقت طعم الأدب من أول نشأتي، وحاولت وأنا في سن الثانية عشرة نظم الشعر" حتى انتهى بإصدار ديوان "خواطر الحياة".

وهو يتحدّث عن عناية خاله به، فيقول:

"أستاذي الذي شبّت في طوق تعليمه فكرتي، وتغذيت بلبان معارفه في أول نشأتي، العلامة الهمام القدوة خالنا الشيخ محمد المكي بن عزّوز".

وخاله هذا يراسله مقرظاً مجلة "السعادة العظمى" التي أصدرها حفيده معرِّضاً بأنه ربّاه وسانده، فيقول له:

"وأنبئكم أنه لما أشرقت غرّتُها، وانبلجت ديباجتها، تصفَّحت دررَ عقودها، وتعمدت سبرَ عودها، لنعلم كيف نتيجة تربيتنا، وإلى أي طور بلغ فرعُ دوحتنا، وبأي ثمرة تفتر أكمامُه، وعلى الوطن بأي صفة تهب أنسامُه".

* التحاقه بجامع الزيتونة:

انخرط الشيخ الخضر في سلك طلبة الزيتونة سنة (1307 هـ الملاقي 1887 م)، وأغرم من أول عهده في الدراسة بالأدب والشعر.

يقول متحدثاً عن نفسه في مقدمة ديوانه "خواطر الحياة": "انتقلت أسرتي إلى مدينة تونس، والتحقت بطلاب العلم بجامع الزيتونة، وكان من أساتذة الجامع -وهم في الطبقة العالية من طلاب العلم- من أولعوا بالأدب،

ص: 262

والتنافس في صناعة الشعر والقريض إلى شأو غير قريب، فاقتفيت أثرهم، وكنت أنظم قصائد تهنئة لبعض أساتذتي عند ختم وإتمام دراسة بعض الكتب".

وأشار إلى بعض شيوخه، وتحدث عنهم؛ كالشيخ سالم بو حاجب، والشيخ محمد النجار، والشيخ عمر بن الشيخ. وقد ترجم للأخيرين في كتابه:"تونس وجامع الزيتونة".

وترجم لأستاذه سيدي عمر بن الشيخ في مجلة "الهداية الإسلامية"، وذكر أن الشيخ محمد عبده كان حضر أحد دروسه عند زيارته لتونس سنة 1884 م.

أما الشيخ محمد النجار، فقد صادقه، وشاركه في تحرير مجلة "السعادة العظمى".

وكتب عن شيخه سالم بو حاجب: "حضرت دروسه عندما أخذت في قراءة الكتب العالية، فشعرت بأني دخلت في مجال أفسح للنظر، وادعى لنشاط الفكر".

ولما مات الشيخ سالم بو حاجب كان شيخنا الخضر بالقاهرة، فقال يرثيه:

فقدَتْ سماءُ المجدِ بدراً عزَّ أن

تحظى برؤية مثله الألحاظُ

وواصل دراسته الزيتونية حتى تحصَّل على شهادة التخرج، شهادة "التطويع" سنة (1316 هـ الملاقي 1898 م). وتطوع للتدريس بالجامع الأعظم. وابتدأ جهاده الثقافي إثر تخرجه، فسعى لإصدار مجلة علمية أدبية جامعة هي الأولى من نوعها، مجلة:"السعادة العظمى". صدرت نصف شهرية

ص: 263

في محرم سنة (1322 هـ الملاقي سنة 1904 م). وأيّدها علماء الإصلاح؛ مثل: الشيخ سالم بو حاجب الذي خاطب تلميذه الشيخ الخضر بقوله:

"أقول لك ما قاله ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي،، يشير إلى النقد الذي لقيته المجلة من بعض الناقدين.

وكانت أبحاث المجلة تشتمل على المواضيع العلمية والأدبية والأخلاقية، وتلقي الأسئلة والإجابة عنها.

وشيخنا الخضر يوجز مقاصده ومراميه الإصلاحية في بيت بليغ، وهو الشاعر الفحل، والمصلح المفكر، فيقول:

إنَ المعارِفَ والصنائعَ عدَّةٌ

بابُ الترقّي من سِواها موصَدُ

ويقول:

ولا تعودُ إلى شعبٍ مجادتُه

إلا إذا غامرتْ هِمّاتُه الشُّهُبا

وكأني به يتبنى قول شاعر تونس ومفتيها أبي الثناء محمود قبادو:

دليلُ اصطفاءِ اللهِ للعبْدِ علمُهُ

وتشريفُه أن يكشفَ الحقَّ فهمُهُ

ومن لم يَجُسْ خُبراً أروبا وأهلَها

ولم يتغلغل في المصانع فهمُهُ

فذلك في كِنِّ البلاهةِ داجنٌ

وفي مضجعِ العاداتِ يُلهيه حلمُهُ

وقد شارك في تحرير هذه المجلة عدة علماء من جامع الزيتونة؛ كالشيخ الطاهر بن عاشور، والشيخ محمد النجار، والشيخ بلحسن النجار، والشيخ محمد النخلي.

وصدر من هذه المجلة واحد وعشرون عدداً. ثم توقفت عن الصدور؛ لأن صاحبها تولى خطّة القضاء ببنزرت، وذلك عام (1323 هـ الملاقي 1905 م)،

ص: 264

ولم يمكث بهذه الخطة إلا بضعة أشهر، عاد بعدها إلى تونس، وإلى التدريس بالجامع الأعظم.

