الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ربّ السموات والأرض خالق السموات والأرض وما فيهما لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك أحى هذا البرذون» . فقام البرذون حيّا ينفض ناصيته. فعجب الملك والناس من ذلك. وسأله الملك عن خبره فأخبره أنه رسول عيسى بن مريم إليه والى قومه يدعوهم إلى عبادة الله تعالى، فآمنوا به. وقد قيل: إن الذى أرسل إلى أرض فارس متى الحوارىّ، وإنه لمّا دخل على الملك كان الملك سكرانا، فلمّا أحيا الفرس أمر الملك أصحابه بقتل متّى فقتلوه. فلمّا أفاق الملك من سكره سأل عنه فقيل له: إنك أمرت بقتله فقتلناه، فقال: ما علمت بذلك. فقاموا إليه وغسلوه وكفّنوه ودفنوه. ويقال: إنّ الله تعالى بعد دفنه خسف بالملك وأولاده وأهله. والله أعلم. ولنصل أخبار الحواريّين بخبر جرجيس وإن لم يكن منهم، فقد كانت له قصّة عجيبة تلتحق بهم.
ذكر خبر جرجيس رحمة الله عليه
قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى فى كتابه المترجم ب «يواقيت البيان فى قصص القرءان» بإسناده عن وهب بن منبّه قال: كان بالموصل ملك يقال له داديه «1» ، وكان قد ملك الشام كله ودان له أهله، وكان جبّارا عاتيا، وكان يعبد صنما يقال له أفلون، وكان جرجيس عبدا صالحا من أهل فلسطين قد أدرك بقايا من حواريّى عيسى عليه السلام، وكان تاجرا عظيما كثير المال عظيم الصدقة، وكان لا يأمن ولاية المشركين
عليه مخافة أن يفتنوه عن دينه. فخرج يريد الموصل «1» ومعه مال يريد أن يهديه إليه حتى لا يجعل لأحد من الملوك عليه سلطانا دونه. فجاءه حين جاءه وقد برز فى مجلس له وأمر بصنمه أفلون فنصب وأوقد نارا، فمن لم يسجد لصنمه ألقى فى النار. فلمّا رأى جرجيس ذلك قطع به وهاله وأعظمه وحدّث نفسه بجهاده، وألقى الله تعالى فى نفسه بغضه ومجاهدته. فعمد إلى المال الذى أراد أن يهديه له فقسمه فى أهل ملّته حتى لم يبق منه شىء وكره أن يجاهده بالمال. ثم أقبل عليه وقال له: إنك عبد مملوك لا تملك لنفسك شيئا ولا لغيرك، وإنّ فوقك ربّا هو الذى ملّكك وغيرك، وهو الذى خلقك ورزقك ويحييك ويميتك ويضرّك وينفعك، وإنك عمدت الى خلق من خلقه قال له: كن، فكان أصمّ أبكم لا ينطق ولا يسمع ولا يغنى عنك من الله شيئا، فزيّنته بالذهب والفضة فتنة للناس، ثم عبدته من دون الله. فكان من جواب الملك إيّاه أن سأله عن حاله وأمره ومن هو ومن أين هو. فأجابه جرجيس: أنا عبد الله وابن عبده وابن أمته أذلّ عباده وأفقرهم إليه، من التراب خلقت واليه أصير.
