الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السياسة القضائية
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وآله المهتدين، وصحبه المجتهدين.
* السياسة:
مصدر ساس يسوس، وترد في كلام العرب لمعان ترجع إلى معنى: التدبير، والرعي، والضبط، يقال: ساس فلان الدابّة: إذا قام عليها، وراضها، وفلان ساس وسيس عليه؛ أي: أَدَّبَ وأُذبَ، ويسست الرعية: استصلحتها بالأمر والنهي.
فبينا نسوسُ الناسَ والأمْرُ أمْرُنا
…
إذا نحن فيهم سُوقَةٌ نتنصَّفُ
وساس المُلْكَ: دبر شؤون المملكة، قال ابن زريق:
أعطيتُ ملكاً فلم أُحسنْ سياستَه
…
كذاكَ من لا يسوس الملكَ يخلَعُهُ
(1) محاضرة في السياسة القضائية ألقاها الإمام في السنة النهائية بقسم التخصص في القضاء بكلية الشريعة في الجامع الأزهر سنة 1365 هـ - 1946 م عندما كان مدرّساً فيها، وجدتها في مكتبة الجامع الأزهر تحت رقم 1250 قوانين، وطبعت في مطبعة الأزهر 1363 هـ - 1947 م.
* والقضاء:
ذكر له علماء اللغة معاني متعددة ترجع إلى معنى: إتمام الشيء قولاً أو فعلاً، يقال: قضى غريمه دينه؛ أي: أداه، وقضى عليه؛ أي: أماته، وقضى الشيء: فرغ منه، وقضى: حَكَمَ وفصَل.
وأما القضاء شرعاً، فقد اختلفت عبارات العلماء في تحديده، فمنهم من عرّفه ناظراً إلى ما يصدر عن القاضي من القول الذي يقع به الفصل، فقال: القضاء: الإخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام.
ونظر بعضهم إلى ما يترتب على هذا الإخبار من قطع الخصومات، فقال: هو الفصل بين المتخاصمين.
ورأى الشيخ ابن عرفة: أن القضاء في الشرع معنى حكمي؛ أي: اعتباري يختص بالقاضي، سواء فصل بالفعل، أو لم يفعل، فقال في حده:"صفة حكمية توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعي، ولو بتعديل أو تجريح، لا في عموم مصالح المسلمين".
قوله: "حكمية" يريد: اعتبارية، وقوله:"توجب لموصوفها نفوذ حكمه الشرعي"؛ أي: أن هذه الصفة الحكمية توجب إيجاباً شرعياً إمضاء ما حكم به، فخرج به من ليس له تلك الصفة؛ فإنه لا يجب تنفيذ حكمه، وقوله:"ولو بتعديل أو تجريح" يريد: أنها توجب نفوذ حكمه في كل شيء، ولو كان بتعديل أو تجريح، وقوله:"لا في عموم مصالح المسلمين" أخرج به: الإمام؛ لأن القاضي ليس له قسمة الغنائم، ولا تفريق أموال بيت المال، ولا ترتيب الجيوش، ولا قتل البغاة، ولا الإقطاعات.
ويمتاز القضاء عن الفتوى مع اتحادهما في أن كلاً منهما إخبار عن الله
تعالى، وأنه لازم للمكلف: أن الفتوى إخبار محض، والحكم إخبار معناه الإنشاء والإلزام. فالمفتي مع الشارع كالمترجم مع القاضي ينقل عنه ما تلقاه منه لإشارة أو عبارة، أو فعل أو تقرير أو ترك، أما الحاكم مع الشارع، فكنائب الحاكم ينشئ الأحكام والإلزام، فكأنه قال له: أي شيء حكمت به على القواعد، فقد جعلته حكمي (1).
ويمتاز القاضي والمفتي عن الفقيه المطلق؛ بأن القضاء والفتوى أخصّ من العلم بالفقه؛ لأن الفقه يتعلق بكلي من حيث صدقه على جزئيات، نحو:"البينة على من ادّعى، واليمين على من أنكر". أما القضاء والفتوى، فقائمان على إعمال النظر في الحوادث الجزئية، وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف، حق يتحقق انطباق ذلك الكلّي عليها، فحال الفقيه -من حيث إنه فقيه- كحال عالِم بكبرى القياس من الشكل الأول فقط، وحال القاضي والمفتي كحال عالِم بها مع علمه بصغراه، فالفقيه -مثلاً- يعلم أن البينة على المدّعي، وقد يخفى عليه متى عرضت عليه نازلة من هو المذعي من الخصمين؟ وتمييز المدّعي من المدّعى عليه في النوازل الجزئية من شأن القاضي والمفتي.
وللقاضي صفات هي شروط في صحة ولايته معروفة في كتب الفقه. وهي: الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والذكورة والعلم والعدالة.
وشرط (الذكورة) معروف بين علماء الإسلام في القديم والحديث، ومن شواهده: ما جاء في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"، ونسبوا إلى ابن جرير الطبري: أنه يجيز أن
(1)"الإحكام في الفتاوى والأحكام" للقرافي.
تكون المرأة قاضية، ونسبوا إلى أبي حنيفة: أنه يجيز قضاءها فيما تشهد فيه، أما ما نسب إلى ابن جرير، فلم يصح نقله عنه، ومن لم ينظر إليه من جهة صحة النقل، قال:"هو من الشذوذ ومخالفة الإجماع بحيث لا ينبغي الالتفات إليه"(1).
وأما ما نسب إلى الإمام أبي حنيفة، فمحمول على أنه يصحّ أن تقضي في واقعة على وجه التحكيم، لا على أنها تقلّد منصب القضاء.
قال القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب "الأحكام": "ونقل عن محمد ابن جرير الطبري إمام الدين: أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله -كما نقل عن أبي حنيفة- أنها تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك كسبيل التحكيم أو الاستنابة في الفضية الواحدة؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة"، وهذا الظن بأبي حنيفة وابن جرير، وقد روي: أن عمر بن الخطاب قدَّم امرأة على حسبة السوق، ولم يصح، فلا تلتفتوا إليه؛ فإنما هو من دسائس المبتدعة".
وأما صفة (العلم)، فشرط القاضي في الأصل أن يكون بالغاً رتبة الاجتهاد.
ولما قل في علماء الشريعة من يدرك هذه المرتبة، أجازوا ولاية المتابع لمذهب إمام من أئمة الاجتهادة حتى لا تتعطل الأحكام. ولا يعدل عمن له قدرة على الترجيح بين الأقوال إلى من قصر باعه عنها.
(1)"الأحكام السلطانية" للماوردي.
وأما صفة (العدالة)، فمعدودة في شرط صحة القضاء كما قال سحنون:"من لا تجوز شهادته لا تصح ولايته". ومقتضى بطلان ولاية غير العدل: عدم نفاذ حكمه.
وقال بعض الفقهاء: "إن حكَمَ، ووافق حكمه وجه الحق، مضى حكمه". فالقاضي العدل تحمل أحكامه على أنها موافقة لوجه الحق، وتنفذ إلا إذا تبين أنها مخالفة له، وغير العدل لا تحمل أحكامه على إصابة وجه الحق، ولا تنفذ إلا إذا تبين أنها صواب.
والسياسة في قولنا: "السياسة القضائية" يراد بها: الأحكام والنظم المتعلقة بالقضاء، ويسميها الكاتبون في أسماء العلوم وتعريفاتها:(علم القضاء)، ويقولون في تعريفه." هو علم يبحث فيه على آداب القضاة في أحوالهم وقضاياهم، وفصل الخصومات، ونحو ذلك".
* حكم الحكم يرفع الخلاف:
إذا حكم حاكم في قضية على طريق الاجتهاد، فإن حكمه يرفع الخلاف، فليس لقاضٍ آخر أن ينقض الحكم في هذه القضية، إلا إذا خالف النص الجلي من الشريعة، أو الإجماع، أو القواعد القطيعة، وهذا هو المعروف في أحكام القاضي المحجتهد. وأما القاضي المتابع لإمام من الأئمة المجتهدين، فليس له أن يحكم إلا بالقول الراجح في مذهبه.