وارتقى إلى خطة مدرس من الطبقة الثانية إثر نجاحه في مناظرة سنة (1325 هـ الملاقي 1907 م)، كما عُين أستاذاً بالمدرسة الصادقية، ودُعي للتدريس بالجمعية الخلدونية، ثم انتخب عضواً بهيئة هذه الجمعية مع جماعة من كابر العلماء المشايخ: محمد رضوان، الطاهر النيفر، الطاهر ابن عاشور، بلحسن النجار، الصادق النيفر.

* رحلة الشيخ الخضر إلى الشرق:

لأمور سياسية، وضيق عام إثرَ الضغط المسلط على الناس من حكومة الاستعمار، وكبت الحريات، ثم لأجل أمور عائلية، منها: هجرة خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز إلى الآستانة، وهجرة إخوته إلى دمشق، ثم إخفاقه في نيل التدريس من الطبقة الأولى؛ لأجل كل هذه العوامل مجتمعةً فكر شيخنا في الرحيل، وزيارة الأهل والأقارب.

وفعلاً سافر يوم الخميس (4 شعبان سنة 1330 هـ الملاقي 18 جويلية 1912 م)، وزار جزيرة مالطة، والإسكندرية، والقاهرة؛ حيث ألقى درساً بالأزهر، ثم زار فلسطين ودمشق، والتقى هناك بإخوته، وقضى معهم شهر الصيام، ثم انتقل إلى بيروت، ومنها إلى إسطنبول لزيارة خاله الشيخ محمد المكي، ورجع إلى تونس في ذي الحجة سنة (1330 هـ الملاقي نوفمبر 1912 م)، ونشر بجريدة الزهرة سنة (1331 هـ / 1913 م) خلاصة رحلته قائلاً:

"اقترح عليّ جماعة من الفضلاء أن أحرر خلاصة في آثار رحلتنا الشرقية، فعطفت عنان القلم لمساعفة اقتراحهم، بعد أن رسمت له الوجهة العلمية

ص: 265

سبيلاً لا يحيد عن السير في مناكبها. ولئن لم يلتقط الناظر منها درة علمية فائقة، فإنها لا تخلو من أن تنبسط له بملحمة أدبية رائعة، وإليك التحرير: سنح لي باعث الرحلة إلى بلاد الشام، وهو زيارة الأهل وفاءً بحق صلة الرحم" ..

وقال يخاطب ربان السفينة وقائدها:

حادي سفينتنا اطْرَحْ من حُمولَتها

زاد الوقود فما في طرحِه خطرُ

وخُذْ إذا خمدت أنفاسُ مِرْجَلِها

من لوعة البينِ مقباساً فتستعرُ

ثم يقول: وإني لأدرك في مثل هذا الموطن دقة نظر إمام الحرمين (عبد الملك النيسابوري المتوفى سنة 1085 هـ) حين قيل له: لم كان السفر قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور: لأن فيه فراق الأحبة.

وقد لاحظنا هنا أن بعض من أرَّخ لهذا الرجل ذكر أن سبب رحيله هو إخفاقه في المناظرة بسبب حيفٍ ناله من ممتحنيه، وهذا غير صحيح؛ لأمور، منها:

أ - أن الشيخ خرج من تونس لزيارة أهله وإخوته بسورية وفاء بحق صلة الرحم؛ كما ذكر هو نفسه.

ب - أن الشيخ لما ألف كتاباً في الردّ على الشيخ علي عبد الرازق، وضع مقدمة قال فيها:

"رأيت -وأنا بتونس- أن القيام بحق الإسلام يستدعي مجالاً واسعاً، وسماء صافية، فهاجرت منها والعيشُ رغيد، والأمة في إقبال، والإخوان في مصافاة، وأنزلت رحلي بدمشق الشام، فمدت لنا الأيام في الأمل ظرفاً، فإذا رحى الحرب العالمية تدور، وحامل رايتها يُنجد ويغور. وبعد أن وضعت

ص: 266

الحرب أوزارها، وأخذت البلاد العربية والتركية هيئة غير هيئتها، هبطتُ مصر".

فهو يذكر سبب خروجه من تونس متطلعاً إلى حرية الرأي والفكر والعمل.

وهو يذكر تونس بكل خير، ويعترف بأنه خرج منها والعيشُ رغيد، والإخوان في مصافاة، ولا شيء في كلامه مما يروِّجه الحاقدون من إساءات. ويؤيد هذا: ما أشار إليه الشيخ الفاضل ابن عاشور عندما ترجم للشيخ الخضر، فقال:

"وبدأ الشيخ يُستهدف لما استُهدف له المصلحون العاملون من قبله من المكائد والسعايات والدسائس، فأصبحت كل حركة تبدو من الطلبة محمولة على حسابه، ونظرته أعين المسؤولين شزراً عندما أعلن طلبة الزيتونة الإضراب عن الدروس سنة (1328/ 1915) باعتباره المسؤول عن ذلك التحرر. وبدأت النقمة تنتابه

إلخ".

ج - لما زرته بالقاهرة، تجاسرتُ وألقيت عليه سؤالاً عن أبيات تُنسب إليه، وهل كانت الحوادث التي تشير إليها دافعاً دفعه إلى الهجرة؟ فضحك رحمه الله ملء شدقيه، وقال: تونس عزيزة، وأهلها كرام، وأنا لا أنساها، ولا أنسى حلو أيامها، وهذا الشيخ الكريم ابن الكرماء -يشير إلى الشيخ الخوجي- يشهد بصدق ما أقول، وبزيف تلك الأراجيف.

ولما خرجنا من عنده، سألت الشيخ الخوجي الكريم ابن الكرماء، فحقق لي أن المناظرة كانت بين رجلي علم، فاز أحدهما باستحقاق، ولم يقع فيها أي حيف.

