الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تونس ملهمة الشعراء محمد الخضر حسين
(1)
ما الأنسُ في أقداح تدورْ
…
ما بينَ حورْ
إنَّ الَّتي تلفحنا في الصّدورْ
…
نارُ الغيورْ
من الشعراء الّذين عشقوا تونس، وتغنّوا بها في كثير من القصائد والمقطوعات، وحنّوا إليها وهم في ديار الغربة، ونارُ الشّوق ملتهبة في نفوسهم، نذكر: محمّد الخضر حسين كما يبدو في ديوانه "خواطر الحياة". طبع الديوان مرّات عديدة بالقاهرة سنة 1946 و 1953 م، وبدمشق سنة 1978 م.
ولد الشاعر بنفطة سنة 1873 م، والتحق بجامع الزّيتونة وهو في الثّانية عشرة من عمره، وتحصّل على الشّهادة العالميّة في العلوم الدّينيّة والعربيّة، كان له نشاط ثقافي وصحفيّ باهر أوّلاً بتونس؛ حيث أصدر فيها مجلّة "السعادة العظمى"، ثم بالقاهرة حين التجأ إليها سنة 1920 م، وأصدر فيها مجلة "الهداية الإسلاميّة"، ورأس تحرير مجلّات عديدة، منها: مجلّة "نور الإسلام"، و"لواء الإسلام". عيّن عضواً بالمجمع العلمي العربي بدمشق، والمجمع اللّغوي بالقاهرة، وتولّى مشيخة الجامع الأزهر سنة 1952 م وتوفّي سنة 1958 م.
(1) كتاب "تونس ملهمة الشعراء" للدكتور أحمد الطويلي.
يتردّد اسم تونس في ديوان "خواطر الحياة" في عدد من القصائد والمقطوعات، منها: موشّح طويل يبثّ فيه أشواقه إلى وطنه تونس، ويرسل تحيّاته إليه، ويثير ذكرياته به، ويخاطب مواقع جميلة:
حيّا ربَى تونسَ ذات الزّهور
…
عهدُ السّرورْ
وافترّ في طلعةِ تلكَ القصورْ
…
أنسُ البدورْ
يصف محمّد الخضر حسين تونس بالجمال، ويرسم نفسه المشوقة التي تحسّ بداء الغربة وهو داء عضال، قد ذهب الشّاعر له فريسة يلهب خياله:
ما ليَ لا ألمحُ من ذي الجمالْ
…
سوى الخيالْ
ألَمْ يكنْ يُدْني قطوفَ الوصالْ
…
بلا مَلالْ
الشوقُ ألقى مُهْجتي في نضالْ
…
ماضي النّصالْ
ماذا ترى والهجرُ فيما يُقالْ
…
داءٌ عُضَالْ
ويقول:
يا موْطني لم أنس عهدَ الشّبابْ
…
عذبَ الرِّضابْ
بَيْني وبين المجد عهدٌ يُهابْ
…
فلا عِتابْ
إنهّ ابتعد عن موطنه لبناء مجده في دار الغربة، وليخدم بلاده، فكان من رجالات النّهضة في العالم العربي في النّصف الأوّل من القرن العشرين.