فقال له الملك: لو كان ربّك الذى تزعم كما تقول لرئى عليك أثره كما رئى أثرى على من حولى وفى طاعتى. فأجابه جرجيس بتحميد الله وتعظيم أمره وقال: أتعدل أفلون الأصمّ الأبكم الذى لا يغنى عنك شيئا بربّ العالمين الذى قامت السموات والأرض بأمره!. أو تعدل طرفلينا «2» وما نال بولايتك فإنه عظيم قومك بما نال إلياس
بولاية الله تعالى؛ فإنّ إلياس كان فى بدء أمره آدميّا يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق فلم تزل به كرامة الله تعالى حتى أنبت له الريش وألبسه النور فعاد إنسيّا ملكيّا سماويّا أرضيّا يطير مع الملائكة! أم تعدل مخلنطيس «1» وما نال بولايتك فإنه عظيم قومك، بالمسيح بن مريم وما نال بولاية الله تعالى فإنّ الله فضّله على رجال العالمين وجعله [وأمه «2» ] آية للمعتبرين! أم تعدل أمر هذه الروح الطيّبة التى اختارها الله لكلمته وسوّدها على إمائه وما نالت بولاية الله تعالى، بأزبيل «3» وما نالت بولايتك فإنها كانت من شيعتك وعلى ملّتك، فأسلمها الله مع عظم ملكها حتى اقتحمت عليها الكلاب فى بيتها فانتهشت لحمها وولغت فى دمها، وقطّعت الضباع أوصالها!.
فقال الملك: إنك لتحدّثنا عن أشياء ليس لنا بها علم؛ فأتنى بالرجلين اللذين ذكرت أمرهما حتى أنظر إليهما، فإنى أنكر أن يكون هذا من البشر. قال له جرجيس: إنما جاءك الإنكار من قبل الغرّة بالله تعالى. وأمّا الرجلان فلن تراهما ولا يريانك إلّا أن تعمل بعملهما فتنزل منازلهما. فقال له الملك: أمّا نحن فقد أعذرنا اليك وتبيّن لنا كذبك لأنك فخرت بأمور عجزت عنها. ثم خيّره الملك بين العذاب وبين السجود لأفلون.
فقال جرجيس: إن كان أفلون هو الذى رفع السماء ووضع الأرض فقد أصبت، وإلّا فاخسأ أيها النّجس الملعون. فلمّا سمعه الملك غضب وسبّه وسبّ إلهه وأمر بخشبة فنصبت له وجعل عليها أمشاط الحديد فخدش بها جسده حتى تقطّع لحمه وجلده وعروقه، ونضح خلال ذلك الخلّ والخردل، فحفظه الله تعالى من ذلك الألم والهلاك.
فلما رأى ذلك لم يقتله أمر بستّة مسامير من حديد فأحميت، حتى إذا جعلت نارا سمرّ
بها رأسه حتى سال دماغه، فحفظه الله من الألم والهلاك. فلمّا رأى ذلك لم يقتله أمر بحوض من نحاس وأوقد عليه حتى إذا جعله نارا أمر به فأدخل فى جوفه وأطبق عليه فلم يزل فيه حتى برد [حرّه «1» ] . فلمّا رأى أنّ ذلك لم يقتله دعا به فقال:
يا جرجيس، أما تجد ألم هذا العذاب الذى تعذّب به؟ فقال: إنّ ربّى الذى أخبرتك به حمل عنّى [ألم العذاب «2» ] وصبّرنى لأحتجّ عليك. فلمّا قال له ذلك أيقن الملك بالشرّ وخافه على نفسه وملكه، واجتمع رأيه أن يخلّده فى السجن. فقال له الملأ من قومه: إنك إن تركته طليقا فى السجن [يكلّم الناس «3» ] يوشك أن يميل بهم عليك، ولكن مر له بعذاب فى السجن يشغله عن كلام الناس. فأمر به فبطح [فى السجن «4» ] على وجهه ثم أوتد [له «5» ] فى يديه ورجليه أربعة أوتاد من حديد [فى كل ركن منها «6» وتد] ، ثم أمر بأسطوان من رخام فوضع على ظهره، وحمل ذلك الأسطوان ثمانية عشر رجلا، فظلّ يومه [ذلك «7» ] موتدا تحت الحجر. فلمّا أدركه الليل أرسل الله تعالى [اليه «8» ] ملكا فقلع عنه الحجر ونزع الأوتاد وأطعمه وسقاه وبشّره وعزّاه. فلمّا أصبح أخرجه من السجن وقال له: الحق بعدوّك فجاهده فى الله حقّ جهاده، فإنّ الله يقول لك:
أبشر واصبر فإنّى قد ابتليتك بعدوّك هذا سبع سنين يعذّبك ويقتلك فيهنّ أربع مرّات، فى كل ذلك أردّ إليك روحك، فإذا كانت الرابعة تقلبّت روحك وأوفيتك أجرك. قال: فلم يشعر الملك وأصحابه إلّا وجرجيس قد وقف على رءوسهم وهو يدعوهم إلى الله تعالى. فقال له الملك: يا جرجيس من أخرجك من السجن؟ قال: أخرجنى الذى سلطانه فوق سلطانك. فلمّا قال له ذلك ملىء غيظا ودعا بأصناف العذاب حتى لم يخلّف منها شيئا. فلمّا رآها جرجيس أوجس فى نفسه خيفة وفزعا منها، ثم أقبل على نفسه يعاتبها بأعلى صوته وهم يسمعون.