ولما رجعت إلى تونس، سألت الشيخ الحطاب بوشناق، فحقق لي

ص: 267

أنه حضر المناظرة، وأن الشيخ محمد العنابي برز في إلقاء لدرس وشرحه، ونال إعجاب الحاضرين وإذا كانت المبارزة والمناظرة تقع علانية، فقد أيقن كل الحاضرين بفوز الشيخ العنابي قبل دخول المشايخ النظار للمفاوضة، وقبل التصريح بالنتيجة.

والأبيات -التي أشرنا إليها، والمنسوبة إلى الشيخ الخضر- نشرتها جريدة "إظهار الحق"، وهي جريدة معارضة لصاحبها محمد القبايلي، صدرت سنة (1904/ 1322)، ونصها:

تبّاً لهاتيك النَّظَارةِ أصبحَتْ

كالثَّوْبِ يُطْرَحُ في يَدِ القَصَّارِ

وأناملُ القصّارِ تعملُ مثلَ آ

لاتٍ تُحرِّكُها يدُ النَّجّارِ

والقصار هو قاضي تونس، والنجار هو الشيخ بلحسن النجار كاتبُ سر القاضي وقتَها، والمفتي فيما بعد سنة (1373/ 1953). وقد تحدث عنه الشيخ الخضر بالمدح والثناء عدة مرات.

وكان حدثني شيخي الجليل المرحومُ الحطاب بوشناق برواية أخرى رواها عن الشيخ صالح المالقي، ترجِّح استحقاقَ الشيخ الخضر للخطة، والفوز في المناظرة. وقال: إنه يحفظ أبياتاً تنسب للشيخ الخضر. ومضت الأيام، وعثرت على كنش المنعم الشيخ صالح المالقي، فوجدت به قصة المناظرة، وأنه حضرها، وكان وقتَها مدرساً من الطبقة الأولى، وأنه كان ينتظر فوز الشيخ الخضر؛ لأنه جاد. ثم أورد أبياتاً منسوبة إلى الشيخ الخضر، لكنه لم يجزم بصدورها عنه. والأبيات هي محاورة بين شاوش الوزير-أي: حاجبه-، وبين الشاكي، ثم بين الوزير وأعضاء اللجنة في الاسفسار عن النجاح والخيبة، وأسباب ذلك، وعن تظلم الشاكي. وهي أبيات ضعيفة في نسجها،

ص: 268

ضعيفة في تركيبها، ولا أعتقد أنها من شعر شيخنا -نعَّمه الله-. والوزير المشتكى إليه حينها هو الشيح يوسف جعيط رحمه الله.

* علاقة الشيخ الخضر بالصادقية:

لقد كانت للشيخ الخضر علاقة متينة بالصادقية وطلبتها ونادي قدمائها، لا تقلّ متانة عن ارتباطه بالجامع الأعظم جامع الزيتونة الذي تخرج منه، وبالمدرسة الخلدونية التابعة للجامع، والتي يدرّس بها. لقد انتدب الشيخ الخضر للتدريس بالصادقية، وزامل هناك كثيراً من مشايخ الزيتونة وتخرجت على يديه أفواج عديدة من طلبة الصادقية.

التحق كأستاذ بالمعهد الصادقي سنة (1325 هـ / 1907 م)، وواصل عمله هناك مدة ستة أعوام، ولما سافر في رحلته الأولى -التي أشرنا إليها- تخلف عن الحضور للتدريس مدة طويلة، ولم يعلن استقالته، ولما رجع في 24 نوفمبر سنة 1912 م، أشعرته إدارة المعهد بفصله عن التدريس؛ لتغيبه، ولأنه عوض بغيره؛ خلافاً لما ذكره محفوظ من أنه رجع بعد يومين من افتتاح الدروس، وأن فصله كان لأسباب سياسية.

أما علاقته بنادي القدماء، فهي علاقة حميمية متينة.

وقد ألقى بنادي القدماء عدة محاضرات:

1 -

"الحرية في الإسلام"، ألقاها مساء يوم (17 ربيع الآخر سنة 1324 هـ / 1906 م)، تحت إشراف عضو هيئة النادي العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، الذي ألقى كلمة قيمة عقب انتهاء المحاضرة، وقد طبعت هذه المحاضرة عدة مرات، وهي معروفة متداولة.

2 -

ثم ألقى شيخنا الخضر حسين (1327 هـ / 1959 م) محاضرة أخرى

ص: 269

بنادي القدماء تحت عنوان: "حياة اللغة العربية"، وقد طبعت مرات، ونشر الجانب الشعري منها في ديوانه "خواطر الحياة"، وهو يقول:

لغةٌ قد عقدَ الدّينُ لها

ذمة يكلؤُها كلُّ بَشَرْ

أولمْ تُنسج على مِنوالها

كَلِمُ التَّنْزيلِ في أرْقى سُوَرْ

فأقيموا الوجْهَ في إحيائها

وتلافوا عقدَ ما كان انتثرْ

3 -

وألقى محاضرته الأخيرة على منبر نادي القدماء قُبيل هجرته إلى الشرق سنة (1331 هـ / 1912 م) تحت عنوان: "مدارك الشريعة الإسلامية".

وبهذه المحاضرة ودّع وداع الهجرة إلى الشرق.

ولم تكن رحلته هذه كالأولى بنية الرجوع والعودة إلى وطنه ومعهده وطلبته.

