الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يونس فيهم ما شاء الله يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر الى أن مات الملك وماتت امرأة يونس وولداه جميعا، فاستخلف يونس الراعى على مدينة نينوى وخرج هو وسبعون رجلا من العبّاد حتى جاء الى جبل يقال له صهيون «1» فكانوا هناك يعبدون الله حقّ عبادته، حتى مات يونس عليه السلام، ومات العبّاد الذين صحبوه، فقبروا هناك فى جبل صهيون، رضى الله عنهم ورحمهم.
ذكر خبر بلوقيا وما شاهد من العجائب
وهذه القصّة تشتمل على عجائب كثيرة ووقائع قد ينكرها بعض من يقف عليها لغرابتها وليست بمستنكره بعد أن ثبت فى صحيح البخارى عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بلّغوا عنّى ولو آية «2» وحدّثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج ومن كذب علىّ متعمّدا فليتبوّا مقعده من النار» . ولنأخذ الآن فى سرد القصّة.
قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله تعالى فى كتابه المترجم بيواقيت البيان فى قصص القرآن بسند رفعه عن عبد الله بن سلّام قال:
كان فى بنى إسرائيل رجل يقال له «أوشيا» وكان من علمائهم، وكان كثير المال، وكان إماما لبنى إسرائيل، وكان قد عرف نعت «1» النبىّ صلى الله عليه وسلم فى التوراة، فخبأه وكتمه عنهم. وكان له ابن يقال له بلوقيا خليفة أبيه فى بنى إسرائيل، وذلك بعد سليمان بن داود عليهما السلام. فلمّا مات أوشيا بقى ابنه بلوقيا والأمانة فى يده والقضاء، ففتّش يوما خزائن أبيه فوجد فيها تابوتا من حديد مقفلا بقفل حديد، فسأل الخزّان عن ذلك، فقالوا:
لا ندرى. فاحتال على القفل حتى فكّه، فإذا فيه صندوق من خشب الساج، ففكّه وإذا فيه أوراق، فقرأها فإذا فيها نعت النبىّ صلى الله عليه وسلم وأمّته وهى مختومة بالمسك، فقرأ ذلك على بنى إسرائيل ثم قال: الويل لك يا أبت من الله فيما كتبت وكتمت من الحقّ وأهله!. فقالت بنو إسرائيل: يا بلوقيا، لولا أنك إمامنا وكبيرنا لنبشنا قبره وأخرجناه منه وحرّقناه بالنار. قال: يا قوم، [لا ضير «2» ] إنما ترك حظّ نفسه وخسر فى دينه ودنياه، فألحقوا نعت النبىّ صلى الله عليه وسلم وأمّته بالتوراة.
قال: وكانت أمّ بلوقيا فى الأحياء، فاستأذنها فى الخروج إلى بلاد الشام، وكانوا يومئذ فى بلاد مصر. فقالت: وما تصنع بالشام؟ قال: أسأل عن محمد وأمّته، فلعلّ الله تعالى أن يرزقنى الدخول فى دينه، فأذنت له. فبرز بلوقيا وقدم بلاد الشام.
فبينما هو يسير إذا انتهى إلى جزيرة من جزائر البحر، فإذا هو بحيّات كأمثال الإبل عظما وفى الطّول ما شاء الله وهنّ يقلن: لا إله إلّا الله محمد رسول الله. فقلن له: أيها الخلق المخلوق من أنت؟ وما اسمك؟ قال: اسمى بلوقيا، وأنا من بنى إسرائيل.
