الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر أخبار ملوك الصين
قال أبو الحسن علىّ بن عبد الله المسعودىّ فى كتابه المترجم بمروج الذهب «1» :
لمّا قسم فالغ «2» بن عابر بن أرفخشذ بن سام بن نوح الأرض بين ولد نوح سار ولد عامور «3» بن توبل «4» بن يافث بن نوح يسرة المشرق، فكان منهم أجناس الترك. وسار الجمهور من ولد عامور «5» على ساحل البحر حتى انتهوا الى أقاصيه من بلاد الصين، فتفرّقوا فى تلك البقاع والبلاد وقطنوها وعمّروها، وكوّروا الكور، ومصروا الأمصار، ومدّنوا المدن، واتخذوا للملك مدينة عظيمة سمّوها إيقو «6» ، وبينها وبين ساحل البحر الحبشىّ، وهو بحر الصين مسيرة ثلاثة أشهر، مدن وعمائر متصلة. فكان أوّل من تملّك عليهم فى هذه الديار نسطيرطاس «7» بن ماعور «8» بن بزنج «9» بن عامور «10» . قال:
ولمّا ملك فرّق أهله فى تلك الديار، وشقّ الأنهار، وغرس الأشجار، وطعّم الثمار، وقتل السباع. وكانت مدّة ملكه ثلاثمائة سنة ونيّفا وهلك.
فقام بالأمر بعده ولده عرون بن نسطيرطاس، فجعل جسد أبيه فى تمثال من الذهب الأحمر جزعا عليه وتعظيما له، وأجلسه على سرير من الذهب مرصّع بالجوهر، وجعل مجلسه دونه، وسجد له وهو فى جوف ذلك التمثال، وسجد معه أهل مملكته، وفعل ذلك فى كل نهار فى طرفيه. وكانت مدّة ملكه بعد أبيه نحوا من مائتى سنة وخمسين سنة ثم هلك.
فملك بعده ابنه عبيرون «1» بن عرون. ولمّا ملك جعل جسد أبيه عرون فى تمثال من الذهب ونصبه دون مرتبة جدّه، وكان يبدأ بالسجود لجدّه ثم يسجد لأبيه، وساس الرعيّة بأحسن سياسة، وساواهم فى جميع أمورهم، وشملهم بعدله، وكثر النسل، وأخصبت الأرض. وكان ملكه الى أن هلك مائتى سنة.
ولمّا مات ملك بعده ولده عثينان «2» بن عبيرون. قال: ولمّا ملك جعل جسد أبيه فى تمثال من الذهب، وجرى فى أمره على ما سلف من عادتهم فى السجود والتعظيم. وطالت مدّته فى الملك، واتسعت مملكته حتى اتصلت بلاده ببلاد الترك من بنى عمه. واتّخذ فى أيامه كثير من المهن مما لطف فى الرقة من الصنائع، وعاش أربعمائة سنة ثم هلك.
فملك بعده ابنه حرانان «3» بن عثينان. قال: ولما ملك جرى فى جسد أبيه على عادتهم، ثم أمر باتّخاذ الفلك وحمل فيها الرجال، وحمل معهم لطائف بلاد الصين وسفّرهم نحو بلاد الهند والسند والى إقليم بابل وسائر الممالك مما قرب وبعد فى البحر. وأهدى الى الملوك الهدايا العجيبة والتحف النفيسة. وأمر أصحابه الذين سفّرهم أن يجلبوا إليه ما فى كل بلد من الطرائف والتحف والمأكول الذى لا يوجد فى بلاده، والمشروب والغروس وأصناف الأقمشة والأمتعة وغير ذلك. وأمرهم أن يتعرّفوا سياسة كلّ ملك، وملّة كل أمة وشرائعها ونهجها الذى هى عليه، وأن يرغّبوا الناس فيما فى بلادهم من الجواهر والطّيب والآلات.
