الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مذكرات شيخ الأزهر
(1)
الأوراق الخاصة بشيخ الأزهر التونسي محمد الخضر حسين انتقلت إلى دار الكتب والوثائق؛ لتزيح عنها التراب، بينما تنفرد "روز اليوسف" بالاطلاع على المذكرات التي تؤرخ لمعارك مهمة في تاريخ هذا الوطن.
من الأوراق الكثيرة التي يصل عددها إلى الآلاف، كان لابد أن ننتقي الأهم.
وأوراقه تقول: إنه ولد في تونس في الثلث الأخير من القرن قبل الماضي، وتلقى العلم في جامع الزينونة الذي كان الجامعة الإسلامية الثانية بعد الأزهر.
ثم تولى القضاء في مدينة "بنزرت" التونسية، وهو يسجل هذا في مذكراته قائلاً:"في شهر ربيع الآخر سنة 1323 هجرية، وهو يوافق 1902 ميلادية، عُينت قاضياً لمدينة "بنزرت" وملحقاتها، وقد أصدر المرسومَ محمد الهادي باشا باي صاحبُ المملكة التونسية -سدد الله تعالى أعماله، وبلّغه آماله-".
(1) مقتطفات نزيهة وشريفة اخترناها من تحقيق صحفي نشرته مجلة "روز اليوسف" في العدد 3778 تاريخ 10/ 11/ 2000 م القاهرة؛ لما فيها من أهمية ذكرها الإمام محمد الخضر حسين بنفسه. وصرفنا النظر عن فقرات أخرى لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وهي من نسج خيال وتصورات وأوهام المجلة.
وكما هو واضح، فقد كان الشيخ يملك طموحاً كبيراً تعجز تونس عن استيعابه، لذلك أدرك أنه لابد من الهجرة إلى الشرق، وخاصة أنه كان يعارض الاحتلال الفرنسي بشدة، ويعتبر السلطان العثماني هو صاحب الولاية الشرعية على بلاد المسلمين.
ولذلك اختار أن يسافر إلى دمشق التي كانت لا تزال في قبضة الوالي العثماني الصارم جمال باشا، وكان يحكمها باسم السلطان العثماني.
والأكيد أنه لعب دوراً أساسياً لصالح تركيا وألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وهو ما جعل الفرنسيين يطلبون رأسه، ويحكمون عليه بالإعدام عقبَ سفره من تونس، ثم يكررون الحكم عقب استيلائهم على دمشق في 1916 م.
ومن الواضح أن حياته في دمشق لم تكن سهلة؛ فقد تعرض هناك للاعتقال، وإن كان قد حقق ما أراد من الالتحام بالحركة السياسية في المشرق العربي.
لكن الجزء الأهم من أوراق شيخ الأزهر هو ذلك الذي يروي فيه سفره لألمانيا بعد سقوط "الآستانة" في يد قوات الاحتلال بثلاثة أيام. وهو يذكر علاقته بعدد من الساسة المصريين الذين كانوا وقتها رجال السلطان العثماني، قائلاً: "في سنة (1333 هـ 1915 م) سافرت إلى الآستانة بطلب من وزارة الحربية، وقابلت أنور باشا، وتقرر سفري إلى ألمانيا، فسافرت يرافقني أحد الضباط الألمانيين، ومررنا على رومانيا، والنمسا حتى وصلنا إلى برلين، ووجدت في المحطة الشيخ عبد العزيز جاويش، والدكتور منصور رفعت، ونزلت المنزل الذي به الشيخ جاويش، والشيخ عبد الرشيد إبراهيم، وقابلت
سفير الدولة العلية إبراهيم حقي.
ثم ذهبت إلى وزارة الخارجية، وقابلت بعض موظفيها، ثم ذهبت إلى إدارة الاستخبارات الشرقية، ولقيت هناك الشيخ أحمد والي أخا الشيخ حسين والي، وكان مدرساً للغة العربية في جامعة برلين.