قال ابن نجيم في إحدى رسائله: "قولهم: حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية يمضي، ولا يجوز نقضه، إنما هو في حق المجتهد، أما القاضي المقلِّد، فليس له الحكم إلا بالصحيح المفتى به في مذهبه، ولا ينفذ قضاؤه بالقول الضعيف".
وقال التسولي في "شرح العاصمة": "إن قضاة اليوم لا يمضي حكمهم بخلاف المشهور، أو الراجح، أو المعمول به".
ووجه هذا الذي قرّروه: أن من لم يبلغ رتبة الترجيح من طريق الأدلة، لا يعدل عن الراجح إلا لقصد يخرج به عن سنّة العدل في القضاء.
* مكانة القضاء:
القضاء من الوظائف الشرعية الداخلة في مهمات الخلافة، ويكفيه شرفاً أنّ الرسل والأنبياء عليهم السلام كانوا يتولونه بأنفسهم، ونبّه النبي صلى الله عليه وسلم لفضله، وسموّ مكانته بقوله:"لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها، ويعلّمها". والمراد من الحسد: الغبطة، وهي أن تتمنّى مثل ما أوتيه غيرك. وحصر الغبطة في هاتين الخصلتين، وهي محمودة في كل خصلة من خصال الخيرة للتنبيه على بلوغ مكانة القضاء والإنفاق في الخير أقصى غاية في السموّ في نظر الشارع الحكيم، ومن أساليب البلاغة: استعمال أداة الحصر للدلالة على أهمية الشيء، وإحرازه المرتبة العليا في المعنى الذي قد يشاركه فيه غيره، فيرجع معنى الحديث إلى معنى: أنه لا غبطة كاملة إلا الغبطة في هاتين الخصلتين.
ومن سموّ مكانة القضاء: أن القاضي يستدعي أكبر شخص في الأمة؛ كالخليفة إلى مجلس حكمه، ويقضي عليه متى كان الحق في جانب خصمه، وكذلك كان يفعل قضاة العدل في الإسلام؛ كأبي يوسف: حكم ليهودي في قضية رفعها على الخليفة هارون الرشيد، وكان بشير قاضي قرطبة: حكم لتاجر خامل على الخليفة عبد الرحمن الناصر، وقال له: إن لم تنفذ ما حكمت
به، فإني أستقيل من القضاء.
وإذا كانت الأعمال تتفاوت في الفضل على قدر تفاضل غاياتها، فإن للقضاء غاية تعد من أجل الغايات: هي نصر المظلوم، وكفّ يد الظالم، وقطع المنازعات، والإصلاح بين الناس، وأداء الحق لمستحقه، ومن ذلك يستتب الأمن في البلاد، وإذا استتب الأمن، فهنالك طمأنينة النفوس، وسعادة الحياة.
* سلطة القضاء:
كل أمة في حاجة إلى ثلاث سلطات:
سلطة تشريعية تضع قوانين تميز الحق من الباطل، والصالح والفاسد.
وسلطة قضائية تصدر أحكامها على من يشتبه عليه الحق من الباطل، أو تغلبه أهواؤه على أن يخرج عن تلك القوانين.
وسلطة تنفيذية تقوم على تنفيذ تلك الأحكام الصادرة من السلطة القضائية.
ومصدر التشريع في القضاء الشرعي: هو الله سبحانه وتعالى بما أنزله في كتابه الحكيم، وما جاء في سنة رسوله الصادق الأمين - صلوات الله وسلامه عليه -، وما تضمنه الكتاب والسنّة من الأصول التي يرجع إليها المجتهد في تقرير أحكام الواقع إن لم يجدها في نص آية أو حديث.
ومن هنا كان الإعراض عن الأحكام الشرعية إلى القوانين الوضعية؛ بزعم أن هذه القوانين أحفظ للمصلحة، وأشد مطابقة للحكمة كُفْراً لا مرية فيه، قال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ
لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
ويرجع النظر في السلطة القضائية إلى ما يدخل في حدود ولاية القاضي من أنواع القضايا التي ترفع إليه، ثم الموطن أو الزمان الذي يصدر فيه حكمه، ثم انفراده بالقضاء، أو إشراك غيره له فيه.
أما ما يدخل في حدود ولايته، فيرجع إلى ما يرسمه له صاحب الدولة عند توليته، وقد كان القاضي في عصر الخلفاء الراشدين يفصل بين الخصوم فقط، ثم أضيف إليه -على التدريج- النظر في أمور أخرى، وصار يجمع إلى الفصل بين الخصوم: النظر في أحوال المحجور عليهم من فاقدي العقل واليتامى والمفلسين وأهل السفه، وفي الوصايا والأوقاف، والنظر في مصالح الطرقات والأبنية، وتصفّح الشهود والأمناء، واستيفاء الخبرة فيهم بالعدالة والجرح، وقسم التعازير، وإقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعاً (1).
وكذلك اتسعت دائرة القضاء في الأندلس، حتى صار القضاة ينظرون في القليل والكثير بلا تحديد، وينفردون دون غيرهم بالنظر في الدماء والأوقاف والوصايا والأيتام وأموال الغيب.
وإذا لم يرسم ولي الأمر لولاية القاضي حدوداً، كان المرجع في تحديدها إلى العرف، قال ابن القاسم: "اعلم أن عموم الولايات وخصوصها، وما يستفيده المولى بالولاية، يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف، وليس لذلك حدٌّ في الشرع، فقد يدخل في ولاية القضاء في بعض الأمكنة وبعض الأزمنة ما يدخل في ولاية الحرب، وقد تكون في بعض الأمكنة والأزمنة قاصرة على الأحكام الشرعية فقط، فيستفاد من ولاية القضاء في كل قطر
(1)"مقدمة ابن خلدون".
ما جرت به العادة، واقتضاه العرف".
وأما من جهة تخصيص السلطة القضائية بمكان، فيصح تولية القاضي الحكم في بلد، أو في محلة منه، وإنما ينفذ حكمه في المكان الذي عيّن له، ويصح توليته الحكم في القضايا التي ترفع إليه في داره، أو في مسجده، ولا يجوز له الحكم في غير داره، ولا في غير مسجده؛ لأن ولايته مقصورة على هذين المكانين. قال أبو عبد الله الزبير:"لم تزل الأمراء عندنا بالبصرة برهة من الدهر يستقضون قاضياً على المسجد الجامع يسمونه: قاضي المسجد، يحكم في مئتي درهم وعشرين ديناراً فما دونها، ويفرض النفقات، ولا يتعدى موضعه، ولا ما قدر له".
وأما من جهة قصر قضائه على الزمن المعين، فيصح تقليده النظر بين الخصوم في يوم يعينه صاحب الدولة؛ كيوم السبت أو الأحد، أو أيام الأسبوع ما عدا الجمعة؛ ويكون حكمه في غير المدة المعينة غير نافذ؛ فإذا مضى يوم السبت، أو يوم الأحد -مثلاً-، استمرت ولايته التي هي صفة اعتبارية على أمثال اليوم المعين من الأيام، وإن كان ممنوعاً من النظر فيما عدا ذلك اليوم.
وأما إفراد شخص بالقضاء، أو إشراك غيره له فيه، فيصح تولية قاضيين في بلد واحد على أن يختص كل منها يجانب منه، وعلى أن يختص كل منهما بنوع من الأحكام؛ كالأنكحة، أو المواريث.
أما تولية قاضيين على أن يتصدر كل منهما للفصل في جميع القضايا التي ترفع إليه، فقد منعه بعض الفقهاء؛ حذراً من التشاجر في تجاذب الخصوم إليهما، وأجازه جمهور الففهاء، ويدفع ضرر التشاجر بأن يكون الحق في اختيار
أحد القاضيين للطالب، وفي تونس محكمتان: إحداهما حنفية، والأخرى مالكية، وجروا على أن يكون الحق في اختيار إحدى المحكمتين للمطلوب.
ويصح تولية قاضيين على أن يشتركا في القضاء، فإذا وقعت الواقعة، نظرا فيها حتى يتفقا على الحكم، فينفذا ما اتفقا عليه، فإن اختلفا، رفعا الأمر إلى من هو فوقهما، فينظر فيه (1).