* رحلته إلى الشرق:

ففي سنة (1331 هـ / ديسمبر 1912 م) اعتزم الرحيل والهجرة إلى دمشق محل سكنى إخوته، وأبت زوجته أن تصاحبه، فودعها قائلاً:

قالَ يومَ الوداعِ وهو يُعاني

سكرةَ البينِ: ليتني ما عَرَفْتُكْ

وبدمشق سكن مع إخوته، وباشر التدريس بأبرز معاهدها العلمية، خاصة الجامع الأموي، وهناك ناله الأسى، واتهم سياسياً، وسجن وحوكم، ثم ظهرت براءته، وخرج من السجن يشكو ضياع فترة من العمر لم يمسك فيها القلم:

غلَّ ذا الحبسُ يدي عنْ قلمِ

كان لا يَصْحو عن الطِّرْسِ فناما

وعاد إلى نشاطه العلمي المعرفي حتى دير للعمل بتركيا، فارتحل إليها،

ص: 270

وأوفدته إلى ألمانيا في مهمة. وهناك اتصل ببعض الأحرار من التونسيين، وعانى معهم مشقة الغربة، والسعي لتحرير الوطن بكشف عيوب أعدائه. وإثر انتهاء الحرب العالمية الكبرى عاد إلى دمشق، وعاد للتدريس، وانتخب عضواً بالمجمع بها مع الأستاذ حسني عبد الوهاب سنة (1338 هـ / 1919 م).

ولما دخلت فرنسا إلى سورية، وكانت من نصيبها عند قسمة تركة الرجل المريض المنهار المغلوب، هاجر صاحبنا إلى القاهرة سنة (1339 هـ / 1920 م)؛ لأن مصر لا علاقة لها بالدولة التي تستعمر بلاده تونس. وهو يقول في كلمة الإهداء لكتابه "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم":"وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وأخذت البلاد العربية والتركية هيئة غير هيئتها، هبطت مصر".

في مصر، وفي القاهرة المعزية، اشتد ساعدُه المعرفي، وتعددت نشاطاته العلمية الثقافية، وتمتنت صلاته برجال العلم والأدب، وتفرغ لكل ذلك، وابتعد عن المغامرات السياسية وأهوالها ومصائبها.

ولما راوده الحنين إلى دمشق وساكنيها من إخوته، قال:

يقولُ: تقيم في مِصْرٍ وحيداً

وفَقْدُ الأُنْسِ إحدى الموتتَيْنِ

ألا تحدو المطيَّة نَحو أرضٍ

تعيدُ إليكَ أنسَ الأسْرتَيْنِ

وعيشاً ناعماً يدعُ البقايا

من الأعمارِ بِيضاً كاللُّجَيْنِ

فقلتُ له: أيحْلو لي إيابٌ

وتلك الأرضُ طافحةٌ بغَيْنِ

وهكذا حكم على نفسه بالابتعاد عن كل أرض تحكمها فرنسا، ولو كانت مسقط رأسه، ولو كانت عائلته بها.

وهكذا استقر نهائياً بمصر التي أثمر بها زرعه، وكثر عطاؤه، وعرف

ص: 271

بها الناس مقامه حتى تربَّع على عرش العلم بتوليه مشيخة الأزهر، وهذه فترة طويلة يصعب الحديث عنها في صفحات قليلة.

واخترنا -كما اختار هو من قبلنا- الجانبَ العلمي الثقافي في الفقه والنقد والدراسات، تاركين الحديث عن نشاطه الأدبي والشعري والاجتماعي والصحفي، وبالأخص السياسي، إلى فرصة أخرى قد تسنح أو لا.

وهذه الناحية التي اخترناها لإبراز شخصيته هي أبرز نواحي حياته، تصور لنا أكبر ما بلغه هذا العالم الجليل من علو كعب في ميادين العلم والمعرفة، ومن إخلاص في الذود عن الدين واللغة العربية.

* الشيخ محمد الخضر الفقيه الناقد:

نحن نعلم أن الأديب أو الشاعر تتواجد داخلَه مَلَكَة النقد، فهو يسعى لنقد ذاته وأعماله وآثاره، وما يخطه قلمه معبراً عن وجدانه، يعمل جاهداً حتى لا يبعث بنتاجه يسعى بين الناس دون أن يغربله ويصفيه وينقيه، وإن لم يفعل، هزلت ثمرته، وتدنت، وأعرض عنها الناس.

وكذلك العالم الفقيه يعيش بين صحفه وأوراقه وكتبه، يفحص وبحقق ويدقق، ثم يكتب، لكن ملكة النقد عنده تبعث فيه الإحساس والشعور بمتطلبات الكمال والإبدل، والهروب من مطبات الأخطاء وهزيل الرأي. وهو لذلك يربو بنفسه عن الانزلاق والانحراف، ولا يرضى ذلك لغيره، بل يسعى لإنقاذ الآخرين من السقطات والهفوات والانحرافات.

والفقيه العالم الأديب المحقق صاحبُ الشعور الصادق، له مبادئ دينية ومقاييس علمية تسري مع دمه، وتسيطر على أفكاره وآرائه واتجاهاته، تنير طريقه، وتوضح سبل سيره. وإذا شعر يوماً بمن يهاجم تلكم المبادئ،

ص: 272

أو يسعى لإفساد تلكم المقاييس، ثارت ثائرته، وفزع إلى قلمه وقرطاسه؛ كما يفزع المقاتل إلى سيفه ودرعه يردُّ صولة كل صائل، ويدفع دفاعاً شرعياً هجمةَ كل مهاجم.

وهكذا كان شيخنا رحمه الله في مختلف مراحل حياته، يثور كلما مُسَّت مبادئُه، حتى جمع له الناس ملفات قضايا كان فيها فارساً مغواراً، يكرُّ ويهاجم بقلمه ولسانه.

