الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من وثائق محمد الصالح المهيدي
السيد محمد الخضر حسين
عضو مجمع فؤاد الأول للغة العربية والأستاذ بكلية أصول الدين ورئيس جمعية الهداية الإسلامية.
جاء في مجلة "الحديقة" الصادرة بالقاهرة في 7 أغسطس سنة 1939 م عدد 76، السنة الثانية: ما يأتي -محاطاً بصورة الأستاذ أبقاه الله-:
شخصية فذّة قوية، ونفحة من نفحات الحق الزكية، جاد به الدهر وهو البخيل بالرجال، كما تجود الصخرة بالماء الزلال، سمت به الرجولة الحقّة التي بثّها الدين بين جوانحه، فجعل منه مظهراً من مظاهر البطولة الصادقة، والتضحية النبيلة. فقد وهبه الله سبحانه وتعالى إيماناً قوياً لا تزعزعه الشدائد، وصبراً جميلاً على المكاره، وعملاً دائباً في نصرة الحق والدين، وكفاحاً عن العقيدة، وجهاداً في سبيلها، وتطلّعاً إلى المثل العليا، وهياماً بمعالي الأمور، وترفعاً عن صغائرها وسفاسفها.
تحادثه، فتلمس من حديثه حضور البديهة، وحسن البصيرة، وصفاء الذهن، وسرعة الخاطر، وتناقشه، فتجد نقاء النفس، وسداد الرأي، وهو يبدي الرأي بكل صراحة، فيدافع عنه من غير تغيير للحقائق، أو قلب للأوضاع، غزير المادة، وَساع الاطلاع، متّقد العقل، بعيد النظر، يحس نتيجة الشيء قبل حدوثه، ويقرأ في الناظر ما يجول في الخاطر، وهو إذ يعرف الحق
فيتمسك به، يفعل ما ينبغي عليه أن يفعله، ويقول ما يجب أن يقال. يشعر بالطريق المستقيم، فيسلكه، والسبيل السوي فيطرقه، ولا يحيد عنه بعدُ قيدَ أنملة. وهو -مع هذا- متواضع أشد التواضع، ولكنه تواضع في غير منقصة أو مذلّة، يترك عمله ليدلَّ عليه، ويتحدث عنه؛ بدلاً من أن يتحدث هو عن نفسه.
نشأ السيد سليلَ بيت مجد في تونس، فظهرت عليه علامات النبوغ والذكاء منذ أن شبَّ وترعرع، فأخذ في البحث والاطلاع والتنقيب، تحدوه رغبة جامحة في العلم، ويدفعه الأمل في خدمة الدين والوطن، حتى إذا ما أحرز شهادة العالمية بتفوق، تطوّع للتدريس في الجامع الأعظم "جامعة الزيتونة"، وأنشأ مجلة "السعادة العظمى"، وهي أول صحيفة صدرت في تونس باللغة العربية، وكانت حافلة بالمواضيع العلمية، والمسائل الأدبية، والأمور الاجتهادية، وقد لقيت لدى ظهورها تأييداً وترحيباً من كافة الطبقات.
ثم رأت الحكومة أن تنتفع بجليل علمه، وعظيم مواهبه، فعيّن قاضياً شرعياً في "بنزرت"، ولكن أنّى للنفس الكبيرة أن تستكنَّ أو تهدأ، لقد وجد أن الحاضرة أولى بعلمه وجهوده، فاستقال من منصبه راضياً مختاراً، ورحل إلى تونس، فعين أستاذاً في جامعة الزيتونة، ومدرساً بالمدرسة الصادقية، وهي أكبر مدرسة للحكومة بتلك البلاد، وكانت له صولات وجولات في المباحث الدينية والأدبية والاجتماعية، وألقى محاضرات قيمة في نادي جمعية قدماء الصادقية، والمدرسة الخلدونية، وطبعت جميعاً، أذكر منها:"الحرية في الإسلام"، و"حياة اللغة العربية"، و"مدارك الشريعة الإسلامية"، و"الدعوة إلى الإصلاح"، وغيرها.
وما إن وجدت الحكومة فيه عالماً جليلاً، وناقداً مصلحاً، حتى أرادت أن تستفيد من خبرته وسعة اطلاعه، فأشركته معها في كثير من المشروعات الإصلاحية، فكان عضواً في لجنة وضع التاريخ التونسي العام، وعضواً بمجلس النظر في شؤون المدارس، وعضواً في لجنة تنظيم كتب المكتبة الصادقية، والمكتبة الزيتونية، وغيرها من المشروعات العلمية والاجتماعية.
ثم رحل إلى الشام، فاستقبل هنالك استقبالاً حافلاً، وعيّن مدرساً لآداب اللغة العربية في المدرسة السلطانية، وإن أجمل ما توصف بها إقامته هنالك: ما ذكره أحد أعضاء المجمع العلمي (1) في دمشق إذ قال: "أستاذنا الجليل السيد محمد الخضر حسين، علم من أعلام الإسلام، هاجر إلى دمشق في عهد علامتي الشام: الشيخ البيطار، والشيخ القاسمي، فاغتبطا بلقائه، واغتبط بلقائهما، وكنا نلقاه ونزوره معهما، فأحكمت بيننا روابط الصحبة والألفة والود من ذلك العهد، ولما توفي شيخنا القاسمي سنة 1332 هـ، لم نجد نحن -معشر تلاميذه- من نقرأ عليه أحبّ إلينا، ولا آثر عندنا من الأستاذ الخضر؛ لما هو متصف به من الرسوخ في العلم، والتواضع في الخلق، والبرّ بالإخوان، وأخذنا منذ ذلك الحين نقتطف ثمار العلوم والآداب من تلكم الروضة الزاهرة، ونرتشف كؤوس الأخلاق من سلسبيل الهدى والتقوى، ولم يكن طلاب المدارس العالية في دمشق بأقل رغبة في دروسه، وإجلالاً لمقامه، وإعجاباً بأخلاقه من إخوانهم طلاب العلوم الشرعيين، بل كانوا كلهم مغتبطين في هذه المحبة والصحبة، مجتمعين حول هذا البدر المنير".
وهكذا كانت مدة إقامته في الشام خالصة لخدمة العلم والدين، وتثقيف
(1) العلامة الشيخ محمد بهجة البيطار.
الشبيبة، وتنشئتهم على أسس قويمة من الخلق والعلم والدين، فلما أن [قامت] الحرب العالمية سنة 1914 م، خاض غمارها، وساهم فيها بنصيب وافر، فاتصل بالمرحوم أنور باشا التركي وزير الحربية حينذاك، ثم وصل إلى ألمانيا، فقضى فيها زهاء التسعة أشهر تعلم أثناءها اللغة الألمانية، ودرس حالة المجتمع هناك، ثم أقبل على دراسة علوم الكيمياء والطبيعة على البروفسور (هاردر) أحد كبار المستشرقين من العلماء الألمان، ثم رجع إلى دمشق، فمكث فيها قليلاً، ورحل إلى إستنبول، فعين محرراً بالقلم العربي في إدارة الأمور الشرقية، واستمر رافعاً لواء العلم حتى قارب عقد الهدنة، واشتدت الأحداث السياسية، فاضطر إلى الرحيل إلى ألمانيا ثانية، ومكث بها نحو سبعة أشهر، قضاها باحثاً ومنقباً، إلى أن خمدت نار الحرب، ووضعت أوزارها، فرجع.