فلمّا فرغ من عتابه نفسه مدّوه بين خشبتين ثم وضعوا سيفا على مفرق رأسه فنشروه حتى سقط من بين رجليه وصار قطعتين، فعمدوا إلى أجزائه فقطّعوها قطعا، وللملك سبعة أسود ضارية، وكانوا صنفا من أصناف عذابه، فرموا بجسده إليها. فأمرها الله تعالى فخضعت له برءوسها وأعناقها وقامت على براثنها، فظلّ يومه ذلك ميّتا وهى أوّل موتة ماتها. فلمّا أدركه الليل جمع الله جسده الذى قطّعوه بعضه إلى بعض حتى سوّاه، ثم ردّ الله تعالى اليه روحه وأرسل ملكا فأخرجه من قعر الجبّ فأطعمه وسقاه وبشّره وعزّاه. فلمّا أصبحوا قال له الملك: يا جرجيس، قال: لبيك! قال: اعلم أنّ القدرة التى خلق الله تعالى بها آدم من التراب هى التى أخرجتك من قعر الجبّ، الحق بعدوّك وجاهده فى الله حقّ جهاده ومت موت الصابرين. فلم يشعر الملك وأصحابه إلّا وقد أقبل جرجيس وهم فى عيد لهم عكوف عليه صنعوه فرحا بموت جرجيس. فلمّا نظروا إليه وقد أقبل قال الملك: ما أشبه هذا بجرجيس! قالوا: كأنه هو. قال الملك: ما بجرجيس من خفاء إنه لهو، ألا ترون الى سكون ريحه وقلّة هيبته. قال جرجيس:
أنا هو، بئس القوم أنتم! قتلتم ومثّلتم فأحيانى الله بقدرته، فهلّموا الى هذا الرب العظيم الذى أراكم ما أراكم. فلما قال لهم ذلك أقبل بعضهم على بعض وقالوا:
ساحر سحر أعينكم. وجمعوا من كان ببلادهم من السحرة. فلمّا جاءوا قال الملك لكبيرهم: اعرض علىّ من كبير سحرك ما يقرّ عينى. قال: ادع لى بثور من البقر.
فلمّا أتى به نفث فى إحدى أذنيه فانشقّت باثنتين، ثم نفث فى الأخرى فإذا هو ثوران، ثم دعا ببذر فحرث وبذر، فشبّ الزرع واستحصد، ثم درس وذرى وطحن وعجن وخبز، كلّ ذلك فى ساعة واحدة. فقال الملك: هل تقدر أن تمسخه لى دابّة؟ قال الساحر: أىّ دابّة أمسخه لك؟ قال: كلبا. قال: ادع لى بقدح من ماء.