وأقمت في برلين عشرة أيام، وذهبت بعدها يصاحبني مدير إدارة الاستخبارات الشرقية إلى قرية تبعد عن برلين مسيرة نحو خمسين دقيقة في القطار، يقال لها "ويزندورف"، وبقرب من هذه القرية محلُّ أسرى الحرب التونسيين والجزائريين والمراكشيين (1)، ودخلت محل الأسرى، ورأيت بينهم كثيراً ممن كنت عرفتهم في تونس والجزائر، وأقمت في نُزُل بهذه القرية نحو شهرين، أتردد خلالها على برلين، ثم انتقلت إلى الإقامة في نفس برلين، وصرت أذهب منها إلى قرية "ويزندورف" في الأسبوع مرتين أو ثلاثة".
وفي جزء آخر من أوراقه عن أيامه في ألمانيا يقول: "وكنت ألاقي في إدارة الاستخبارات الشرقية كبير المستشرقين "نفرتمن"، وكان قد أنكر على الحكومة الألمانية موافقتها لتركيا على إعلان الجهاد الديني، ووجدت بينه وبين الشيخ صالح الشريف مناقشات في هذا الشأن.
وأخذنا نتحدث عن الفرنسيين، فأثنى على أخلاقهم، وقال: إن فيهم
(1) لم يذكر الكاتب -قصداً وعن سوء نية- المهمة الجهادية الكبرى التي قام بها الإمام محمد الخضر حسين في ألمانيا، وهي الاتصال بالأسرى المغاربة لتنظيمهم وعودتهم إلى المغرب لمحاربة الاستعمار الفرنسي. (راجع: كتاب "جبهة الدفاع عن إفريقية الشمالية"، وفيه المشاهد الرافعة لنضال وجهاد الإمام محمد الخضر حسين).
أصدقاء، وإنما رجال السياسة هم الذين يحملون العداوة لألمانيا".
إن الشيخ -وكما روى في أوراقه- عاد من ألمانيا إلى دمشق بعد هزيمة دول المحور، لكن الحال لم يطل به هناك؛ إذ يقول في إحدى أوراقه:"دخلت فرنسا دمشق، وكانت قد حكمت عليَّ في تونس أيام الحرب بالإعدام، فقررتُ التخلص إلى مصر، وسعى الدكتور سعيد الأسيوطي لدى المعتمد الإنجليزي، فأصدر في جوازاً منه إلى مصر".
ثم يروي قصة دخوله مصر قائلاً: "سافرت من دمشق على سكة حديد يوم الاثنين 24 من ذي القعدة 1338 هـ، وبتُّ ليلة بحيفا، واستأنفت السفر من الغد إلى القاهرة. نزلت بالمحطة، ولقيت بها الأستاذ خير الدين الزركلي، وأحمد أفندي عبيد، وبت تلك الليلة في نزل (دار السلام)، وذهبت صباحاً إلى رواق المغاربة، وأجرت غرفة متواضعة بربع في الباطنية.
ثم أخذ التعارف بيني وبين علماء الأزهر يزداد يوماً فيوم، فعرفت الشيخ محمد حسنين مخلوف، والشيخ عبد الكريم عطا، والشيخ محمد شتاكرد، وزرت الشيخ أبا الفضل في الجامع الأزهر، فرأيت منه عطف شيوخ الأزهر الذين يراعون الصلة العلمية، ولا ينظرون بعدها إلَّا إلى الرابطة الإسلامية".
وعندما اشتعلت معركة "الإسلام وأصول الحكم"، شنّ الخضر حسين هجوماً ضارياً على علي عبد الرازق، وألف كتاباً يرد فيه على كتابه. وهو يروي هذه الوقائع في أوراقه قائلاً: "وكنت أزور جعفر باشا والي بالمطريَّة، فأرى منه احتفاءً وحسنَ لقاء. وفي أيام ولايته لوزارة المعارف نُدبت للتصحيح بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية.