ونشير إلى بعض هذه الملفات؛ لأن آثارها هي آثاره الخالدة الدالة على الرجل وقيمته العلمية المميزة.

* قضية علي عبد الرازق:

في خلال سنة (1344 هـ / 1925 م) أُثيرت قضية فكرية سياسية بمصر، ترافَع فيها علماء أجلاء، وتراشق كتّاب مميّزون، وكئر اللّغط حولها في الصّحف المحترمة يومَها؛ مثل: مجلة "المنار"، ومجلّة "الهداية الإسلامية"، وصحيفة "السّياسة" الأسبوعيّة واليوميّة.

وكنّا -معشر الطّلبة- حينها نتلقف أخبارها، ونتنسّم شذى جديدها بلهفة وحرص، مدفوعين بعوامل متعدّدة ووطنيّة وسياسية.

ووجد بعضهم فرصته السانحة لترويج الجرائد المصريّة، خاصة جريدة "السياسة" الأسبوعية، وإيصالها إلى المتشوقين المتلهفين لأخبارها، وبيعها فورَ وصولها لتونس.

تلك هي قضية علي عبد الرازق أحدِ علماء الأزهر، والقاضي الشرعي بمحكمة المنصورة الابتدائية الشرعية؛ فقد ألف كتاباً سماه:"الإسلام وأصول الحكم".

ص: 273

شارك في هذه المعركة شيخنا الجليل محمد الخضر حسين مشاركة واعدة فاعلة ومؤثرة.

والواجب يدعونا إلى أن نشير إشارة عابرة إلى هذه القضية، وإلى دور شيخنا فيها، وما ألفه وكتبه عنها، وهو مؤلَّف نصنفه في الرتبة الأولى من تآليفه وكتاباته. وفي ذلك تسجيل وتأريخ للحركة الفكرية المصرية، في غضون عهد الملوكية والاحتلال الإنجليزي، والاتجاهات السياسية في ذلكم العهد.

في 3 مارس سنة 1924 م ألغى نظامُ البلاد التركية الثائر بقيادة أتاتورك الخلافةَ الإسلامية، بعد أن أعلنت الجمعيّة الوطنيّة التركيّة المنعقدة بأنقرة يوم (19 أكتوبر سنة 1924 م) النظام الجمهوري، فبادر رئيس الجمهورية مصطفى كمال باشا بإلغاء الخلافة.

وتأثّر العالم الإسلامي لهذا الأمر الجلل، وسعى رجاله ومفكروه إلى إيجاد حل لهذه المشكلة، وشارك في ذلك من تونس: الزعيم الثعالبي، والأستاذ أحمد توفيق المدني، والشيخ علي كاهية، والشيخ سليمان الجادوي، والأستاذ الطيب بن عيسى. وتهيأ أفرادٌ للجلوس على عرش الخلافة الشاغر، منهم: ملك مصر عهدئذٍ أحمد فؤاد. ووقع التحرك سريعاً لإنجاح مسعاه، وأقيم مؤتمر إسلامي، وأصدر مجلة تحمل اسم:"الخلافة الإسلامية"، ودعا بعض الكتاب إلى وجوب مبايعة خليفة مكان الخليفة المخلوع الذي أزاحه كمال أتاتورك عن عرش الخلافة.

وكان الظرف السياسي ساعتها بمصر ضد حزب الأغلبية حزب الوفد الذي فاز في الانتخابات، فأمر الملك فؤاد بحل البرلمان، وأقصى زغلول

ص: 274

باشا عن الحكم برغم متانة علاقته بالشعب.

واتّحد حزب الأحرار الدستوريين مع حزب الاتحاد، وتشكّلت وزارة برئاسة زغلول باشا؛ للوقوف مع الملك في وجه المد الوفدي الذي يتمتع بحب الشعب.

في هذا الجو المكهرب أصدر أحد شيوخ الأزهر من مناصري حزب الأحرار الدستوريين، من عائلة أصيلة ميسورة تناصر ذلك الحزب، وتشد أزره، وهو الأستاذ الشيخ علي عبد الرازق

أصدر كتابه: "الإسلام وأصول الحكم".

والكتاب موجه في تحريره ونقده أولاً وبالذات لمحاربة فكرة تنصيب فؤاد على العرش عرشِ الخلافة لعدة أمور، منها: أنه غير مؤهل دينياً وعلمياً وثقافياً ووطنياً لهذا المنصب، ثم لأن الإنجليز يناصرونه ويؤيدونه، ولهم غاية في هذه اللعبة السياسية ضد الإسلام والمسلمين، وكان موضوع الكتاب: الخلافة وموقعها الديني والسياسي، وسندها من التشريع الإسلامي. وثارت عاصفة هوجاء، وأتت على الائتلاف الحاكم، وخرج الأحرار الدستوريون من الوزارة.

يقول الشيخ علي عبد الرازق في كتابه هذا "الكتاب الأول، الباب الثالث، الفقرة الثامنة وما بعدها":

"من الطبيعي عند المسلمين الذين يدينون بالحرية رأياً، ويسلكون مذاهبها عملاً، ولا يألفون إلا الله ربّ العالمين، ويناجون ربهم بذلك الاعتقاد في كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل في خمسة أوقاتهم للصلاة.

من الطبيعي أولئك الأباة الأحرار أن يأنفوا الخضوع لرجل منهم أو من

ص: 275

غيرهم، ذلك الخضوع الذي يطالب به الملوك رعيتهم؛ خضوعاً للقوة، ونزولاً على حكم السيف القاهر.