ويحنّ الشّاعر إلى شاطئ المرسى المونقال في طالما تمتعّ بالتّنزّه فيه،
فيشير إلى النّسمات العليلة التي تهبّ من البحر، فتسْتروح النّفوس، إنّها
نسمات الوطن المحمّلة بالنّفحات العبقة التي تهبّ برداً وسلاماً على القلوب،
فتحييها من ركودها، وتجدّد نشاطها وإلهامها:
يا نسمةً ماست كشارب راحْ
…
قبل الصّباحْ
والطّلُّ أصفى من دموع المِلاحْ
…
فوق الوِشاحْ
هُبّي وجُزي في النّوادي الفساحْ
…
ذيلَ المرَاحْ
هبي وهاتي نفحَ أُنسٍ قَراحْ
…
يَشْفِي الجراحْ
ومن المقاطع الجميلة التي تزخر بمشاعر الشّوق والحنين إلى تونس الخضراء، وإحساس الألم للبعد عنه، هذا المقطع يكشف فيه الشّاعر أنّه تلقّى دروس الحبّ منذ كان صغيراً فيه، وأن تونس في قلبه، وأنّها أرض طيّبة، "وطن طاب مبيتاً ومقيلاً":
وطني علّمتني الحبَّ الذي
…
يدعُ القلبَ لدى البيْن عَليلا
لا تلمني إنْ نأى بي قَدَرٌ
…
وغدا الشّرقُ من الغَرْب بَديلا
عَزْمةٌ قد أبرَمتْها همّةٌ
…
وَجَدَتْ للمجد في الظّعن سبيلا
أنا لا أنسى على طولِ النَّوى
…
وطناً طاب مَبيتاً ومَقيلا
في يميني قلمٌ لا ينثني
…
عن كفاح وَيرى الصّبرَ جَميلا
وعندما زاره بمصر أديب قادم من تونس الخضراء، حرّك أشجانه، وألهب حنينهَ، وأثار ذكرياته، فعبّر عن حبّه لوطنه، ذاكراً علاقته به، ووفاءه له؛ إذ هو يَدين له بتكوّنه العلمي، ويتشوّق إلى أخبار تونس وناسِها، فيقول مخاطباً هذا الأديب، وكلّه عرفان بالجميل للوطن:
أمحدّثي رُبّيتَ في الوطن الذي
…
رُبّيتُ تحتَ سمائه وبلَغْتُ رُشْدا
وجَنيْتَ زهْرَ ثقافةٍ من روْضةٍ
…
كنتُ اجتنيتُ بنفْسجاً منها ووَرْدا
هاتِ الحديثَ فإننّي أصبو إلى
…
أنباء تونسَ من صميم القلب جِدَّا
ونشير إلى القصيدة ائتي تعجّ بعواطف الأسى الناتجة عن البعد عن
الوطن، وكأنّ ضمير الشّاعر يؤنبه على الهجرة، وتركه تونس بلاد الأنس والعيش النّاعم والأهل الطّيّبين، فيعبّر عن لواعج الحنين إليها، وأسمى المشاعر نحوها، وأجمل التّمنّيات؛ لتعيش تونس أبداً "تسامي في علاها الفرقدين". وهذا هو الحوار الذي ضمّنه الشاعر قصيدتَه، حوار بينه وبين شخص لامه عن نزوحه إلى أرض المشرق، فيقول:
رَضيتُ عن اغترابي إذ لَحَاني
…
فَتىً لا ينظرُ الدُّنيا بِعَيْني
يقولُ: تُقيمُ في مصرٍ وَحيداً
…
وفقدُ الأنس إحدى الموتتَيْنِ
ألا تحدُو المطيّةَ نحو أرضٍ
…
تُعِيدُ إليكَ أُنْسَ الأسْرتَينِ
وعيشاً ناعماً يدع البقايَا
…
من الأعمار بِيضاً كاللُّجَيْنِ
وقومٌ أَمْحَضوكَ النُّصحَ أمسوا
…
كواكبَ في سماء المغربَيْنِ
ويختم محمّد الخضر حسين قصيدته بعد أن يبيّن الظّروف القاهرة التي ألجأته إلى الهجرة بهذين البيتين المعبّرين عن نفثة المشتاق، والعلاقة الوطيدة بين الشّاعر ووطنه تونس الخضراء.
يقول وهو العاشق الولهان الذي تثور في نفسه الذّكريات الطّيبة، فيحنّ إلى تلك اللّيالي الّتي قضاها في الرّياض التّونسيّة:
أحنُّ إلى لياليها كصبٍّ
…
يَحِنُّ إلى لَيالي الرَّقْمَتَيْنِ (1)
ومطمحُ همّتي في أن أراها
…
تُسامي في عُلاها الفَرْقَدَيْنِ (2)
الدكتور أحمد الطويلي (3)
(1) الرّقمتان: روضتان بناحية الصّمان.
(2)
الفرقدان: نجمان قريبان من القطب الشمالي يهتدى بهما.
(3)
أستاذ جامعي تونسي، وباحث وكاتب له عشرات المؤلفات.