فلمّا أتى بالقدح نفث فيه الساحر ثم قال: اعزم عليه أن يشربه، فشربه جرجيس حتى أتى على آخره. فلمّا فرغ منه قال له الساحر: ماذا تجد؟ قال: ما أجد إلّا خيرا، قد كنت عطشت فلطف الله بى بهذا الشراب فقوّانى به عليكم. فأقبل الساحر على الملك فقال له: اعلم أيها الملك إنك لو كنت تقاسى رجلا مثلك اذا لقد كنت غلبته، ولكنك تقاسى جبّار السموات والأرض. وهو الملك الذى لا يرام.
قال: وكانت امرأة مسكينة من أهل الشام سمعت بجرجيس وما يصنع من الأعاجيب، فأتته وهو فى أشدّ ما هو فيه من البلاء، فقالت له: يا جرجيس، إنّى امرأة مسكينة ولم يكن لى مال إلا ثورا أحرث عليه فمات، فجئتك لترحمنى وتدعو الله تعالى أن يحيى لى ثورى. فذرفت عيناه، ثم دعا الله تعالى أن يحيى لها ثورها، وأعطاها عصا وقال لها: اذهبى الى ثورك فاقرعيه بهذه العصا وقولى له: احى بإذن الله. فقالت: يا جرجيس، مات ثورى منذ أيام ومزّقته السباع، وبينى وبينه أيام. فقال: لو لم تجدى منه إلّا سنّا واحدة ثم قرعتها بالعصا لقام بإذن الله تعالى.
فانطلقت حتى أتت مصرع ثورها، وكان أوّل شىء بدا لها أحد روقيه وشعر أذنيه، فجمعت أحدهما الى الآخر ثم قرعتهما بالعصا وقالت كما أمرها، فقام الثور بإذن الله تعالى وعملت عليه. قال: فلما قال الساحر للملك ما قال، قال رجل من أصحاب الملك، وكان أعظمهم من بعد الملك، إنكم قد وضعتم أمر هذا الرجل على السحر، وإنكم عذّبتموه فلم يصل اليه عذابكم، وقتلتموه فلم يمت، فهل رأيتم ساحرا يدرأ عن نفسه الموت وأحيا ميّتا قط؟ فقالوا له: إنّ كلامك لكلام رجل قد صغا إليه فلعلّه استهواك. فقال: بل آمنت بالله، واشهدوا أنّى برىء مما تعبدون. فقام اليه الملك وأصحابه بالخناجر فقتلوه. فلمّا رأى القوم ذلك اتّبع جرجيس أربعة آلاف رجل. فعمد اليهم الملك فأوثقهم، ثم لم يزل يعذّبهم بأنواع العذاب حتى أفناهم. فلمّا
فرغ منهم قال لجرجيس: هلّا دعوت ربك فأحيا لك أصحابك هؤلاء الذين قتلوا بجريرتك!. فقال له جرجيس: ما خلّى بينك وبينهم حتى حان لهم. فقال رجل من عظماء أصحابه يقال له مخلنطيس: إنك زعمت يا جرجيس أن إلهك هو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده، وإنى سائلك أمرا إن فعله إلهك آمنت بك وصدّقتك وكفيتك، إنّ حولنا أربعة عشر كرسيّا ومائدة، وبيننا أقداح وصحاف وهى من أشجار شتّى، فادع إلهك ينشئ هذه الكراسىّ والأوانى كما بدأها أوّل مرّة حتى تعود خضراء يعرف كلّ عود منها بلونه وورقه وزهره. فقال له جرجيس: قد سألت أمرا عزيزا علىّ وعليك، وإنه على الله لهيّن، ودعا الله عز وجل، فما برحوا من مكانهم حتى اخضرّت تلك الكراسىّ والأوانى كلها وساخت عروقها وألبست اللحاء وتشعّبت فأورقت وأزهرت وأثمرت. فلمّا نظروا الى ذلك انتدب له مخلنطيس الذى تمنّى عليه ما تمنّى فقال: أنا أعذّب لكم هذا الساحر عذابا يضلّ عنه كيده. فعمد الى نحاس فصنع منه صورة ثور أجوف واسع، ثم حشاه نفطا ورصاصا وكبريتا وزرنيخا، ثم أدخل