* صلة القضاء بالحكّام:
القضاء خطّة داخلة في مهمات الإمامة، والإمام يولّي القضاة لينوبوا عنه في أداء هذه المهمة، فللقضاء صلة بالرئيس الأعلى للدولة، حيث إنه داخل في شؤون ولايته، ثم إن الرئيس الأعلى قد يجعل تنفيذ الأحكام بيد القاضي نفسه، وقد يقصره على فصل النوازل، ويجعل تنفيذ أحكامه بيد غيره؛ كرجال الشرطة (المحافظة)، أو وزارة العدل. فصلة القضاء بالحكام الذين هم رجال الشرطة، أو رجال وزارة العدل، هي أنهم يقومون بتنفيذ أحكامه عندما يتعاصى المحكوم عليه عن الإذعان إلى الحكم.
* الدعاوى:
جمع دَعْوى، والدعوى في الأصل: اسم مصدر لفعل ادّعى، يقال: ادّعى الشيءَ؛ أي: زعم أنه له، حقاً أو باطلاً، ومعناها شرعاً -كما عرّفها الشيخ ابن عرفة-: قولٌ بحيث لو سلم، أوجب لقائله حقاً.
* الدعوى الصحيحة:
ذكر الفقهاء للدعوى الصحيحة التي يسمعها القاضي، ويطالب المدّعى
(1) القاضي أبو بكر بن العربي في: شرح أبواب الأحكام من "صحيح الترمذي".
عليه بالجواب عنها: ستة شروط:
1 -
أن تكون الدعوى محققة؛ أي: مقطوعاً بها؛ كأن يقول المدّعي: إن لي على فلان ألفاً، فلو قال: أشك، أو أظن أن لي عليه ألفاً، لم تسمع هذه الدعوى؛ لاستنادها إلى شك أو ظن.
ونازع القرافي في الدعوى المستندة إلى ظن، ورأى قبولها، وأمر المدّعى عليه بالجواب عنها؛ بناء منه على أن الظن معتمد به في كثير من الأحكام الشرعية، وساق لهذا نظائر، منها: شهادة العدل الواحد، وهي لا تفيد إلا ظنّاً. ونوقش بأن الظن الذي تقوم عليه بعض الأحكام الشرعية إنما هو الظن القويّ الذي يكون قريبا من القطع، ويجوز للمدّعي أن يحلف معه على البتّ.
والقطع شرط في صحة الدعوى عند من لا يرى توجه يمين التهمة، أما من يرى توجهها متى كان المدّعى عليه ممن تلحقه التهمة، فلا يعدّه في شروط صحتها.
2 -
أن يكون المدّعى فيه معلوماً ببيان عينه؛ كهذا الكتاب، أو الثوب، أو بصفته؛ كلي في ذمته دنانير مصرية، أو عراقية، فإن قال: لي على فلان شيء، لم تسمع دعواه.
ورأى الإمام المازري من فقهاء المالكية صحة الدّعوى بالمجهول، فيؤمر المدّعى عليه بالجواب؛ لعلّه يقرّ، فيؤمر بالتفسير، ويُسجن له، وموضع الخلاف: فيما إذا كان المدّعي لا يدري جنس المدّعى فيه، ولا قدره، فإن كان يعلم ذلك، وامتنع من ذكره، لم تسمع دعواه اتفاقاً.
3 -
أن يكون المدّعى فيه ما لو أقرَّ به المدّعى عليه، لزمه، فلا تسمع
الدعوى على المحجور عليه ببيع ونحوه من المعاملات؛ لأن المحجور عليه لا يلزمه شيء من العقود، ولو أقرّ به، أو قامت عليه به بينة.
4 -
أن تكون الدعوى فيما يتعلق به حكم شرعي أو غرض صحيح، فإن لم يتعلق بالمدعى فيه حكم، لم تسمع الدعوى؛ كأن يطلب المحكوم عليه من القاضي أن يحلف أنه لم يجر عليه في الحكم، أو يطلب المشهود له تحليف الشهود أنهم لم يكذبوا في شهادتهم.
وإن لم يتعلق به غرض صحيح، كادعاء شخص على آخر بنحو قمحة، أو شعيرة، رفضت الدعوى كذلك.
5 -
أن تكون الدعوى مما لا تشهد العادة والعرف بكذبه؛ كدعوى الحاضر الأجنبي ملك دار بيد من حازها الحيازة المعتد بها مع تحقق الشروط المعروفة (1).
6 -
بيان سبب المعاملة، فلا يكفي أن يقول: لي على فلان مئة أو ألف دون أن يذكر سبب المعاملة؛ لاحتمال أن يكون سبب ما يدعيه فاسداً، ككونه من خمر، أو ربا؛ إذ لا يلزم المدعى عليه دفع ثمن الخمر شرعاً، ولا دفع ما هو ربا، ولا ثبت عليه ببينة، ومن ثم قال بعض فقهاء المالكية: إذا لم يسأل القاضي المدّعي عن سبب المعاملة، فهو كالخابط خبط عشواء، فإن سأله عن السبب، وامتنع من بيانه، لم يكلف المدعى عليه الجواب. ومن لا يعتدّ بهذا الشرط في صحة الدعوى، يذهب إلى حمل ما يدعيه المدّعي
(1) هي أن يراه يتصرف في الدار بنحو الهدم والبناء والإيجار مدة الحيازة، وهو ساكت لا يعارضه فيها، ولا يدعي أن له فيها حقاً، ولا عذر له من نحو رهبة أو رغبة.
على وجه الصحة، حتى يتبين أنه وقع على وجه فاسد، والسؤال عن السبب من حق المدّعى عليه، وللقاضي أن ينبهه له إن لم يتنبه.
* المدعي والمدعى عليه:
يدور علم القضاء على معرفة المدعي والمدّعى عليه، ولم يختلفوا في أن المدّعي مطالب بالبينة إذا أنكر المدعى عليه، وأن المدعى عليه مطالب باليمين إذا لم تقم البينة، وقد يخفى على القاضي في بعض القضايا تمييز المدعي من المدعى عليه.
وقد اختلفت عباراتهم في تحديدها، فقال ابن المسيب فيما ينسب إليه: كل من قال: "قد كان"، فهو مدع، وكل من قال:"لم يكن"، فهو المدعى عليه. ونوقش هذا بدعوى المرأة على زوجها المسيس في خلوة الاهتداء، فالزوج هنا هو المدّعي، وهو يقول:"لم يكن"، والمرأة مدعى عليها، وهي تقول "قد كان". وعرّفهما بعض الفقهاء بقوله:"المدّعي: من إذا سكت، ترك وسكوته، والمدّعى عليه: من إذا سكت، لم يترك وسكوت". ونوقش هذا باليتيم البالغ يطالب وليه بتسليم ماله له، فيقول الولي: قد دفعته لك، فالولي هنا هو المدّعي، واليتيم البالغ هو المدّعى عليه، ولو سكت الولي، لم يترك وسكوته.
وعرّفهما القرافي فقال: "المدّعي: من كان قوله على خلاف أصل أو عرف، والمدّعى عليه: من كان قوله على وفق أصل أو عرف". ومثله قول ابن الحاجب: "المدّعي: من تجرد قوله عن مصدق، والمدعى عليه: من ترجح بمعهود أو أصل". ويريد بالمعهود: شهادة العرف، وبالأصل: استصحاب الحال. وأورد على هذا التعريف: أن المدّعي الذي بيده بينة لم يتجرد قوله
عن مصدق. وأراد الشيخ ابن عرفة أن يتخلص من هذا الإيراد فقال: "المدّعي: من عريت دعواه من مرجع غير شهادة، والمدعى عليه: من اقترنت دعواه به".
وقد تتعارض أنظار الفقهاء في القضية يكون بجانب كل واحد من الخصمين مرجع يحتمل أن يجعله مدعى عليه؛ كالمرأة تدّعي على زوجها الحاضر أنه لم ينفق عليها، فذهب المالكية إلى أن المرأة مدعية، والزوج مدعى عليه؛ لأن العرف والغالب يشهد بصدق الزوج؛ وذهب الشافعية إلى أن الزوج مدع، والمرأة مدعى عليها؛ لأن الأصل عدم الإنفاق.