فقلن: وما إسرائيل؟ قلت: من ولد آدم. فقلن: سمعنا باسم آدم ولم نسمع باسم
إسرائيل. فقال بلوقيا: أيتها الحيّات من أنتنّ؟ فقلن: نحن حيّات من حيّات جهنّم ونحن نعذّب الكفّار فيها يوم القيامة. قال بلوقيا: وما تصنعن هاهنا؟ وكيف عرفتنّ محمدا؟ فقلن: إن جهنّم تفور وتزفر فى كل سنة مرّتين فتلقينا هاهنا ثم نعود إليها، فشدّة الحرّ فى الصيف من حرّها، وشدّة البرد فى الشتاء من بردها. وليس فى جهنّم درك من دركاتها، ولا باب من أبوابها، ولا سرادق من سرادقاتها إلا وقد كتب عليه:«لا إله إلّا الله محمد رسول الله» فمن أجل هذا عرفنا محمدا صلى الله عليه وسلم. قال بلوقيا: أيتها الحيّات، هل فى جهنّم مثلكنّ أو أكبر منكنّ؟
فقلن: إن فى جهنّم حيّات تدخل إحدانا فى أنف إحداهنّ وتخرج من فمها ولا تشعر بذلك لعظمها. قال: فسلم بلوقيا عليهنّ ومضى حتى أتى جزيرة أخرى، فإذا هو بحيّات كأمثال الجذوع والسوارى، وعلى متن إحداهنّ حيّة صغرى صفراء كلما مشت اجتمعت الحيّات حولها فإذا نفخت صرن تحت الأرض خوفا منها. فلمّا رآها ورأته قالت له: أيها الخلق المخلوق من أنت؟ وما اسمك؟ قال: اسمى بلوقيا، وأنا من بنى إسرائيل من ولد ابراهيم. فاخبرينى أيتها الحيّة من أنت؟ قالت: أنا موكّلة بالحيّات واسمى تمليخا، ولولا أنى موكّلة بهنّ لقتلت الحيّات بنى آدم كلهم فى يوم واحد، ولكنّى اذا صفّرت صفرة [واحدة «1» ] وسمعن صوتى دخلن فى الماء الذى تحت الأرض. ولكن يا بلوقيا إن لقيت محمدا صلى الله عليه وسلم فأقرئه منّى السلام.
قال: ومضى بلوقيا إلى بلاد الشام فأتى بيت المقدس، وكان بها حبر من أحبارهم يسمّى عفّان الخير، فأتاه فسلم عليه وقصّ عليه قصّته. فقال له: ليس هذا زمان محمد ولا زمان أمّته، بينك وبينه بعد سنين وقرون. ثم قال عفّان: يا بلوقيا أرنى موضع الحية التى اسمها تمليخا، فإن قدرت أن أصيدها رجوت أن أنال معك ملكا
عظيما ونحيا حياة طيّبة الى أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فندخل فى دينه.
قال: فمن حرص بلوقيا على الدخول فى دين محمد صلى الله عليه وسلم قال: أنا أريك المكان. فقام عفّان وأخذ تابوتا من حديد وحمل فيه قدحين من فضّة فى أحدهما خمر وفى الآخر لبن؛ ثم سارا جميعا حتى انتهيا الى موضع الحيّة ففتحا باب التابوت وتنحيّا.
وجاءت الحيّة تبغى الرائحة فدخلت التابوت وشربت من اللبن والخمر حتى سكرت ونامت. فقام عفّان ودبّ الى التابوت دبيبا خفيفا فأغلق بابه واحتضنه وسارا جميعا فلم يمرّا بشجرة ولا بيت إلا كلمهما بإذن الله تعالى. فمرّا بشجرة يقال لها الدواء فقالت: يا عفان، من يأخذنى ويقطعنى ويدقّنى ويعصر مائى ودهنى ويطلى به قدميه فإنه يغوص البحار السبعة ولا تبتّل قدماه ولا يغرق. فقال عفّان: إيّاك طلبت، فقطع