والغيرة على الملك تحمل الملك على أن يصون عرشه من كل شيء قد يزلزل أركانه، أو ينقص من حرمته، أو يقلل من قدسيته. وقد يصبح الملك وحشاً سفاحاً، وشيطاناً مارداً إذا ظفرت يداه بمن يحاول الخروج عن طاعته، وتقويض عرشه، وقد يصبح عدواً لدوداً لكل بحث، ولو كان علمياً، إذا تخيل أنه قد يمس قواعد ملكه" انتهى النقل.

وبالرغم من أن الكتاب له وجهة وغاية سياسية، إلا أن صاحبه ضمَّنه أفكاراً رأى ناقدوه أنها خارجة عن اللياقة والكياسة، ووُجِّهت له تهم متعددة، نلخصها فيما يلي:

أ - جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية خالصة، لا ارتباط لها بأمور الدنيا وشؤونها.

ب - إنَّ جهاد الرسول عليه الصلاة والسلام كان في سبيل اتساع نفوذه، لا في سبيل الدعوة إلى الدين وإبلاغه.

ج - إنَّ نظام الحكم في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كان غامضاً مبهماً موجباً للحيرة.

د- إنّ حكومة أبي بكر رضي الله عنه والخلفاء من بعده كانت لا دينية.

وكان التعبير الأخير موجباً لإثارة الغضب عند كافة الناس.

وظاهر أنّ المؤلّف لم يقصد أنّها كانت لائكيّة لا تدين بدين. لكن التعبير كان فيه تهوّر، ولو أنه لم يكن مقصوداً.

والإمام محمد عبده زعيم حركة الإصلاح عالج من قبل هذه النقط

ص: 276

المثارة من علي عبد الرازق، وأبدى رأياً فيها، وظهر أن الشيخ علياً تقفى خطاه، لكن بأسلوب فيه بعض العنف.

فالإمام عبده يقول (عن كتاب "الإسلام والنصرانية" طبعة ثانية ص 70 - 71):

"الأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصب الخليفة، والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت مصلحة في ذلك. ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه تيوكراتيك (theocratique)؛ أي: سلطة إلهية، فإن ذلك عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة، وله في رقاب الناس حق الطاعة لا بالبيعة، وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة، بل بمقتضى حق الإيمان".

وهو يقول: ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير من الشر، وهي قوة أو سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم.

وهو يشرح طرح الاجتهاد، وحرية الرأي والفكر؛ إذ يقول: ولا يجب على المسلم أن يأخذ عقيدته، ويتلقى أصول ما يعمل به عن أحد إلا عن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله، بدون توسيط أحد من سلف أو خلف، وإنما يجب عليه -قبل ذلك- أن يحصل من وسائله ما يؤهله للفهم؛ كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها، وأحوال العرب، خاصة في زمان البعثة، وما كان الناس عليه زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي، مع معرفة النّاسخ والمنسوخ من الآثار،

ص: 277

فإن لم تسمح حاله بالوصول إلى ما يعد لفهم الصواب من الكتاب والسنّة، فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما.

وله، بل عليه أن يطالب المجيب بالدليل على إجابته، سواء كان السؤال في أمر الاعتقاد، أو في حكم عمل من الأعمال، فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية من الوجوه" انتهى النقل.

وحوكم علي عبد الرازق من هيئة العلماء، ومن مشيخة الأزهر، وجُرِّد من وظائفه، حتى من خطة القضاء الشرعي.

هذا من النّاحية الرّسمية والعلمية والجامعية.

أما من ناحية الباحثين النقاد الذين هم بالمرصاد، فقد تصدى للرد عليه جماعة من علماء مصر، ومن بلدان إسلامية أخرى، منها: تونس.

فقد جَرَّد شيخنا الخضر قلمه، ورد بكتاب في حجم كتابه، به دراسة قيمة علمية نقدية تستند إلى الحجة والدليل والمراجع:"نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم".

وأفضل تقديم لهذا الكتاب هي مقولة لناقد أديب باحث عالم يظهر أنه منحاز للشيخ علي عبد الرازق يدافع عنه، لكن ذلك لم يمنعه من تحبير هذه المقولة في حق الشيخ الخضر.

يقول الأستاذ محمد عمارة في كتابه:

إن أجود دراسة فكرية كتبت ضد كتاب "الإسلام وأصول الحكم" هي التي كتبها الشيخ محمد الخضر حسين، وأخرجها في كتاب عنوانه:"نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم".

ص: 278

وهذه الشهادة من باحث متبصر يمكن لنا أن نقول عنها: والحق ما شهد به الخصوم.

وإنّي أحقّق أنّ الشيخ الخضر كان في مؤلفه هذا مثالاً للعالم المحقق ذي الخلق الرفيع، يقرع الحجّة بالحجّة، ويرد الدّليل بالدّليل، ولا يُسِفُّ في تعبيره، ولا يخرج عن حدود النقد النزيه المدعم. وقد رأينا أنّ أحد مناصري الشيخ علي عبد الرازق يقرّر علوّ نقد الشيخ الخضر، وتماسكَ أجز الله، وتعمقه، وترابطَ ردوده، وسموها.

وكأنّه -برّد الله ثراه- أراد أن يترك مؤلفاً علمياً لا لغو ولا غث به يخدم العلم والفكر، فكان له ما أراد.

وللحقيقة والتّاريخ، فإن كتاب الشيخ الخضر هو شرح وإيضاح ونقد لكتاب الشيخ علي عبد الرازق، يبيّن غموضه، ويوضح عيوبه، ويكشف هفواته وزلاته، ويحاول إصلاحها.