فتفرّقت تلك المراكب فى البلاد وفعلوا ما أمرهم به، فلم يردوا على مملكة من الممالك إلّا أعجبوا بهم واستظرفوا ما معهم. فأنشأت الملوك المحيطة ممالكهم
بالبحار السفن وجهّزت نحو الصين، وحملوا إليهم ما ليس عندهم، وكاتبوا ملكهم وكافئوه على ما كان قد هاداهم به من تحف بلاده، فعمرت بلاد الصين، واستقامت أمور مملكته الصين. فكانت مدّة حياته فى الملك نحوا من مائتى سنة وهلك، فجزع أهل مملكته عليه وحزنوا حزنا شديدا، وأقاموا النياحة عليه شهرا.
وملك بعده ابنه توتال «1» بن حرانان. قال: ولما ملك جعل جسد أبيه فى تمثال من الذهب، وسلك فيه سنّة من تقدّمه من آبائه، واستقام أمره، وأحدث من السّنن المحمودة ما لم يحدثه أحد من الملوك قبله. وقال لأهل مملكته: إنّ الملك لا يثبت إلا بالعدل لأنه ميزان البارى، وإنّ من العدل الزيادة فى الإحسان مع الزيادة فى العمل. وخصّ وشرّف وتؤج ورتّب الناس فى رتبهم، ووقفهم على طرائفهم. وخرج يرتاد موضعا يبنى فيه هيكلا، فوافى موضعا عامرا بالنبات، حسن الاعتمام بالزهر، تخترقه المياه. فحطّ الهيكل هناك. وجلبت له أنواع الأحجار المختلفة الألوان، فشيّد الهيكل وجعل على أعلاه قبّة، وجعل لها مخارق للهواء متساوية. وجعل فى الهيكل بيوتا لمن أراد الانفراد للعبادة. فلمّا فرغ من الهيكل نصب فى أعلاه تلك التماثيل التى فيها أجسام من سلف من آبائه، وقال: فى ترك ذلك على ما هو عليه خروج عن حدّ الحكمة، ويكون ذلك الى غير غاية ونهاية.
وأمر بتعظيم تلك الأجساد التى جعلها فى أعلى القبّة. ثم جمع الخواصّ من أهل مملكته وأخبرهم أنّ من رأيه أن يضمّ الناس الى ديانة يرجعون إليها فيجتمع الشمل ويتساوى النظام، وقال: إنه متى عدم الملك الشريعة لم يؤمن عليه الخلل، ودخول الفساد والزلل؛ فرتّب لهم سياسة وشريعة «2» وفرائض، ورتّب لهم قصاصا
للنفوس والأعضاء، وقاعدة تستباح بها الفروج وتصحّ بها الأنساب. وجعل مما رتّبه وقرّره لوازم ونوافل، وأوجب عليهم صلوات لخالقهم تقرّبا الى معبودهم [منها «1» ] إيماء لا ركوع فيها ولا سجود [فى أوقات من الليل والنهار معلومة، ومنها بركوع وسجود «2» ] فى أوقات من السنين وفى شهور محدودة. ورسم لهم أعيادا، وأوجب على الزّناة منهم حدودا، وعلى من أراد من نسائهم البغاء جزية مقرّرة، وألّا يستبحن بالنكاح وقتا من الأوقات، وإن أقلعن عما كنّ عليه [تكف الجزية عنهنّ «3» ] .
وما يكون من أولادهنّ ذكورا «4» يكونون للملك جندا وعبيدا، وما يكون من أولادهنّ إناثا فلأمهاتهنّ ويلحقن بصنعتهنّ. وأمر بقرابين للهياكل ودخن وأبخرة للكواكب، وجعل لكل كوكب منها دخنا «5» يتقرّب إليه بها معمولة من أنواع الطّيب والعقاقير. وأحكم لهم جميع الأمور، فاستقامت أيامه وكثر النسل. فكانت مدّة حياته نحوا من مائة وخمسين سنة ثم مات، فجزعوا عليه جزعا عظيما، وجعلوه فى تمثال من الذهب ورصّعوه بالجوهر وبنوا له هيكلا عظيما، وجعلوا فى أعلاه سبعة أنواع من الجوهر على ألوان الكواكب السبعة وأشكالها، وجعلوا يوم وفاته صلوات وعيدا يجتمعون فيه عند [ذلك «6» ] الهيكل، وصوّروا صورته وذكروا سيرته فى لوح من الذهب، وجعلوه فى أعلى الهيكل من حيث تراه الأبصار ليكون ذلك مثالا لمن يرد بعده فى السياسة ونهج السيرة وصوّروا صورته على أبواب المدينة.