تلك الشجرة فدقّها وعصر دهنها وجعله فى كوز ثم خلّى عن الحيّة فطارت بين السماء والأرض وهى تقول: يا بنى آدم ما أجرأكم على الله تعالى، ولن تصلوا الى ما تريدون، وذهبت الحيّة. وسار عفّان وبلوقيا الى اليمّ فطليا أقدامهما ثم عبرا البحر ومشيا على الماء كما كانا يمشيان على الأرض حتى قطعا البحر الأوّل ثم الثانى، فإذا هما بجبل فى وسط البحر ليس بعال ولا متدان ترابه كالمسك، عليه غمام أبيض، وفيه كهف، وفى الكهف سرير من الذهب عليه شابّ مستلق على قفاه ذو وفرة «1» ، واضع يده اليمنى على صدره واليسرى على بطنه بمنزلة النائم وليس بنائم وهو ميّت، وعلى رأسه تنّين وخاتمه فى الشمال. قال: وكان ذلك سليمان بن داود، وملك سليمان فى خاتمه، وكانت حلقته من ذهب وفصّه من ياقوت أحمر مربّع، مكتوب عليه أربعة أسطر، فى كل سطر اسم من أسماء الله الأعظم. وكان عند عفّان علم من الكتاب، فقال بلوقيا: من هذا؟ قال: هذا سليمان بن داود، نريد أن نأخذ خاتمه
فنملك ملكه ونرجو الحياة إلى أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم. فقال بلوقيا:
أليس قد سأل سليمان ربه: «ربّ هب لى ملكا لا ينبغى لأحد من بعدى» فأعطاه الله إيّاه على ما سأل، ولا ينال ملك سليمان إلى يوم القيامة لدعائه. فقال عفّان:
يا بلوقيا اسكت إنّ الله معنا ومعنا اسم الله الأعظم، ولكن أنت يا بلوقيا فاقرأ التوراة. فتقدّم عفّان لينزع خاتم سليمان من إصبعه، فقال التّنين: ما أجرأك على الله! إن غلبتنا باسم الله فنحن نغلبك بقوّة الله. قال: فكلّما نفخ التنّين ذكر بلوقيا اسم الله، فلم تعمل نفخات التّنين فيهما. ودنا عفّان من السرير لينزع الخاتم من إصبع سليمان، فاشتغل بلوقيا بالنظر إلى نزول جبريل من السماء، فلمّا نزل صاح بهما صيحة ارتجّت الأرض والجبال وتزلزت منها واختلطت مياه البحار وماجت والتطمت حتى صار كلّ عذب ملحا من شدّة صيحته، وسقط عفان على وجهه، ونفخ التنّين فخرجت من بطنه شعلة نار كأنها البرق الخاطف، فاحترق عفّان وعادت نفخته فى البحر فما مرت البرقة بشىء إلّا أحرقته ولا بماء إلا أجاشته وأغلته. وذكر بلوقيا اسم الله الأعظم فلم ينله مكروه، ثم تراءى له جبريل فى صورة رجل فقال له: يابن آدم ما أجرأك على الله تعالى! فقال له بلوقيا: من أنت رحمك الله؟ قال: أنا جبريل أمين ربّ العالمين. قال له يا جبريل، إنما خرجت حبّا لمحمد ودينه ولم أقصد الخطأ ولم أتعمّده. قال: فبذلك نجوت. ثم صعد جبريل إلى السماء، ومضى بلوقيا فطلى قدميه بذلك الدّهن فأضلّ الطريق الذى جاء منه وأخذ فى طريق آخر، وسار فقطع ستّة أبحر ووقع فى السابع فإذا هو بجزيرة من ذهب حشيشها الورس «1» والزعفران وأشجارها النخل والرّمان. قال بلوقيا: ما أشبه هذا المكان بالجنّة على ما وصفت!.