كنت يوماً أطالع كتابَي الشيخين: عبد الرازق، والخضر، إذ دخل عليّ شيخ من شيوخي أستاذ لي، وقال: إنك تجمع بين النار والماء. فقلت: لعلّ هذا يخفّف من حدّة تلك.

والشيخ علي عبد الرازق واحد من أسرة فضل وعلم لها مجد تالد، منها: عبد الرازق باشا الكبير الذي وقف على قبر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده راثياً، مع خمسة من أقطاب مصر، منهم: حفني ناصف الذي راسل فيما بعد حافظ إبراهيم قائلاً:

أتذكرُ إذْ كنّا على القَبْرِ ستّة

نعدّدُ آثارَ الإمام ونخطبُ

حتّى يقول:

ص: 279

أبو خطوة ولى وقفّاهُ عاصمٌ

وجاءَ لعبد الرازق الموت يطلبُ

ومن أسرة عبد الرازق: الشيخ مصطفى بن حسن بن عبد الرازق، وهو باحث فقيه أديب، وزير للأوقاف، شيخ للأزهر، درس بفرنسا وبمصر، وله مؤلفات مطبوعة.

ومن الذين تصدّوا للرد على كتاب "الإسلام وأصول الحكم": شيخنا الجليل علامة تونس محمد الطاهر بن عاشور الذي ألّف كِتاباً صغيراً سمّاه: "نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم"، طبع بالقاهرة بالمطبعة السلفية سنة (1344 هـ / 1925 م). وهو لم يفعل كصاحبه وصديقه الشيخ الخضر، ولم يمسك بتلابيب الشيخ عبد الرازق، بل إنه ردّ عليه رداً جميلاً لطيفاً، مفنّداً بعض مزاعمه، شارحاً بعض مواقفه، وموافقاً لبعض المقولات مع تقويم مقوماتها. فهو يشرح -مثلاً- موقف الشيخ عبد الرازق من الخلافة شرحاً دقيقاً، فيقول: إن الخلافة ظهرت صدر الإسلام في أجلى مظاهرها، ثم أخذت تتضاءل من عهد الخليفة الرابع، فلم تزل في تضاؤل وتراجع، ومرض وسلامة إلى أواسط الدولة العباسية، واستمرّ خروج الخارجين حتى بلغت إلى حد صارت به بقية اسم يورث، وليس لصاحبها من الحط إلّا الدّعاء فوق المنابر؛ كما قال ابن الخطيب في "رقم الحلل"، وصار اللّقب مجازاً لا حقيقة، إلّا أنّه مجاز سوغته علامة اعتبار ما كان، ولو أريد إعطاؤه من أوّل الأمر على تلك الحالة، لما كان، إذ كيف يمنح هذا اللقب لمن يكون على تلك الحالة بعد منحه كحالة قبله، وما يستطيع أن يفعل إذا كان أعزل عن كلّ قوّة؟ وهل يستطيع بالألقاب اللّفظية أن ينجو من الهوة؟ وكيف يطمع في ذلك من لا يدفع عن نفسه، ولا يكون غده أفضلَ من أمسه؟ أليس إيجاد هذا المنصب

ص: 280

السامي من باب الجاد الموهوم؛ كما تحاول جمعيات الخلافة اليوم؟ ولا أحسب هذا يشتبه على من له حظّ من العلوم" انتهى النقل.

وجَلِيٌّ: أن كلمات الشيخ ابن عاشور كانت مقنعة وكافية، لو أخذ بها الشيخ عبد الرازق في كتابه.

ورسالة الشيخ ابن عاشور هذه من أفضل ما كُتب في هذا الموضوع من رجل محقق يصيب هدفه دون عنف، بل يدفع بالتي هي أحسن، فتكون الغلبة له، والنصر حليفه.

ولا تحسبن الشيخ الخضر بعيداً عن بعث هذه الرسالة العاشورية، فهي لصديقه الحميم الحبيب، طبعَها هو في مطبعة صديقه الآخر محبِّ الدين الخطيب.

ولم يقف الأمر بالشيخ الخضر عند هذا الحدّ، فقد شجع شيخاً آخر من تونس أحد أصدقائه الخلص على أن يخوض هذه المعمعة والمعركة الفكرية، وهو فقيه عالم جليل، شيخُنا محمد البشير النيفر، المدرسُ، والإمام الخطيب المفوه، الذي صدر له أخيراً كتاب قيم به تراجم لأعلام أسرته، وقد حقّقه ونشره صديقنا القاضي الأستاذ محمد المختار النيفر.

شارك شيخنا محمدُ البشير النيفر بدراسة قيمة جامعة ألقاها بجامع أبي محمد في رمضان سنة (1344 هـ / 1925 م) تحت عنوان: "عبادات ونظم اجتماعية"، نقل فيها فقرات طويلة من كلام الشيخ علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، ولم يذكر اسمه، وقفّى ذلك بتنفيذ ما جاء بها.

وهي دراسة طويلة نشرها صديقه وصفيُّه شيخُنا الخضر في مجلته مجلة

ص: 281

"الهداية الإسلامية" عدد 104 سنة (1347 هـ / 1928 م)، وأثنى على صاحبها ثناء جميلاً.

ونجد الشيخ الخضر يعرض بمواطنه وبلديّه الزعيم الشيخ الثعالبي، وينتقده، وذلك بنشره لرسالة كتبها ناقد ضدّ تصريحات للثعالبي تناصر في نظره الشيخ علي عبد الرازق.

