الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها
(1)
من علماء الدين رجالٌ اطلعوا على أسرار الشريعة، فأنشؤوا يبثّونها في صور مختلفة، وُيشربونها القلوبَ بلسان يوافق الأذواق العصرية، ومن هذه الفئة الفاضلة: السيد محمد الخضر بن الحسين، من مدرسي الجامع الأعظم في تونس سابقاً، فقد اعتاد هذا الأستاذ أن يلقي محاضرات يبيّن فيها حكمة الشريعة، ينشرها في كراسات خاصة يبثّها بين جميع الطبقات. وآخر محاضراته التي ألقاها في تلك العاصمة رسالة في "مدارك الشريعة الإسلامية وسياستها" أفاض فيها من حكمة التشريع والشراع وتقسيمها، ومنابع الشريعة الإسلامية، والإسلام دين وسياسة، واختلاف المذاهب وانتشارها، وطبقات الفقهاء، والفقهاء والأمراء، كل ذلك بعبارة منسجمة تجمع إلى الطلاوة متانة، وهاك نموذجاً مما قاله في اختلاف المذاهب:
كره الشارع التفرقَ في الآراء، وندب الأمةَ إلى الوفاق بقدر ما يمكنها، ولكنّه يعلم أن تماسكهم وسيرهم في جميع الأحكام على مذهب واحد غيرُ ميسر لهم، فأذن لهم -بعد بذلهم الوسع في اتفاق الرأي- أن تأخذ كل طائفة بما استقرت عليه أفهامهم، ولا يضرّهم -متى تمكنوا في صناعة تقرير الأحكام، واستوفوا شروطها- أن لا يصيبوا وجه الحق في الواقع، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم
(1) مجلة "المقتبس" - دمشق المجلد الثامن (ص 310 و 311).
الحاكم، فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، فأخطأ، فله أجر"، وأطلق الشارع للعقول عنانها في الاجتهاد؛ ليفتح لها المجال في النظر، ويربيها على مبدأ الاستقلال بالرأي، حتى لا يستولي عليها التقليد من جميع جهاتها، فيتخللها الجمود، ويصبح الفرق بينها وبين العقول المتصرفة كالفرق بين الماء الراكد في حمأ، والماء المنهمر على الصفا لا يمازجه كدر.
ومن شعر بهذه الحكمة، لا يمكنه الغض من جانب علماء الإسلام، حيث أفضى بهم الاجتهاد إلى الاختلاف، بل هذا مما يجر إلى الاعتراف بمزيتهم، ويبرهن على أنهم نشؤوا على مبدأ البحث واستقلال الفكر، ولو أنهم كانوا بعقول خامدة، وإرادة ميتة، لاتبعوا ما يفتي به أولُ فقيه منهم، وتسلموه بتقليد.
وبعدَ أن أبان الوجوه المتعددة التي تدعو المجتهدين إلى الخلاف، قال: ولو أن أهل الإسلام استمروا على تأليف الجمعيات العلمية؛ لتحرير أحكام الحوادث، واستخلاص الحقيقة من الآراء المتلاقية، لالتأمت عدة خلافات حقيقية، وسقطت أقوال كثيرة من حساب مسائل الخلاف، وقد كان للسلف اهتمام بجمع العلماء في المسائل المشكلة؛ فقد نقل الحافظ ابن عبد البرّ عن المسيب بن رافع: أنه إذا جاء الشيء من القضاء ليس في الكتاب، ولا في السنّة، رُفع إلى الأمراء، فجمعوا له أهل العلم، فما اجتمع عليه رأيهم، فهو الحق اهـ.