وعلى الدنانير والفلوس والثياب. وأكثر أموالهم الفلوس الصّفر والنّحاس. قال:
واستقرّت هذه المدينة دار ملك الصين وهى مدينة إيقو «7» . قال: ولهم مدينة عظيمة
نحو ما يلى مغرب الشمس من أرضهم يقال لها مدو، وتلى بلاد التّبّت. والحرب بين أهل مدو وبين أهل بلاد التّبّت سجال. ولم تزل الملوك ممن طرأ بعد هذا الملك أمورهم منتظمة، وأحوالهم مستقيمة، والخصب والعدل لهم شامل، والجور فى بلادهم معدوم، يقتدون بما نصب لهم تونال من الأحكام. وحروبهم على عدوّهم قائمة، وثغورهم مشحونة، والرزق على الجنود جار، والتجّار يختلفون اليهم فى البرّ والبحر من كل بلد.
ودينهم دين من سلف من آبائهم، وهى ملّة تدعى السّمنية «1» ، [عباداتهم «2» ] نحو من عبادات قريش قبل الاسلام، يعبدون الصّور ويتوجهون نحوها بالصلوات. فاللبيب فيهم يقصد بصلاته الخالق عز وجل، ويقيم التمثال من الأصنام وغيرها مقام قبلة.
والجاهل ومن لا علم له يشرك هذه التماثيل با [لاهية «3» ] الخالق ويعتقدهما «4» جميعا، وأنّ عبادتهم الأصنام تقرّبهم الى الله زلفى، وأنّ منزلتهم فى العبادة تنقص عن البارئ لجلالته وعظمته وسلطانه، وأنّ عبادتهم لهذه الأصنام طاعة له ووسيلة، الى أن ظهرت فى أهل الصين آراء ونحل حدثت من مذاهب الثّنويّة «5» وأهل الدهر. وقد كانوا قبل ذلك فى الآراء وعبادة التماثيل على حسب ما عليه عوامّ الهند وخواصّهم، فتغيّرت أحوالهم وبحثوا وتناظروا، إلّا أنهم ينقادون فى جميع أحكامهم الى ما نصب لهم من القاعدة التى قدّمناها. قال: وملكهم متصّل بملك الطّغرغر «6» . وكان اعتقاد
الطّغرغر القول بإله النور والظّلمة، وكانوا قبل ذلك جاهليّة جهلاء، سبيلهم فى الاعتقاد سبيل أنواع الترك، الى أن وقع إليهم شيطان من شياطين المانيّة «1» ، فزخرف لهم كلاما يريهم فيه تضادّ هذا العالم وتنافيه من موت وحياة وصحّة وسقم وغنى وفقر وضياء وظلام واجتماع وافتراق واتصال وانفصال وشروق وغروب ووجود وعدم وليل ونهار وغير ذلك من سائر المتضادّات، وذكر لهم أنواع الآلام المعترضة لأجناس الحيوان الناطق والصامت، وما يعرض للاطفال والبله والمجانين، وأنّ البارى غنىّ عن إيلامهم، وأراهم أنّ هناك ضدّا شديدا دخل على الخير الفاضل فى فعله وهو الله، تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا، فاجتذب بذلك عقولهم ودانوا به. فإذا كان ملك الصين سمنىّ المذهب يذبح الحيوانات، فتكون الحرب بينه وبين ملك الترك قائمة، وإذا كان مانىّ المذهب كان الأمر بينهم «2» مشاعا.