جرجيس مع الحشو فى جوفه، ثم أوقد تحت الصورة حتى التهبت وذاب كل شىء فيها واختلط، ومات جرجيس فى جوفها. فلمّا مات أرسل الله عز وجل ريحا عاصفا فملأت السماء سحابا أسود مظلما، فيه رعد وبرق وصواعق، وأرسل الله تبارك وتعالى إعصارا ملأت بلادهم عجاجا وقتاما حتى اسودّ ما بين السماء والأرض، ومكثوا أياما متحيّرين فى تلك الظّلمة لا يفصلون بين الليل والنهار، وأرسل الله تعالى ميكائيل فاحتمل الصورة التى فيها جرجيس، حتى اذا أقلّها ضرب بها الأرض ففزع من روعها أهل الشام أجمعون فخرّوا على وجوههم صعقين، وانكسرت الصورة فخرج منها جرجيس حيّا. فلمّا وقف يكلّمهم انكشفت الظلمة وأسفر ما بين السماء والأرض ورجعت اليهم أنفسهم. فقال له رجل يقال له طرفلينا: لا ندرى
يا جرجيس أأنت تصنع هذه الأعاجيب أم ربّك! فإن كان ربك هو الذى يصنع هذا فادعه يحى موتانا؛ فإنّ فى هذه القبور أمواتا منهم من يعرف ومنهم من لا يعرف.
فقال له جرجيس: لقد علمت ما يصفح الله عنكم هذا الصفح ويريكم هذه الأعاجيب إلّا كانت عليكم حجّة، فتستوجبوا غضبه، ثم أمر بالقبور فنبشت وهى عظام رفات وأقبل على الدعاء، فما برحوا من مكانهم حتى نظروا الى سبعة عشر إنسانا: تسعة رهط وخمس نسوة وثلاثة صبية، واذا فيهم شيخ كبير. فقال له جرجيس: يا شيخ، ما اسمك؟ فقال: يا جرجيس اسمى نوبيل. قال: متى متّ؟ قال: فى زمان كذا وكذا. فحسبوا فإذا هو مات منذ أربعمائة سنة. فلمّا نظر الملك وأصحابه الى ذلك قالوا: ما بقى من أصناف العذاب شىء إلّا وقد عذّبتموه به إلّا الجوع والعطش، فعذّبوه بهما. فعمدوا الى بيت عجوز كبيرة، وكان لها ابن أعمى أصمّ أبكم مقعد، فحصروه فى بيتها ولا يصل اليه من عند أحد طعام ولا شراب.
فلمّا بلغ به الجوع قال للعجوز: هل بقى عندك من طعام أو شراب؟ قالت:
لا والذى يحلف به ما عهدنا الطعام منذ كذا وكذا، وسأخرج ألتمس لك شيئا.
فقال لها جرجيس: هل تعرفين الله تعالى؟ قالت نعم. قال: فإيّاه تعبدين؟ قالت لا.
فدعاها الى الله عز وجل فصدّقته، وانطلقت تطلب له شيئا، وفى بيتها دعامة من خشبة يابسة تحمل خشب البيت، فأقبل على الدعاء، فاخضرّت تلك الدّعامة وأنبتت له كل فاكهة تؤكل أو تعرف، حتى كان فيها اللّوبيا واللّبان «1» مثل البردىّ يكون بالشام، وظهر للدّعامة فروع من فوق البيت أظلّته وما حوله. فأقبلت العجوز وهو فيما شاء يأكل رغدا. فلمّا رأت الذى حدث فى بيتها من بعدها قالت: آمنت بالذى أطعمك، فادع هذا الرّب العظيم ليشفى ابنى. قال: ادنيه منّى، فأدنته، فبصق
فى عينيه فأبصر، ونفث فى أذنيه فسمع. قالت له: أطلق لسانه ورجليه رحمك الله. قال: خذيه فإنّ له يوما عظيما. وخرج الملك يوما ليسير فى مدينته، إذ وقع بصره على الشجرة، فقال: إنى أرى شجرة بمكان ما كنت أعرفها به. قالوا: تلك شجرة نبتت لذلك الساحر الذى أردت أن تعذّبه بالجوع، فهو فيما شاء وقد شبع منها وأشبع العجوز الفقيرة وشفى لها ابنها. فأمر الملك بالبيت فهدم وبالشجرة لتقطع.