* أقسام الدعاوى:
لا يسير القاضي بالدعاوى سيرة واحدة، بل تختلف أحوالها، فيختلف نظره إليها، وبذلك انقسمت إلى ثمانية أقسام.
1 -
ما لا يسمعه الحاكم، ولا يلزم المدّعي من أجل ما ادعاه شيئاً، وهي الدعاوى التي يكذبها العرف والعادة.
2 -
ما لا يسمعه الحاكم، ويؤدِّب المدعي على ما ادعاه؛ كالدعاوى على أهل الدين والصلاح بما لا يليق بهم؛ منعاً لتسلط أهل الشر على أعراض الأبرياء من الناس. ومن الفقهاء من قال: لا يعاقب المدّعي في هذه الصورة؛ وحقق الإمام مالك النظر فقال: إن نسب إليهم ما لا يليق بهم على وجه المشاتمة، أُدِّب، وإن قاله على وجه المطالبة بحق، لم يؤدَّب.
3 -
ما يسمعه الحاكم، ويمكن المدّعي من إقامة البينة على دعواه، ولا يلزم المدعى عليه بالجواب؛ كالدعاوى على الصغير والسفيه.
4 -
ما يسمعه الحاكم، ويمنع المدّعي من إقامة البينة على صحة ما ادعاه،
ولكن يرى فيه القاضي رأيه؛ كدعوى شخص على من اعتدى على مال غائب من غير وكالة من الغائب، يريد صيانة ماله من الضياع.
5 -
ما يسمعه الحاكم، ولا يلزم المدعى عليه الجواب عنه إلا بشرط؛ كدعوى الرجل العقار على من هو حائزه زاعماً أنه صار إليه ممن ورثه عنه، فلا يلزم المدعى عليه الجواب حتى يثبت المدعي موت من ادّعى أنه ورث ذلك العقار عنه.
6 -
ما يسمعه الحاكم، ويمكّن المدعي من إقامة البينة، ولا يحكم له بموجب ماشهد له به على الفور، وهي دعوى الرجل: أن المفقود أوصى له، أو أوصى إليه، فإن القاضي يمكّن المدّعي من إقامة البينة على دعواه، ولا يحكم له بشيء، إذ لا يجب له شيء إلا بعد موت المفقود.
7 -
ما يسمعه الحاكم، ويمكّن المدعي من إقامة البينة على دعواه، ويلزم المدعى عليه بالجواب، وهي الدعوى المستوفية لشروط الصحة السالف ذكرها.
8 -
ما لا يسمعه الحاكم، ولا يمكّن المدّعي من إقامة البينة على ما ادعاه؛ كالمودع يجحد الوديعة، ثم يدّعي أنه ردّها، فلا تسمع دعواه، ولا يمكّن من إقامة البينة على أنه ردها (1).
* دعاوى الحقوق ودعاوى التهم:
فى عوى الحقوق: ما يطلب المدّعي بها حقاً على سبيل التحقيق في الدعوى، ولو لم يقم عليه بينة؛ كدعوى البيع أو القرض أو الإعارة أو الوصية
(1)"التبصرة" لابن فرحون.
أو الغصب محققاً الدعوى لا يعتربه فيها ريب.
ودعوى تهمة، وهي: ما لم يصدر عن تحقيق، وإنما يقول المدّعي: أتهم فلاناً بسرقة كذا، أو أتهم المدين مدّعي الإعسار بأن له مالاً حاضراً، وهذه هي الدعاوى التي اختلف الفقهاء في توجه اليمين قولاً واحداً، ومما تمتاز به دعوى التهمة: أنها لا تنقلب لو أراد المدعى عليه قلبها على المدعي.
* طرق الحكم:
البينات:
القضاء العادل ما تحقق فيه أمران: علم القاضي بالحادثة التي يتصدّى للقضاء فيها، وعلمه بالحكم الذي ناطه الشارع بتلك الحادثة.
أما علمه بحكم الشارع، فيستمده من نصوص الشريعة، أو من أصولها بطريق الاستنباط.
وأما علمه بالحادثة، فيحصل من طرق تسمى: طرق الحكم، أو أدلة ثبوت الدعوى، أو الحجج الشرعية.
وللفقهاء في هذه الطرق مذهبان: مذهب من يحصرها في أنواع معينة، ومذهب من يعوّل في ضبطها على حصول العلم بالحادثة، فكل ما يصل منه القاضي إلى ثبوت الواقعة، فهو طريق للحكم، ودليل بثبوت الدعوى.
والأنول المعينة التي حصر فيها بعض الفقهاء طرق الحكم هي: البينة؛ أي: الشهادة، والإقرار، واليمين، والنكول، والقسامة، وعلم القاضي.
وذهب آخرون إلى أنها ثلاثة فقط: الشهادة، واليمين، والنكول، وأسقطوا الإقرارة نظراً إلى أنه موجب للحق بنفسه، لا طريق للحكم؛ إذ الحكم: فصل الخصومة، ولا خصومة مع الإقرار، وليس على القاضي في حال
الإقرار إلا أن يأمر المدعى عليه بدفع ما أقر به. وأسقط القسامة؛ لأنها داخلة في اليمين، وأسقط علم القاضي؛ ترجيحاً لعدم صحة الإسناد إليه في فصل التوازن.
وأما مذهب من يجعل مدار طريق الحكم على ما يظهر به الحق، فقد قرره ابن القيم، فقال:"البيّنة: اسم كل ما يبين الحق، فقول النبي صلى الله عليه وسلم للمدعى: "ألك بيّنة؟ "، وقول عمر بن الخطاب: "والبينة على المدّعي" المراد بذلك: ما يبين الحق من شهود أو دلالة؛ فإن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق مما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه، وشواهد له، ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصصه به؛ مع مساواة غيره في ظهور الحق، أو رجحانه عليه ترجيحاً لا يمكن جحده ودفعه؛ كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد في صورة من على رأسه عمامة، وبيده عمامة، وآخر خلفه مكشوف الرأس يعدو أثره، ولا عادة له بكشف رأسه، فبينة الحال ودلالته هنا تفيد ظهور حق المدعي أضعاف ما يفيده مجرد اليد عند كل أحد، فالشارع لا يهمل مثل هذه البينة والدلالة، ويضيع حقاً يعلم كل أحد ظهوره".
الشهادات:
وردت الشهادة في اللغة لمعانٍ:
منها: الحضور، تقول: شهدت مجلس كذا؛ أي: حضرته.
ومنها: الاطلاع والمعاينة، تقول: شهدت كذا؛ أي: اطلعت عليه، وعاينته.
ومنها: الإخبار بالشيء على وجه القطع، تقول: شهد فلان بكذا؛ أي: أخبر به جازماً.
وأما معناها في الاصطلاح، فقد أشار القرافي إلى صعوبة ضبطه، فقال: أقمت سنين أسأل، أطلب الفرق بين الشهادة والرواية، وأسأل الفضلاء عنها، فيقولون: الشهادة يشترط فيها: العدد والذكورة والحرية؛ بخلاف الرواية. فأقول لهم: اشتراط ذلك فرع تصورها، فلو عرفت بأحكامها، لزم الدور، ثم قال "ولم أزل في شدة قلق حتى طالعت "شرح البرهان" للمازري، فوجدته قد حقق ذلك، وميَّز بين الأمرين، فقال "هما خبران، غير أن المخبر عنه إن كان عاماً لا يختص بمعين، فهو الرواية؛ كقوله عليه الصلاة والسلام:"الأعمال بالنيات" فإن ذلك لا يختص بشخص معين، بل عام في كل الخلق؛ بخلاف قول العدل عند الحاكم: لهذا عند هذا دينار، فإنه إلزام معين لا يتعداه، والأول هو الرواية، والثاني هو الشهادة".