وفي شهر محرم سنة 1342 هـ قدمت مذكرة لشيخ الجامع الأزهر الشيخ أبي الفضل أطلب فيها قبولي لأداء امتحان شهادة العالمية الأزهرية، فقبلها شيخ الأزهر، وحولها إلى مجلس الإدارة، فوافق مجلس الإدارة يومئذ على دخولي الامتحان، وعرضت بعد ذلك على المجلس الأعلى للأزهر، وكان الشيخ أبو الفضل يقول: سنعطيك شهادة العالمية الأزهرية، ولكن أحد الأعضاء ممن له رأي في المجلس ذكر للمجلس أنني أشتغل بالسياسة، فرفض الطلب.
وفي سنة 1343 هـ ظهر كتاب "الإسلام وأصول الحكم" للشيخ عبد الرازق، فرأيته قد مشى في غير طريق، وفرغ إلى غير تحقيق، وأخذت أبين غلطاته، وأوجِّه انحرافَه عن قصد السبيل، ولما انتهيت إلى هذا النقد، سميته:"نقص كتاب الإسلام وأصول الحكم"، فطبعته، وكتبت عليه إهداء إلى خزانة صاحب الجلالة ملك مصر فؤاد الأول، ودفعت نسخة منه إلى يد كبير أمناء جلالة الملك، وقابلته في صحبة أحمد تيمور باشا، وتوفيق نسيم باشا، وكان رئيسَ الديوان الملكي، وقدمت إليه نسخة من الكتاب، فقدَّره قدره، ووجدت منه بعد ذلك مودة، وقياماً بحق هذه المودة عند كل مناسبة".
"ظهر في سنة 1343 هـ كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، واتفق أن زرتُ السيد رشيد رضا، فوجدت عنده هذا الكتاب، وقرأته كله، وفهمت مراميه، ورأيت أن فيه آراء خاصة.
فعزمت أن أكتب في مناقشته، وألفت كتابي في "نقض الإسلام وأصول الحكم"، وشرعت في طبعه
…
وكان الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار
المصرية يطلع على كل ملزمة تطبع منه.
والتقيت بالشيخ أبي الفضل شيخ الأزهر في منزل السيد أحمد رافع، وصرت أقدم إليه ما يطبع من بعد. وعرض عليَّ عند قرب انتهاء طبع الكتاب أن أمنح شهادة عالمية الأغراب، فأبيت، وقلت: إني مستعد لامتحان شهادة العالمية الأزهرية، فراجع السكرتير العام الشيخ حسن والي بمحضر، فأظهر صعوبة في ذلك، وتمسكت أنا برفض شهادة الأغراب.
وصدر الكتاب سنة 1344 هـ، وقدمت نسخة من الكتاب لحضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول، وصاحبني عند تسليمها إلى كبير الأمناء ذي الفقار باشا سعادةُ أحمد تيمور باشا. وبعد قليل تولى رئاسة الديوان توفيق نسيم باشا، فقابلته، ودار بيننا حديث يدل على أنه يُعنى ببحث المسائل الفقهية".
"وفي هذه السنة 1347 هجرية، سافر الدكتور طه حسين إلى مؤتمر المستشرقين السابع عشر بجامعة (أكسفورد)، وألقى هناك محاضرة موضوعها: "ضمير الغائب، واستعماله اسمَ إشارة في القرآن"، ونشر في مجلة "الرابطة الشرقية" ملخصَ لهذه المحاضرة، فحررتُ في نقده رسالة بينت فيها خطأه في فهم عبارات علماء العربية بوضوح، ونشرت الرسالة في مجلة "الهداية الإسلامية".
ولما بلغني أن شيخ الأزهر -أعني: الشيخ المراغي- يريد بحث ما كتبه الدكتور طه حسين، زرته، وقدمت له نسخة من المجلة، فأخذ يقرأ ما كتبته إلى أن أتى على آخره، وقال في: ابعث إلى الدكتور نسخة منه، ثم قال: هم يقولون: إن الذي يقدم بحثاً إلى المؤتمر لا يأخذ على عهدته صحته، بل يلقي ما بدا له من الرأي، والمؤتمر يبحثه، ويقرر صحته أو خطأه.