فلمّا همّوا بقطعها أيبسها الله تعالى وردّها كما كانت أوّل مرّة، فتركوها. وأمر بجرجيس فبطح على وجهه وأوتد له أربعة أوتاد، وأمر بعجلة وأوقرها أسطوانا وجعل فى أسفل العجلة خناجر وشفارا، ثم دعا بأربعين ثورا فنهضت بالعجلة نهضة واحدة وجرجيس تحتها، فانقطع ثلاث قطع، فأمر بقطعه فأحرقت بالنار، حتى اذا عادت رمادا بعث بذلك الرّماد وبعث معه رجالا فذرّوه فى البحر، فلم يبرحوا من مكانهم حتى سمعوا صوتا من السماء: يا بحر، إنّ الله يأمرك أن تحفظ ما فيك من هذا الجسد الطيّب، فإنّى أريد أن أعيده كما كان. ثم أرسل الله تعالى الريح فأخرجته ثم جمعته حتى صار الرّماد صبرة كهيئة قبل أن يذرّوه؛ فخرج منه جرجيس مغبرا ينفض رأسه، فرجعوا ورجع جرجيس، فأخبروا الملك خبر الصوت [الذى سمعوا «1» ] والريح التى جمعته، فقال: هل لك يا جرجيس فيما هو خير لى ولك مما نحن فيه؟
ولولا أن يقول الناس إنك قهرتنى وغلبتنى لاتّبعتك وآمنت بك، ولكن اسجد لأفلون سجدة واحدة واذبح له شاة واحدة، ثم إنى أفعل ما يسرّك. فقال له: نعم، مهما شئت فعلت، فأدخلنى على صنمك. ففرح الملك بقوله فقام وقبّل يديه ورجليه ورأسه وقال: إنّى أعزم عليك ألّا تظل هذا اليوم إلّا عندى، ولا تبيت هذه الليلة إلّا فى بيتى وعلى فراشى، حتى تستريح ويذهب عنك وصب العذاب، ويرى الناس كرامتك علىّ،
فأخلى له بيت فظلّ فيه جرجيس، حتى اذا أدركه الليل قام يصلّى ويقرأ الزّبور، وكان أحسن الناس صوتا. فلمّا سمعت امرأة الملك استجابت له، فلم يشعر إلّا وهى خلفه تبكى معه، فدعاها جرجيس الى الإيمان فآمنت به، وأمرها فكتمت إيمانها.
