الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ما قيل فى البازى
قالوا: والبازى خمسة أصناف، وهى البازى، والزّرّق، والباشق، والعفصىّ، والبيدق.
فأمّا البازى
- فهو الثانى من الجوارح، وهو أحرّ هذه الأصناف الخمسة مزاجا، لأنه قليل الصبر على العطش. ومأواه مساقط الشجر العاديّة الملتفّة والظلّ الظّليل ومطّرد المياه. وهو لا يتّخذ وكرا إلّا فى شجرة لها شوك. وإذا أراد أن يفرّخ بنى لنفسه بيتا وسقّفه تسقيفا جيّدا يقيه من المطر ويدفع عنه وهج الحرّ. وسبيله «1» فى البرد أن يدفأ بالنار ويجعل تحت كفّيه وبر الثعالب واللّبود؛ وفى الصيف أن يجعل فى بيت كنين «2» بارد النّسيم ويفرش له الرّيحان والخلاف «3» . وهو خفيف الجناح، سريع الطيران، يلفّ طيرانه كالتفاف الفواخت؛ «4» ويسهل عليه أن يزجّ بنفسه «5» صاعدا
وهابطا وينقلب على ظهره حتى يلتقف فريسته. والإناث منه أجرأ على عظام الطير من الذّكور. ويقال: إن الإناث إذا كان وقت سفادها يغشاها جميع أنواع الضّوارى: الزّرّق والشاهين والصّقر، وإنها تبيض من كل طائر يغشاها؛ ولهذا تجىء مختلفة الأخلاق «1» . والبازى يصيد ما بين العصفور والكركىّ «2» . ومن عادته أنه إذا أخطأ صيده رفاته وكان فى برّيّة لا شجر فيها ولّى ممعنا حتى يجد كهفا أو جدارا يأوى اليه؛ ولهذا علّق عليه الجرس ليدلّ على مكانه إذا خفى.
وصفة الجيّد منه المحمود فى فعله أن يكون قليل الريش، أحمر العينين حادّهما، وأن تكونا مقبلتين على منسره وحجاجاهما «3» مطلّين عليهما، ولا يكون وضعهما فى جنبى رأسه كوضع عينى الحمام. والأزرق منه دون الأحمر العين؛ والأصفر دونهما.
وسعة أشداقه تدلّ على قوّة الافتراس. ومن صفاته المحمودة أن يكون طويل العنق، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، شديد الانخراط الى ذنبه، وأن تكون فخذاه طويلتين مسرولتين بريش، وذراعاه قصيرتين غليظتين، وأشاجع «4» كفّيه عارية، وأصابعه متفرّقة [ولا تكون مجتمعة ككفّ الغراب «5» ] ، ومخلبه أسود، ويكون طويل المنسر دقيقه. وأفخر ألوانه الأبيض ثم الأشهب، وهما لونان يدلّان على الفراهة والكرم. وأما الأسود الظهر المنقّش الصدر بالبياض والسواد فهو يدلّ على الشدّة والصّلابة. وإن اتّفق أن يكون هذا أحمر العين كان نهاية. وهذا اللون فى البزاة
كالكميت فى الخيل. والأحمر فى البزاة أخبثها. وبعض الناس يقول: أشرف البزاة الطّغرل، ثم البازى التامّ وهو الذى وصفناه آنفا. والطّغرل: طائر عزيز نادر الوقوع لا يعرفه غير التّرك، لأنه يكون فى بلاد الخزر وما والاها وما بين خوارزم إلى إرمينية، وهو يجمع صيد البازى والشاهين. وقيل: إنه لا يعقر شيئا بمخلبه إلّا سمّه.