وفي سنة 1348 هـ ألقى الدكتور طه حسين محاضرات، وذهب فيها إلى أن علم البيان العربي مأخوذ من بيان اليونان، فألقيت محاضرات بجمعية الهداية الإسلامية، بينت فيها كيف نشأ علم البلاغة، وتكامل في أحضان علماء العربية تحت ضوء بحثهم في كلام البلغاء وأساليبهم، ونشرت هذه المحاضرات في مجلة "الهداية الإسلامية" -أيضاً- ".
والحقيقة أن أوراق الشيخ الخضر مليئة بالعشرات من المواقف، فهو يروي في أوراقه قائلاً:"وفي 21 ذي القعدة سنة 1350 هـ حضرتُ مجلس النواب الذي حضّر فيه الدكتور عبد الحميد استجواباً موجهاً إلى معالي وزير المعارف حلمي عيسى باشا عن حال الدكتور طه حسين، ومسلكه في الجامعة من جهة الدين والأخلاق، واتفق أن كان هذا أول يوم شهدت فيه مجلس النواب".
وفي موضع آخر من مذكراته يوضح "وفي أول أكتوبر سنة 1929 م صدر إذن ملكي على لسان رئيس الديوان توفيق نسيم باشا إلى شيخ الأزهر بالنيابة للشيخ عبد الرحمن قراعة يندبني للتدريس بالأزهر، فندبت لتدريس آداب اللغة والتاريخ الإسلامي بقسم التخصص".
ويقول الشيخ: "حضرت في حفلتين خطب فيهما سعد باشا زغلول في القضية الوطنية، وكان تأثيره على الجمهور الطامح يومئذ لاستقلال البلاد عظيماً، ولم يتفق لي أن رأيته في غير هاتين الحفلتين، وكان الشيخ عبد العزير جاويش حدثه سنة 1344 هـ عن كتاب "نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم"، ثم خاطبني عن طريق التليفون، وأنا بدار الكتب المصرية، يطلب مني تحضير نسخة من الكتاب لتقديمها للباشا، وقال لي: سآخذ منه موعداً للمقابلة،
وأخبركم، فاحضرت النسخة، ولكن الشيخ جاويش لم يعد لمخاطبتي في هذا الشأن، ولم أسأله بعد".
والأكيد: أنه من الصعب الحكمُ على رحلة عمر طويلة من زاوية واحدة، فالشيخ الخضر كان طموحاً، وكان دائماً على علاقة حسنة بالحكام الذين كانوا يتوسم أنهم سيرفعون راية الخلافة الإسلامية. ولكنه كان -أيضاً- ذا تاريخ مشرِّف في زعامة (جبهة تحرير شمال إفريقية، ومعاداة الاستعمار الفرنسي.
لكن أوراقه تؤكد أنه خاض معارك ضارية، وأن ذلك لم يقتصر على طه حسين، وعلي عبد الرازق، ولكنه امتد ليشمل الشيخ محمود شلتوت الذي أصبح شيخاً للأزهر في الستينات
…
فهو يكتب عن معركته مع الشيخ شلتوت قائلاً: "وفي سنة (1361 هجرية 1940 م) نشر الشيخ محمود شلتوت مقالة في مجلة "الرسالة" تحت عنوان: "الهجرة وشخصيات الرسول"، وأنكرها أهل العلم؛ إذ كان فيها تقويض جانب عظيم من أصول الشريعة الغراء، فكتبتُ في الرد عليه رسالة طُبعت مستقلة بعد نشرها في مجلة "الهداية الإسلامية"، وعنوانها: (نقد مقالة الهجرة وشخصيات الرسول)، ووقعت هذه الرسالة عند العلماء المستنيرين موقع القبول، وأقبلوا على اقتنائها؛ إذ رأوها كافية لرد الشُّبه التي حامت على رأي الشيخ شلتوت".
تحقيق وائل لطفي