قال: وملوك الصين ذوو آراء ونحل، إلّا أنهم مع اختلاف أديانهم غير خارجين عن قضيّة العقل وسنن الحق فى نصب القضاة والأحكام، وانقياد الخواصّ والعوامّ الى ذلك. قال: وأهل الصين شعوب وقبائل كشعوب العرب وأفخاذها، ولهم مراعاة لحفظ أنسابهم. وينتسب الرجل منهم الى خمسين أبا وأكثر الى أن يتصل بعامور «3» . ولا يتزوّج «4» أهل كل فخذ إلا من فخذهم، ويزعمون أنّ فى ذلك صحة النسل وقوام البنية، وأنّ ذلك أصحّ للبقاء وأتمّ للعمر.
قال المسعودىّ: ولم تزل أمور الصين مستقيمة فى العدل على حسب ما جرى به الأمر فيما سلف من ملوكهم الى سنة أربع وستين ومائتين؛ فإنه حدث فى ملك الصين أمر زال به النظام وانتقض به حكم شرائعهم ومنع من الجهاد. وكان سبب ذلك أنّ خارجيّا خرج ببلد من مدن الصين وهو من غير بيت الملك، يقال له ياسر، شرّير.
وكان فى ابتداء أمره يطلب الفتوّة، ويجتمع اليه أهل الدعارة والشرّ، فلحق الملوك وأرباب التدبير غفلة عنه لخمول ذكره، وأنه ممن لا يبالى به؛ فاشتدّ أمره، ونما ذكره، وكثر عتوّه، وقويت شوكته، وقطع أهل الشرّ المسافات نحوه. فسار من موضعه وشنّ الغارات، ولم يزل كذلك حتى نزل مدينة خانقو «1» ، وهى المدينة العظيمة.
قال: وهى على نهر عظيم أكبر من دجلة أو نحوه، تدخله السفن التى ترد من بلاد البصرة وسيراف «2» وعمان «3» ومدن الهند وجزائر الزابج «4» . وبين هذه المدينة وبحر الصين مسيرة
ستة أيام أو سبعة، وفيها خلائق من الناس مسلمون ونصارى ويهود ومجوس وغيرهم من أهل الصين. فقصد الخارجىّ هذه المدينة، والتقى بجيوش الملك فهزمها، وحاصر المدينة وفتحها واستولى على المملكة، وقتل من أهل مدينة خانقو خلقا لا يحصون كثرة، فأحصى من قتل فيها من المسلمين والنصارى واليهود غير أهل الصين فزادوا على مائتى ألف. ثم سار بجيوشه الى بلد بلد فافتتحه، وقصد مدينة إيقو، وهى دار المملكة، وهو فى ثلاثمائة ألف ما بين فارس وراجل. فخرج اليه الملك فى خواصّه فى نحو مائة ألف والتقيا، فكانت الحرب بينهم سجالا نحو شهر وصبرا جميعا، ثم كانت على الملك فانهزم، وأمعن الخارجىّ فى طلبه. وانحاز الملك الى مدينة فى أطراف أرض الصين. واستولى الخارجىّ على حوزة الصين واحتوى على دار الملك وخزائن الملوك السالفة وما أعدّوه للنوائب. وعلم أنه لا يقوم بالملك لأنه ليس من بيته، فأخرب البلاد واستباح الأموال وسفك الدماء. فكاتب ملك الصين ملك الترك أمرخان واستنجده، فأنجده ملك الترك بولده فى نحو أربعمائة ألف فارس وراجل.
وقد استفحل أمر الخارجىّ فالتقى الفريقان، فكانت الحرب بينهما سجالا نحو سنة وقتل من الطائفتين ما لا يحصى كثرة، ثم فقد الخارجىّ فقيل قتل وأسر ولده وخواصّ أصحابه، وعاد ملك الصين الى دار ملكه. قال: والعامّة تسميّة «بغيور» «1» ، وتفسيره ابن السماء تعظيما له. والاسم الذى يخاطب به ملوك الصين طمغاجيان، ثم لقّبوا بعد ذلك ملكهم بالخان. قال: ولمّا كان من أمر هذا الخارجىّ الذى ذكرناه تغلّب صاحب كل عمل على عمله، وضعف ملك الصين عن مقاومتهم. وسنذكر إن شاء الله تعالى ما آل اليه ملك الصين عند ذكرنا لأخبار الدولة الجنكز خانيّة.
والله أعلم.