وأوّل من صاد البازى «لذريق» أحد ملوك الروم الأوّل؛ وذلك أنه رأى بازيا إذا علا كتف «1» ، وإذا سفل خفق، وإذا أراد أن يسمو درق «2» ؛ فاتّبعه حتى اقتحم شجرة ملتفّة كثيرة الدّغل؛ فأعجبته صورته، فقال: هذا طائر له سلاح تتزيّن بمثله الملوك؛ فأمر بجمع عدّة من البزاة فجمعت وجعلت فى مجلسه. فعرض لبعضها أيم «3» فوثب عليه؛ فقال: ملك يغضب كما تغضب الملوك. ثم أمر به فنصب على كندرة «4» بين يديه؛ وكان هناك ثعلب فمرّ به مجتازا، فوثب عليه فما أفلت منه إلّا جريحا؛ فقال لذريق: هذا جبّار يمنع حماه. ثم أمر به فضرّى على الصيد؛ واتخذته الملوك بعده.
وقد وصفته الشعراء والأدباء؛ فمن ذلك قول الناشى:
لما تعرّى الليل عن أنساجه
…
وارتاح ضوء الصبح لانبلاجه
غدوت أبغى الصيد من منهاجه
…
بأقمر أبدع فى نتاجه
ألبسه الخالق من ديباجه
…
ثوبا كفى الصانع من نساجه
حال من الساق إلى أوداجه «1»
…
وشيا يحار الطّرف فى اندراجه
فى نسق منه وفى انعراجه
…
وزان فوديه إلى حجاجه «2»
بزينة كفته عزّ تاجه
…
منسره يثنى على خلاجه
وظفره يخبر عن علاجه
…
لو استضاء المرء فى إدلاجه
بعينه كفته عن سراجه
وقال ابن المعتزّ يصف عين البازى:
ومقلة تصدقه إذا رمق «3»
…
كأنها نرجسة بلا ورق
وقال أيضا فيه:
وفتيان غدوا والليل داج
…
وضوء الصبح متّهم الطلوع
كأن بزاتهم أمراء جيش
…
على أكتافها صدأ الدّروع
وقال أيضا:
ومنسر عضب الشباة دامى
…
كعقدك الخمسين بالإبهام «4»
وخافق للصّيد ذى اصطلام
…
ينشره للنّهض والإقدام
كنشرك البرد على المستام
ووصفه أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة الأندلسىّ فقال من رسالة:
«طائر يستدلّ بظاهر صفاته، على كرم ذاته؛ طورا ينظر نظر الخيلاء فى عطفه كأنما يزهى جبّار، وتارة يرمى نحو السماء بطرفه «1» كأنما له هناك اعتبار. وأخلق به أن ينقضّ على قنيصه شهابا، ويلوى به ذهابا، ويحرقه توقّدا والتهابا. وقد أقيم له سابغ الذّنابى والجناح، كفيلين فى مطالبه بالنّجاح. جيّد العين والأثر، حديد السمع والبصر. يكاد يحسّ بما يجرى ببال، ويسرى من خيال. قد جمع بين عزّة مليك، وطاعة مملوك. فهو بما يشتمل عليه من علوّ الهمه، ويرجع إليه بمقتضى الحدمه؛ مؤهّل لإحراز ما تقتضيه شمائله، وإنجاز ما تعدبه مخايله. وخليق بمحكم تأديبه، وجودة تركيبه؛ أن لو مثل له النجم قنصا، أو جرى [بذكره «2» ] البرق قصصا؛ لاختطفه أسرع من لحظه، وأطوع من لفظه؛ وانتسفه «3» أمضى من سهم، وأجرى من وهم. وقد أقسم بشرف جوهره، وكريم عنصره؛ لا يوجّه مسفّرا، إلا غادر قنيصه معفّرا، وآب إلى يد من أرسله مظفّرا؛ مورّد المخلب والمنقار، كأنما اختضب بحنّاء أو كرع فى عقار» .
[وله من أبيات يمدح «4» بها] :
طرد القنيص بكلّ «5» قيد طريدة
…
زجل «6» الجناح مورّد الأظفار