والشيخ الثعالبي صديق حميم لعائلة عبد الرازق، وللأحرار الدستوريين، ولمّا سأله صحفي بالعراق، أجابه إجابة استفاد منها الكاتب: أنها تناصر آراء كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، مع أنّها -في الواقع- كانت تناصر حريّة الرّأي، وحقّ الصّدع به. فتلقّفتها مجلة "الهداية الإسلامية"، ونشرتها في عدد 9 سنة (1348 هـ / 1929 م). ونشرُها دليل على الرضاء بما جاء بها من نقد لاذع لا يقوم في نظري على أساس متين، بل أقرب إلى الأسلوب الخطابي المهاجم.

وعلى كلٍّ، فهذه التصريحات بالعراق، ونقدها بمصر تجعل الزعيم الثعالبي مشاركاً في هذه المعركة الفكرية الحادّة، حتى ولو لم يقصد هذه المشاركة.

وقد شاركت جريدة "الصواب" التونسيّة في ذلك التاريخ بمقال تدافع به عن حرية الرأي، وتناصر ما ذهب إليه الزعيم الثعالبي، فتقول: هذا التحامل على الكتاب وصاحبه هو لنيل رضا نواح معينة ذات مطاعم في تبوُّء منصب الخلافة.

وهو مقال طويل يشارك به قلم آخر من تونس دفاعاً عن حرية الرأي، وإن لم يخض في صلب الموضوع، فهو يناصر شقاً، ويقف في الصفّ المقابل

ص: 282

لصفّ شيخنا الخضر.

وقد كان شيخنا الخضر بالمرصاد لكل من تحدثه نفسه بالخروج عن المبادئ السليمة التي آمن بها، ولذا فقد ألف كتابه الآخر:"نقض كتاب في الشعر الجاهلي" رداً على طه حسين.

وكان كتابه هذا -أيضاً- من أحسن ما كُتب في الردّ على طه حسين، الذي اعترف بأنّ كتاب الشيخ الخضر أهم الردود، وأشدّها حجّة ضدّه؛ كما نقل عنه ذلك الشيخ الفاضل ابن عاشور.

وقد كتب شيخنا محمد الخضر نقداً آخر لطه حسين يرد به على البحث الذي قدّمه في مؤتمر المستشرقين بجامعة أكسفورد تحت عنوان: "حقيقة الضمير الغائب في القرآن"، وهو يقول في ردّه:

إنّ المحاضرة كانت طائشة الوثبات، كثيرة العثرات، وإنّ المحاضر وضع لمحاضرته أساساً خرباً، فكان ما بناه عليه متداعياً للسقوط متخاذلاً.

على أن الشيخ محمد الخضر لم يكف عن ملاحقة الشيخ علي عبد الرازق، وصد حركاته، والرد عليه كلما ظهر له نشاط علمي.

فقد نشر الشيخ علي عبد الرازق سنة (1346 هـ / 1927 م) مقالاً في جريدة "السياسة" الأسبوعية عرّض فيه بالأشخاص الذين يتمسحون بالأعتاب، ويعظمون بعض أصحاب السلطة والنفوذ، وقال: إن الرسول الكريم - عليه أفضل الصلاة والتّسليم - لم يكن ملكاً، ولا ثرياً، ولا فيلسوفاً، ولا فاتحاً عظيماً، ولا مخترعاً، وإنما تبدو عظمته في كلمة التوحيد: لا إله إلا الله.

فرد عليه الشيخ الخضر بمحاضرة تحت عنوان: "العظمة" ألقاها بعد شهر واحد من ظهور مقال الشيخ علي، وطبعت عامها بالمطبعة السلفية

ص: 283

لصاحبها صديقه وصفيِّه محب الدين الخطيب.

وممّا شمله نقد الشيخ الخضر "كتاب الحدّاد عن المرأة"(1)؛ فقد نشر دراسة عنه في مجلة "نور الإسلام" التي يرأس تحريرها سنة (1349 هـ / 1630 م).

ثمّ نشرت هذه الدراسة في كتاب "بلاغة القرآن" المطبوع سنة (1391 هـ / 1971 م).

وهو رحمه الله يتابع ما يكتب في جريدة "السياسة" الأسبوعيّة صحيفة حزب عبد الرازق، وإن عثر بها على رأي مخالف، انتقده وفنّده.

ففي فاتح سنة (1356 هـ / مارس سنة 1937) نشر في مجلة "الهداية الإسلامية" نقداً علميّاً معمّقاً يردّ به على مقال لأحد العلماء يتعلّق بالحدود في الإسلام.

وقبل ذلك، وفي سنة (1349 هـ / 1930 م) صدر كتاب "الهداية والعرفان في تفسير القرآن"، مؤلفه الشيخ محمد أبو زيد الدمنهوري، فنقده الشيخ الخضر نقداً طويلاً جامعاً، يعدّ -بحقّ- من المراجع العلميّة، أثرى به المكتبة الفقهيّة الإسلاميّة.

وهكذا واصل رحمه الله عمله الثقافي والنقدي اللغوي، يبذل الجهد، ويواصل العطاء دون كلل. ولم يتخل عن حضور جلسات المجمع اللغوي حتى وافته المنية، واختاره الله لجواره منذ أربعين عاماً، وذلك يوم الأحد (13 رجب الأصب سنة 1377 هـ الملاقي 2 فيفري سنة 1958 م)، ودفن

(1) كتاب "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" للطاهر الحداد.

ص: 284

بمقبرة آل تيمور بالقاهرة حسب وصيته، رحم الله هذا الرّجل العظيم العالم الجليل الذي أحببناه كما أحبّنا، وها نحن أولاء نعدد بعض محاسنه وآثاره العلمية في ذكرى وفاته الأربعين، (رمضان 1418 هـ - 1998 م).

محمود شمام (1)

(1) من كبار القضاة في تونس، وكاتب إسلامي معروف.

ص: 285