وقد زاد بعض الفقهاء هذا الفرق تحقيقاً، فقال "إنَّ الخبر إنْ تعلق بجزئي، وقصد به ترتيب فصل القضاء عليه؛ كقولك: لفلان على فلان كذا، فهو الشهادة، وإن تعلق بأمر عام لا يختص بمعين، أو تعلّق بجزئي من غير قصد ترتيب فصل القضاء عليه؛ كحديث: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة"، ونحوه، فهو الرواية، وقد أوجز هذا المعنى من الأصوليين من قال: "الإخبار عن عام لا ترافع فيه الرواية، وخلافه الشهادة".
وقد عزَف الشهادة بعض فقهاء الحنفية، فقال:"إخبار صدق لإثبات حق بلفظ الشهادة في مجلس القاضي، ولو بلا دعوى"(1).
فقوله: (إخبار) جنس، وقوله:(صدق) فصل أخرج الإخبار الكاذب، وقوله:(لإثبات حق) أخرج الإخبار الذي يكون لغرض غير إثبات الحق،
(1) كتاب "التنوير".
وقوله: (بلفظ الشهادة) خرج به الإخبار بلفظ آخر، نحو: أعلم، وأجزم، وقوله:(في مجلس القاضي) أخرج الإخبار في غير مجلس القضاء، وقوله:(بلا دعوى) أدخل شهادة الحسبة، وهي ما يكون في حق الله تعالى (1)؛ فإنه لا يشترط فيها تقدم الدعوى.
وعرّفها الشيخ ابن عرفة من فقهاء المالكية فقال: "الشهادة قول هو بحيث يوجب على الحاكم سماعُه الحكم بمقتضاه إن عُدل (2) قائله مع تعدد أو حلف طالبه".
صيغة الشهادة:
المعروف أن الحنفية يشترطون في أداء الشهادة لفظ: (أشهد). قال في "البدائع": "وأما الشرائط التي ترجع إلى نفس الشهادة، فأنواع، منها: لفظ الشهادة، فلا تقبل بغيرها من الألفاظ؛ كلفظ الإخبار والإعلام ونحوهما، وإن كان يؤدي معنى الشهادة تعبداً غير معقول المعنى". وقال في "الهداية": "إن النصوص نطقت باشتراط هذه اللفظة".
ونصوص بعض المالكية تدل على أنهم لا يشترطون في أداء الشهادة لفظ: أشهد. وقال ابن قيم الجوزية: "وظاهر كلام أحمد بن حنبل: أنه لا يشترط في صحة الشهادة لفظ: أشهد، بل متى قال الشاهد: رأيت، أو سمعت، أو نحو ذلك، كانت شهادة منه".
وقصر الأداء في الشهادة على لفظ: أشهد لا يقوم عليه دليل، ودعوى
(1) كمن يرى رجلاً يعيش مع امرأة عيشة الأزواج بعد أن طلقها ثلاثاً، فيشهد لدى القاضي.
(2)
نسب إلى العدالة عند الحاكم نفسه.
التعبد في مثل هذا المقام لا يظهر له وجه وجيه.
شروط قبولها:
ترجع الشروط العامة إلى ثلاثة أصول:
1 -
كون الشاهد من أهل الولاية على غيره، فيشترط فيه: أن يكون عاقلاً بالغاً حراً، فلا شهادة للمعتوه، ولا للصبي، ولا الرقيق. وأجاز مالك شهادة الصبيان في مواطن، وعلى شروط سيأتي بيانها.
واستبعد ابن الهمام في "فتح القدير" عدم قبول شهادة العبد، وذلك
ما قرره ابن القيم في كتاب "إعلام الموقعين"، إذ قال: حكى الإمام أحمد عن أنس بن مالك إجماع الصحابة على شهادته، فقال: ما علمت أحداً ردّ شهادة العبد، وقال: إذا قبلت شهادته على حكم الله ورسوله في الفروج والدماء والأموال في الفتوى، فلأن تقبل شهادته على واحد من الناس أولى وأحرى، كيف وهو داخل في قوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]؛ فإنه منّا، وهو عدل وقوله:{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وهو من رجالنا.
2 -
العدالة، ومدارها على اجتناب الكبائر، واتقاء الصغائر، وحفظ المروءة. والعدل: من يجتنب (1) الكبائر، ويتحامى الصغائر غالباً (2)، ولا يأتي بما يخل بالمروءة من قول؛ كالتصريح بأقوال لم ينطق بها الشرع إلا بالكناية،
(1) يراد من الاجتناب: ألا تصدر منه أصلاً، ويلحق بهذا: أن تكون قد صدرت منه، وعرفت توبته منها.
(2)
هذا في غير الصغائر الخسية؛ كالنظر إلى الأجنبية بلذة، أما الصغائر الخسية؛ كسرقة لقمة، وتطفيف حبة، فتلحق بالكبائر في قدحها بالعدالة، وإن وقعت مرة.
أو فعل؛ كإدمان اللعب بالحمام، ويرجع معنى المروءة إلى المحافظة على فعل مباح يوجب تركه الذمّ عرفاً؛ كترك الانتعال للموسر في بلد يزري بمثله الحفاء، وعلى ترك مباح يوجب فعله الذم عرفاً؛ كالأكل في السوق لغير السوقي، وإنما يشترط في الشاهد العدالة في بلد يكون فيه، أو فيما يقرب منه عدول، وقال ابن العربي في "أحكامه":"إذا كانت قرية ليس فيها عدول، وبعدوا عن العدول، فالذي عليه الجمهور: أن لا تجوز شهادة بعضهم لبعض".
والمنقول عن كتاب "النوادر": "أما إذا لم نجد في جهة إلا غير العدول، أقمنا أصلحهم وأقلهم فجوراً للشهادة، ويلزم ذلك في القضاء وغيره؛ لئلا تضيع المصالح، ولا أظن أحداً يخالف في هذا؛ لأن التكليف شرطه الإمكان. وبهذا عمل المتاخرون من فقهاء المالكية، وللخوف من ضياع المصالح ألغى الفقهاء التجريح بالكبيرة التي تعم بها البلوى؛ كالغيبة، ولا تجرح مسلماً بالغيبة؛ لأنها عمت بها المصيبة".
جاءتني أيام ولايتي القضاء في مدينة "بنزرت"(1) رسالة من المحكمة العليا في عاصمة تونس بإصدار إذن في تجريح شهود إحدى البينات، فوقع تجريح أحدهم بأنه يؤخر الصلوات عن أوقاتها، ولم يكتف أعضاء المحكمة -وفيهم أساتذة لي- بهذا التجريح؛ كأنهم يرون تأخير الصلوات عن أوقاتها، وإن كان معدوداً في الكبائر، ملحقا بالغيبة في كثرة ابتلاء الناس به.
3 -
انتفاء التهمة عن العدل في شهادته:
تجيء التهمة إلى الشاهد من جهة القرابة، أو الزوجية، أو الصداقة،
(1) مدينة في شمال تونس.
أو العداوة، أو كون الشهادة تجرّ إليه مغنماً، أو تدفع عنه مغرماً، أو حرصه على أداء الشهادة.
أما شهادة القريب لقريبه، فقد اختلفت فيها آراء الفقهاء، فمنهم من جوّزها بإطلاق، ولم يجعل القرابة مانعة من الشهادة بحال، وهذا ما يقوله الظاهرية؛ كابن حزم وغيره احتجاجاً بالنصوص العامة الواردة في الإشهاد، وهي لا تفرق بين أجنبي وقريب. ومنعت طائفة شهادة الأصول للفروع، والفروع للأصول خاصة؛ نظراً إلى شدة القرابة التي قد تزحزح العدل عن مقتضى العدالة، وجوّزت شهادة سائر الأقارب بعضهم لبعض، وهذا مذهب الشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل.
وأما شهادة الأخ لأخيه، فالجمهور يجيزونها، غير أن بعض الفقهاء قيدها بما إذا كان الشاهد عدلاً مبرزاً؛ وقيدتها طائفة أخرى بما إذا كان المشهود به يسيراً لا كثيراً؛ وقيدها آخرون بما إذا لم تنل الشاهد صلة المشهود له؛ كأن يكون في عياله.