فلمّا أصبح غدا به الملك الى بيت الأصنام ليسجد لها. [وقيل للعجوز التى كان سجن فى بيتها: هل علمت أن جرجيس قد فتن بعدك فأصغى الى الدنيا وقد خرج به الملك الى بيت أصنامه ليسجد لها «1» ] فخرجت العجوز تحمل ابنها على عاتقها وتوبّخ جرجيس والناس مشغولون عنها. فلمّا دخل جرجيس بيت الأصنام ودخل الناس معه نظر فإذا العجوز وابنها على عاتقها أقرب الناس اليه مقاما؛ فدعا ابن العجوز باسمه فنطق وأجابه ولم [يكن «2» ] يتكلّم قبل ذلك، ثم اقتحم عن عاتق أمه يمشى على رجليه وهما مستويتان وما وطئ على الأرض قبل ذلك قط. فلمّا وقف بين يدى جرجيس قال: اذهب فادع لى هذه الأصنام وهى حينئذ سبعون صنما على منابر من ذهب، وهم يعبدون الشمس والقمر معها. فقال له الغلام:
كيف أدعو الأصنام؟ قال: قل لها إن جرجيس يسألك ويعزم عليك بالذى خلقك إلّا أجبتيه. قال: فلمّا قال لها الغلام ذلك أقبلت تدحرج الى جرجيس، فلمّا انتهت اليه ركض الأرض برجله فخسف بها وبمنابرها، وخرج إبليس من جوف صنم منها هاربا فرقا من الخسف، فلمّا مرّ بجرجيس أخذ بناصيته، فخضع له وكلّمه جرجيس فقال له: أخبرنى أيها الرّوح النّجسة والخلق الملعون، ما الذى يحملك على أن تهلك نفسك وتهلك الناس وأنت تعلم أنك وجندك تصيرون الى جهنّم؟ فقال له إبليس: لو خيّرت بين ما أشرقت عليه الشمس وأظلم عليه الليل وبين هلكة واحد من بنى آدم وضلالته طرفة عين لاخترته على ذلك كله، وإنه ليقع لى من الشهوة واللذّة فى ذلك مثل جميع ما يتلذّذ به جميع الخلائق. ألم تعلم يا جرجيس أنّ الله تعالى
أسجد لأبيك آدم جميع الملائكة فسجدوا كلّهم وامتنعت أنا من السجود وقلت أنا خير منه!. فلما قال هذا أخلاه جرجيس. فما دخل إبليس منذ ذلك اليوم جوف صنم ولا يدخله بعدها فيما يذكرون أبدا. [فقال الملك: يا جرجيس خدعتنى وغدرتنى وأهلكت آلهتى «1» .] فقال جرجيس للملك: إنما فعلت ذلك لتعتبر ولتعلم أنها لو كانت آلهة لامتنعت منّى فكيف ثقتك- ويلك- بآلهة لم تمنع أنفسها منّى! وإنما أنا مخلوق ضعيف لا أملك إلّا ما ملّكنى ربّى. فلمّا قال جرجيس هذا كلّمتهم امرأة الملك وكشفت لهم إيمانها، وعدّدت عليهم [أفعالهم «2» ] أفعال جرجيس والعبر التى أراهم الله تعالى، وقالت لهم: ما تنتظرون من هذا الرجل إلّا دعوة فيخسف الله بكم الأرض كما خسف بأصنامكم. الله الله أيها القوم فى أنفسكم!. فقال لها الملك:
ويحك يا سكندرة! ما أسرع ما أضلّك هذا الساحر فى ليلة واحدة وأنا أقاسيه منذ سبع سنين فلم يظفر منّى بشىء قطّ! فقالت: أما رأيت الله كيف يظفره بك ويسلّطه عليك فيكون له الفلج والحجّة عليك فى كل موطن!. فأمر بها الملك عند ذلك فحملت على خشبة جرجيس التى كان عليها علّق، وحملت عليها الأمشاط التى جعلت على جرجيس. فلمّا تألّمت قالت: ادع ربك يا جرجيس فيخفّف عنّى فإنى قد المنى العذاب. فقال لها: انظرى فوقك. فلمّا نظرت ضحكت. فقال لها: ما الذى يضحكك؟ قالت: أرى ملكين فوقى معهما تاج من حلّى الجنة ينتظران به روحى أن تخرج. فلمّا خرجت أتيا بذلك التاج ثم صعدا بها الى الجنة. قال: فلمّا قبض الله تعالى روحها أقبل جرجيس على الدعاء فقال: اللهمّ أنت أكرمتنى بهذا البلاء لتعطينى فضائل الشهداء، فهذا آخر أيامى التى وعدتنى فيه الراحة من بلائك، فإنّى أسألك ألّا تقبض روحى ولا أزول من مكانى هذا حتى تنزل بهؤلاء القوم من