وأما شهادة الزوج لامرأته، والمرأة لزوجها، فمنعها بعض الفقهاء، وأجازها آخرون، وممن أجازها: القاضي شريح: حكي عنه أنه أجاز لامرأة شهادة أبيها وزوجها، فقيل له: إنه أبوها وزوجها! فقال: من يشهد للمرأة غير أبيها وزوجها؟
قال الزهري: لم يكن يتهم سلف المسلمين الصالح في شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الزوج لامرأته، ثم دخل الناس، فظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم إذا كانت من قرابة، وصار ذلك من الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة، لم
يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان.
وأما الصداقة، فتقدح في الشهادة متى اشتدت، ويلغت النهاية؛ إذ يكون صاحبها مظنة أن تنحرف به تلك العاطفة القوية عما توجبه العدالة، ومن أمارتها: أن يبسط كل منهما يده في مال الآخر.
وأما العداوة، فتقدح في الشهادة متى كان منشؤها أموراً دنيوية، فإن كانت ناشئة من انتهاك الشخص حرمة من حرمات الشريعة، لم تعد في قوادح الشهادة؛ إذ لا تلحقه تهمة الشهادة عليه زوراً، وشهادة الزور من كبائر ما حرّمه الدين.
وأما كون الشهادة تجرّ إلى الشاهد مغنماً، أو تدفع عنه مغرماً، فقد قالوا: لا تجوز شهادة رب الدين لمدينه المعسر، ولا الشريك لشريكه فيما يرجع إلى شركتهما، ولا المولى لعبده.
وأما ظهور حرص الشاهد على أداء شهادته، فيعد قادحاً متى تعلقت الشهادة بحقوق العبادة إذ يثير ظهور حرصه شبهة أن تكون شهادته من قبيل ما يجرّ إليه نفعاً من المشهود له؛ كأن يتقدم بشهادته إلى مجلس القضاء قبل أن يطلبه المشهود له، وإنما الشأن أن يعلمه بها، وهو الذي يطلبه لأدائها في مجلس القضاء. وأما الحرص على أداء الشهادة في حقوق الله، فليس بقادح؛ إذ لا يثير تهمة جرّ منفعة دنيوية.
وصفوة البحث: أن العدالة متى ثبتت، أوجبت لصاحبها قبول شهادته، ولا يقدح فيها مجرد قرابته من المشهود له، أو عداوته للمشهود عليه. ولكن التربية الدينية الصحيحة التي كانت سائدة في النفوس تضاءلت حتى لم تبق العدالة من القوة بحيث تسقط بجانبها تهمة محاباة أب أو ابن أو أخ، أو تهمة
قصد الإضرار بعدو من طريق شهادة الزور. وإذا كان الوهن في العدالة هو الغالب في الناس، صحّ أن تناط به الأحكام، ويبنى عليه عدم قبول شهادة من اشتدت قرابته، أو اتضحت عداوته، إلا أن يكون بالغاً في العدالة الدرجة العليا. وقد رأينا فيما عرفناه وصاحبناه من أهل النبل والتقوى من لو شهد لابنه أو أخيه، أو شهد على من يناصبه العداوة، لم يخالجنا ريب في صدقه، ولم نتردد في قبول شهادته.
شروطها الخاصة:
وأما الشروط الخاصة، فهي: الإسلام، والذكورة، والعدد، وتقدم الدعوى (1)، وكانت شرطاً لها خاصة؛ لأنها ليست شروطاً في جميع الشهادات؛ كما يظهر أمرها من بعض الفصول الآتية.
- تزكية الشهود:
قال الإمام أبو حنيفة: كل من أظهر الإسلام حُكم له بالعدالة، وقبلت شهادته حتى يظهر فسقه، فيقتصر الحاكم على ظاهر العدالة في المسلم، ولا يسأل عن الشهودة إذ الظاهر: أن المسلم ينزجر عما هو محرّم في دينه، وفي الظاهر كفاية، فإن طعن الخصم في الشهود، أو كانت الشهادة على الحدود، أو القصاص، لم يكتف بظاهر العدالة، ولا بد من السؤال عن الشهود وتزكيتهم.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا بدّ من السؤال عن الشهود في السر والعلانية في جميع الحقوق، وهو مذهب الإمامين: الشافعي، وأحمد بن حنبل؛ نظراً
(1) شرط في الشهادة على حقوق العباد كما تقدم، لا في حقوق الله.
إلى أن الغالب في الناس عدم العدالة، وفصَّل الإمام مالك، فقال: من جهل الحاكم أمره، ولم يعرفه بعدالة أو فسق، فلا بد من تزكيته، فإن كان الشاهد معروف العدالة عند القاضي؛ بحيث يزكيه عند غيره لو لم يكن قاضياً، يقبل شهادته بدون تزكية.
شهادة الرجال:
يشترط لصحة الشهادة على الزنا أربعة رجال؛ لقوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]، وقد انعقد الإجماع على اشتراط الذكورة في هذه الشهادة، وكون الشهود أربعة. وإنما تضم شهادتهم إذا اتفقوا على موضع الزنا، ووقت رؤيته، وصفته؛ فإن اختلفوا في الموضع، أو الوقت، أو الصفة، بطلت شهادتهم؛ قال في "إعلام الموقعين": إنما أمر الله سبحانه بالعدد في شهود الزنا؛ لأنه مأمور فيه بالستر، ولذا غلظ فيه النصاب، فإنه ليس هناك حق يضيع، وإنما هو حدّ وعقوبة، والعقوبات تدرأ بالشبهات، ويقبل فيما عدا ذلك من المعاملات وسائر الحدود شهادة رجلين.
طائفة من قضاة:
وحكى ابن القيّم عن بعض السلف: أنهم أجازوا وقضوا بشهادة رجل واحد، وقال: فإذا علم الحكم صدق الشاهد الواحد، فإن له الحكم بشهادته، وإن رأى تقويته باليمين، فعل. وقال: يجوز للحاكم الحكم بشهادة الرجل الواحد إذا عرف صدقه في غير الحدود (1).
(1)"الطرق الحكمية"(ص 66، وص 75).
شهادة النساء:
تقبل فيما لا يطلع عليه الرجال من نحو: الولادة، والبكارة، وعيوب النساء. قال الزهري:"مضت السنة أن تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن"، وقال ابن عمر:"لا تجوز شهادة النساء وحدهن إلا على ما لا يطلع عليه غيرهن من عورات النساء وحملِهن وحيضِهن".
واكتفى الإمام أبو حنيفة في هذا الباب بشهادة امرأة واحدة، فألغى العدد كما ألغى الذكورة؛ ليخف النظر فيما لا يطلع عليه الرجال. وقال الإمام مالك: لا يقبل في ذلك إلا امرأتان، بناء منه على أن العدد معتبر في الشهادة، فيبقى بحاله، وإنما سقط اعتبار الذكورة للتعذر. وقال الشافعي: لا يكفي فيما ينفرد فيه النساء إلا أربع؛ لأن العدد معتبر في الشهادة، وقد جعل الله تعالى المرأتين قائمتين مقام الرجل الواحد، فيكون نصاب الشهادة أربعة من النساء.
الرجل الواحد والمرأتان:
يُقضى بشهادة رجل وامرأتين؛ فقال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282} (1).
(1) هذه الآية ظاهرة في أن شهادة المرأة كانت بمنزلة نصف شهادة الرجل، حيث إن النسيان يعرض للمرأة أكثر مما يعرض للرجل، وهذا ما يقوله علماء الشريعة، ولم أر من شذَّ عنهم سوى شارح "فتح القدير"، فقد نفى أن يكون جعل شهادة المرأتين بمنزلة شهادة رجل لنقصان ضبط المرأة، وذهب إلى أن ذلك إنما كان لإظهار درجتهن عن الرجال، وقال:"ولقد نرى كثيراً من النساء يضبطن أكثر من الرجال، والفقهاء لا ينكرون أن بعض النساء يضبطن أكثر من بعض الرجال، ولكن الأحكام الشرعية تبنى على الغالب، وما تجري به العادة".
وقد اختلف الفقهاء فيما تقبل فيه شهادة الرجل والمرأتين، فقال أبو حنيفة: تقبل في جميع الأحكام إِلا القصاص والحدود، وقال الإمامان مالك، والشافعي: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال إِلا في الأموال وتوابعه؛ كالآجال، والشفعة، والخيار، دون حقوق الأبدان، والنكاح، والطلاق، والدماء، والجراح، وما يتصل بذلك.
شهادة الصبيان:
يقول الفقهاء: إن البلوغ شرط في صحة الشهادة، وأجاز الإمام مالك شهادة الصبيان بعضهم على بعض في الجراح: قال في "الموطأ": "الأمر المجتمع عليه عندنا: أن شهادة الصبيان تجوز فيما بينهم من الجراح، ولا تجوز على غيرهم، وإنما تجوز شهادتهم فيما بينهم من الجراح وحدها، لا تجوز في غير ذلك إذا كان ذلك قبل أن يتفرقوا أو يخيبوا ويعملوا، فإن افترقوا، فلا شهادة لهم إِلا أن يكونوا قد أشهدوا العدول على شهادتهم قبل أن يتفوقوا"، وقوله:(الأمر المجتمع عليه عندنا) ظاهر في أن هذا مما جرى به عمل أهل المدينة، ونسبه ابن القيم إلى عمل الصحابة وفقهاء الأمصار، وقال:"فإن الرجال لا يحضرون معهم في لعبهم، ولو لم تقبل شهادتهم، لضاعت الحقوق، وتعطلت، وأهملت، مع غلبة الظن أو القطع بصدقهم، ولا سيما إذا جاؤوا مجتمعين قبل تفرقهم ورجوعهم إلى بيوتهم، وتواطؤوا على خبر واحد، وفرقوا وقت الأداء، واتفقت كلمتهم، فإن الظن الحاصل بشهادتهم أقوى بكثير من الظن الحاصل من شهادة رجلين".
شهادة غير المسلم على المسلم:
لا تقبل شهادة الكافر على المسلم في غير الوصية، واختلفوا في شهادته
عليه في وصية في السَّفر، فقال أبو حنيفة: تجوز على الشروط التي ذكرها الله تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} [المائدة: 106].
وقال الإمامان مالك والشافعي: لا تجوز، ولو على هذه الشروط، ورأوا أن الآية منسوخة، وروى حديث الشيخ ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه.
"والآية صريحة في قبول شهادة الكافر على وصية في السفر لمن عدم الشاهدين المسلمين، ولم يجئ بعدها ما ينسخها، فإن المائدة من آخر القرآن نزولاً، وليس فيها منسوخ، وليس لهذه الآية معارض البتّة (1).
شهادة غير المسلم على غير المسلم:
ردّها بعض الفقهاء. وقال آخرون: تمضي، واحتجوا بأنهم يتعاملون فيما بينهم بأنواع المعاملات من المداينات، وعقود المعاوضات، وغيرها، ويقع بينهم الجنايات، ويتحاكمون إلينا، فلو لم تقبل شهادتهم بعضهم على بعض، لضاعت حقوقهم. واختلف هؤلاء، فقال بعضهم: إنما تجوز شهادة غير المسلم على أهل ملته. وروي عن الزهري أنه قال: تجوز شهادة النصراني على النصراني، واليهودي على اليهودي، ولا تجوز شهادة أحدهما على الآخر، وكذلك قال الحسن: إذا اختلفت الملل، لم تجز شهادة بعضهم على بعض. وهذا الرأي مبني على مراعاة العداوة التي تكون بين أصحاب الملتين المختلفتين. ورأى آخرون جواز شهادة نصراني على مجوسي، أو مجوسي على نصراني،
(1)"إعلام الموقعين".
وصحَّ هذا عن عمر بن عبد العزيز، وجماعة من التابعين، وهو قول الإمام أبي حنيفة.
شهادة غير العدل:
سبق في بحث العدالة ما قاله صاحب "النوادر"(عبد الله بن أبي زيد القيرواني) في أهل بلد لا يوجد بينهم عدول، وما صرح به جماعة من الفقهاء في التجريح بالكبيرة تغلب على الناس؛ كالغيبة، وتأخير الصلاة عن وقتها، ونزيد هنا: ما نقله حسن صديق في كتاب: "ظفر اللاضي بما يجب في القضاء على القاضي" عن شيخه الشوكاني، وملخصه: أن كثيراً من القرى التي يسكنها جماعة من الحرَّاثين المعروفين الآن بالقبائل قد لا يوجد في القرية الواحدة -وإن أكثر الساكنون بها- من يستحق أن يطلق عليه اسم العدل قط، ثم يقع بينهم التظالم في الدماء والأموال، وليس بينهم عدل معتبر في الشهادة، ولا يحضرهم عدل من غيرهم، فيترافعون إلى حكام الشريعة، فماذا يصنع الحاكم عند ترافعهم إليه؟ ولو يسمعون على كثرتهم بأنه ليس على من قتل نفساً، أو أخذ مالاً، أو هتك حرمة إِلا اليمين، لكان ذلك من أعظم البواعث لهم على الإفراط في ذلك، والتهافت عليه، وهذه الشريعة المطهّرة مبنية على جلب المصالح، ودرء المفاسد، فلو قال الحاكم المترافع إليه: هات البينة التي معك، ثم سمعها، واستكثر من عددها حتى تلوح له أمارات الصدق، كان ذلك أقرب إلى اعتبار جلب المصلحة الشرعية، ودفع المفاسد المخالفة للشرع.
تحليف الشهود:
المعروف أن الشاهد لا يحلَّف، وقال ابن وضّاح من فقهاء المالكية:
أرى لفساد الزمان أن يحلَّف الحاكم الشهود. وفعل هذا محمد بن بشير قاضي قرطبة، وقال ابن عباس رضي الله عنه بتحليف المرأة إذا شهدت بالرضاع، وورد في القرآن الكريم تحليف غير المسلم الشاهد على الوصية في السفر. ويتلخص من هذا: أنه يجوز للحاكم تحليف الشهود إذا اشتبه في أمرهم.
التفريق بين الشهود:
أوّل من فرق بين الشهود علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان فرَّق بين امرأتين شهدتا على يتيمة أنها بغت، وبالتفريق بينهما تبين أن شهادتهما زور، فقال علي: الله أكبر! أنا أوّل من فرّق بين الشاهدين (1). وصرح الفقهاء كلهم: أن الحاكم إذا ارتاب بالشهود، سألهم: كيف تحملوا الشهادة، وأين تحملوها؟ وذلك واجب عليه، متى عدل عنه، أثم، وجار في الحكم (2).
الحكم بالتواتر:
التواتر لغة: تتابع أشياء واحداً بعد واحد بينهما مهلة، وأما اصطلاحاً، فهو: تتابع الخبر عن جماعة إلى حيث يحصل العلم (أي: الاعتقاد القاطع) بالمخبر به. ومن شرطه: أن يكون الجماعة قد انتهوا في الكثرة إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب، وأن يكون عليهم مستنداً إلى حس، لا إلى دليل عقلي، ولا يشترط فيهم العدالة، ولا الإسلام، فإذا تضافرت الأخبار على شيء؛ بحيث اشترك في العلم به القاضي وغيره، حكم بموجب ما تواتر عنده؛ كأن يتواتر عنده صلاح رجل أو فسقه، أو عداوته لغيره، أو فقره، أو موته،
(1)"الطرق الحكمية"(ص 90).
(2)
"الطرق الحكمية"(ص 24).
أو سفره، فإنه يحكم بموجب ذلك، ولم يحتج إلى شاهدين عدلين. وبيّنة التواتر أقوى من الشّاهدين، ولا تقام بيّنة على خلاف التواتر؛ لأن البينة ظنية، والتواتر يقيني.
الاستفاضة:
استفاضة الشيء: اشتهاره بحيث يتحدث به الناس، ويستفيض بينهم، وهو درجة بين التواتر والآحاد، وهذا النوع من الإخبار، ويجوز الاستناد إليه في الشهادة، والاعتماد عليه في القضاء، والحكم به حكم يستند إلى حجة، لا إلى مجرد العلم، فلا يتطرق إلى الحاكم به تهمة، له أن يقبل شهادة شاهد استفاض في الناس صدقه من غير توقف على شهادة بعدالته، وهذه الشهادة كشهادة التواتر لا يصرح فيها الشاهد بالسماع، بل يجزم فيها بالشهادة.
شهادة السماع:
صفتها أن يقول الشهود: سمعنا سماعاً فاشياً من أهل العدل وغيرهم، أو يقولوا: لم نزل نسمع من الثقات وغيرهم أن هذه الدار -مثلاً- صدقة على بني فلان. وعرّفها بعض الفقهاء بقوله: هي لقب لما يصرح فيه الشاهد بإسناد شهادته لسماع من غير معين. ولا تكون شهادة سماع إذا قالوا: سمعنا من أقوام بأعيانهم، يسمونهم ويعرفونهم، وإنما هي شهادة على شهادة، فتخرج عن حدّ شهادة السماع، وهذه الشهادة تفيد ظناً دون شهادة الاستفاضة، وإذا أطلقت شهادة السماع في كتب الفقه، تنصرف إلى هذا النوع من الشهادة. ويعمل بها في نحو: العزل والولاية، والتجريح والتعديل، والكفر والإسلام، والسفه والرشد، والإيصاء والأحباس والصدقات، والرضاع والنكاح والطلاق
والخلع، والقسمة والنسب، والو لادة والموت والحمل، والإضرار بالأهل.
وخصّها الإمام مالك بما تقادم زمنه تقادماً يبيد فيه الشهود، وتنسى فيه الشهادات (1).
خبر الواحد:
سبق في بحث شهادات الرجال: أن جماعة من الفقهاء قالوا: يجوز القضاء بشهادة الرَّجل الواحد من غير يمين متى وثق الحاكم بصدقه، وعزاه ابن القيم إلى أصحاب الإمام أحمد بن حنبل (2)، واكتفى المالكية بخبر الواحد فيما يرجع إلى أهل الخبرة والصنعة؛ كالأطباء العارفين بعيوب الحيوان أو السلع، وقيم المتلفات منها. وقال مالك: يقضى بقول الطبيب، ولو لم يكن على الإسلام؛ لأن قوله لم يكن على وجه الشهادة، إنما هو علم يأخذه الحاكم عمن يبصره ويعرفه مسلماً أو غير مسلم، واحداً كان أو اثنين، ومن هذا القبيل: القاسم إذا أرسله الحاكم لقسم شيء بين مستحقيه، ووثق به، ونصبه لذلك، فجاز للحاكم أن يعتمد على قوله وحده.
القرائن:
سبق في صدر بحث البينات: أنّ من الفقهاء من لا يحصرونها في أنواع مخصوصة، ويعد القرائن في جملة البينات. ودلالة القرائن تتفاوت في القوة والضعف، فتقوى حتى تفيد القطع، وتضعف حتى لا يصح الاعتماد عليها في القضاء، والمعتمد في تعرفها: قوة الذهن، والألمعية. قال صاحب "التبصرة":
(1) وهو خمسون سنة كما في "المدونة"، أو عشرون سنة، وهو ما جرى به العمل.
(2)
"الطرق الحكمية"(ص 84).
ولا خلاف في الحكم بها، وقد جاء العمل بها في مسائل اتفقت عليها الطَّوائف الأربعة، وبعضها قال به المالكية خاصة. وقال ابن القيم:"الأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينات والأقارير وشواهد الأحوال، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة، ولا تضبط، أمر لا يقدح في كونها طرقاً وأسباباً للأحكام، والبينة لم تكن موجبة بذاتها للحد، وإنما ارتباط الحد بها ارتباط المدلول بدليله، فإن كان هناك دليل يقاومها، أو أقوى منها، لم يلغه الشارع، وظهور الأمر بخلافه لا يقدح في كونه دليلاً؛ كالبيّنة والإقرار".
ومن الفروع التي ذكرها المالكية والحنفية في الاعتماد على القرينة: أناّ إذا رأينا رجلاً مذبوحًا في دار، والدم يجري، وليس في الدار أحد، ورأينا رجلاً قد خرج من عنده سريع الحركة في حالة خوف وفزع، ومعه سكين في يده، علمنا أنه الذي قتله، وكان لوثاً يوجب القسامة، والقود.
وفي كتب الفقه فروع كثيرة مبنية على الاعتماد على قرائن الأحوال (1).
اعتبار الرسول وأصحابه لها:
مما يشهد لاعتبار القرائن: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الملتقط بدفع اللقطة لمن وصفها؛ بأن يعرف عفاصها ووكاءها (2)، فوصْفُه لها على هذا النحو المذكور أمارة على أنه صاحبها، فاستحقها بهذه الأمارة. وروى ابن ماجه وغيره عن جابر بن عبد الله، قال: أردت السفر إلى خيبر، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر، فقال: "إذا أتيت وكيلي، فخذ منه خمسة عشر
(1) انظر: "التبصرة"، و"معين الحكام".
(2)
العفاص: الوعاء. والوكاء: الرباط.
وسقاً، فإذا طلب منك آية، فضع يدك على ترقوتهِ"، وهذا اعتماد في الدفع إلى الطالب على مجرد العلامة.
وحكم عمر بن الخطاب، وابن مسعود رضي الله عنهما بوجوب الحد برائحة الخمر من فم الرجل، أو قيئه خمراً؛ اعتماداً على القرينة الظاهرة (1).
اليمين:
اليمين في اللغة: القوة، وأطلقت على الحلف؛ لأنه يتقوى لها الصدق الذي هو أحد طرفي الخبر. وهي أقسام ثلاثة؛ لأنها إما أن تكون لدفع الدعوى، أو تصحيحها، أو تتميم الحكم، وسمي: يمين الاستظهار.
اليمين لدفع الدعوى:
هي ما يوجه إلى المدّعى عليه بمال، فينكره، وهي المشار إليها بقوله عليه الصلاة والسلام:"لو يعطى الناس بدعواهم، لادّعى أناس دماء رجال، وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه"(2).
وروى البيهقي هذا الحديث بلفظ: "البينة على المدّعي، واليمين على من أنكر". وقال ابن عباس رضي الله عنهما "إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه"(3). وتخاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلان في أرض، فقال للحضري، وهو "المدّعي":"ألك بينة؟ "، قال: لا. قال: "فلك يمينه"، فقال: يا رسول الله! الرَّجل فاجر، لا يبالي على ما حلف عليه، وليس يتورع من شيء، قال: "ليس
(1) قال ابن القيم: ولا مخالف لهما من الصّحابة.
(2)
رواه مسلم، وأحمد.
(3)
رواه البخاري، ومسلم.
لك منه إِلا ذلك" (1).
وجعلت البينة على المدّعي؛ لضعف جانبه؛ إذ يدّعي خلاف الظاهر، وجعلت اليمين على المدعى عليه؛ لأن معه ظاهر الحال، فأريد تقوية هذا الظّاهر باليمين.
وأخذ جمهور الفقهاء بظاهر الأحاديث المروية في حلف المدعى عليه، وأبقوها على عمومها. واشترط الإمام مالك في تحليف المدعى عليه: أن يكون بين المدّعي والمدّعى عليه مخالطة (2)، أو ملامسة، روى "الموطأ" عن حميد ابن عبد الرحمن: أنه كان يحضر عمر بن عبد العزيز يقضي بين الناس، فإذا جاءه الرجل يدّعي على الرجل حقاً، نظر، فإن كانت بينهما مخالطة، أو ملامسة، أحلف الذي ادّعى عليه، وإن لم يكن شيء من ذلك، لم يحلفه. وقال مالك: وعلى ذلك الأمر عندنا، وهو قول الفقهاء السبعة بالمدينة.
(1) رواه مسلم، والترمذي.
(2)
الخلطة عند المالكية تثبت بأشياء؛ كأن يتبايع المدّعي والمدّعى عليه مرتين أو ثلاثاً، أو يكونا شريكين، أو متقارضين، أو أن أحدهما أجير لصاحبه، أو أجر منه دابته أو داره، أو يثبت أن بينهما صحبة في دعوى الكفالة، أو يكون أحدهما صانعاً؛ كصباغ، أو صائغ.