ثم دنا من بعض تلك الأشجار فتناول من ثمرها، فقالت الشجرة: يا خاطئ ابن الخاطئ
لا تأخذ منّى شيئا. فتعجّب، وإذا بحيال الشجرة قوم يتراكضون، بأيديهم سيوف مسلولة، يتناوش بعضهم بعضا بالطعن والضرب. فلمّا رأوا بلوقيا طافوا به وأحدقوا من ورائه وهمّوا به سوءا، فذكر اسم الله فهابوه وعجبوا منه وأغمدوا سيوفهم وقالوا بأجمعهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم قالوا له: من أنت يا عبد الله؟ قال:
أنا من بنى آدم اسمى بلوقيا. قالوا: نعرف آدم ولا نعرفك فما أوقعك إلينا؟ قال:
إنى خرجت فى طلب نبىّ يسمّى محمدا وإننى قد ضللت عن الطريق الذى أردته فرأيت من الأهوال كذا وكذا. قالوا: يا بلوقيا نحن من الجنّ مؤمنون، ونحن مع ملائكة الله فى السماء، ثم نزلنا إلى الأرض وقاتلنا كفرة الجنّ ونحن هاهنا مقيمون نغزوهم ونجاهدهم إلى يوم القيامة، ولسنا نموت إلى يوم القيامة وأنت لا تصبر معنا. فقال بلوقيا لملك الجنّ: يا صخر، أخبرنى عن خلق الجنّ كيف كان؟ قال: لمّا خلق الله جهنّم خلق لها سبعة أبواب وسبعة ألسن، خلق منها خلقين: خلق فى سمائه [سمّاه «1» ] حيليت «2» ، وخلق فى أرضه [سمّاه «3» ] تمليت «4» . فأمّا حيليت فإنه خلق على صورة أسد، وتمليت فى صورة ذئب، وجعل الأسد ذكرا والذئب أنثى، وجعل طول كلّ واحد منهما مسيرة خمسائة عام، وجعل ذئب الذئب بمنزلة ذنب العقرب، وذنب الأسد بمنزلة الحيّة، وأمرهما أن ينتفضا فى النار انتفاضة ففعلا، فسقط من ذنب الذئب عقارب «5» ، ومن ذنب الأسد حيّات «6» . فعقارب جهنّم وحيّاتها من ذلك.
ثم أمرهما أن يتناكحا ففعلا، فحمل الذئب من الأسد فولد سبعة بنين وسبع بنات.
فأوحى الله تعالى إليهم أن يزوّج البنات من البنين كما أمر آدم، فستّة بنين
أطاعوا وواحد لم يطع ولم يتزوّج فلعنه أبوه وهو إبليس. وكان اسمه الحارث، وكنيته أبو مرّة؛ فهذا أوّل خلق الجنّ. ثم قال له: يا بلوقيا إنّ دوابّنا لا تثبت مع الإنس ولكن أجلّل فرسى وأبرقعه حتى لا يعرف راكبه، فاركب عليه على اسم الله تعالى؛ فإذا انتهيت إلى أقصى أعمالى «1» على ساحل بحر كذا وإذا شيخ وشابّ ومشايخ معهما فإنك ستلقاهما هناك فادفع الفرس إليهما وامض فى حفظ الله راشدا. فجاء بلوقيا على الفرس حتى انتهى إليهم فسلم على الشيخ والشابّ ونزل عن الفرس ودفعه إليهما. وكان قد فصل من عند ملك الجنّ عند صلاة الغداة ووصل إليهما نصف النهار. فقالا لبلوقيا: مذكم فارقت الملك؟ قال: فارقته غدوة. فقالا له: ما أسرع ما جئت! قد أتعبت فرسنا. فقال بلوقيا: والله ما مددت إليه يدا ولا حرّكت عليه رجلا ولم أركضه عنفا. قالا: صدقت ولكن فرسنا أحسّ بك وبمنزلتك «2» ، فطار ما بين السماء والأرض ليريح نفسه منك، فكم تراه جاء بك؟ قال: خمسة فراسخ أو أقلّ أو أكثر. قالا: بل جاء بك مسيرة مائة وعشرين سنة، وكان يطير بك بين السماء والأرض حول الدنيا دون «قاف» وأنت لا تعلم. فحوّلوا عنه السّرج واللّجام والبرقع وإذا العرق يقطر من كلّ شعرة منه، وله جناحان انقضّا من كثرة الطيران.
فقال بلوقيا: هذا والله العجب. فقالوا: يا بلوقيا عجائب الله لا تنقضى. ثم سلم عليهم ومضى فركب اليمّ. فبينما هو يسير إذ رأى ملكا إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب وهو يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فسلم عليه بلوقيا، فقال له الملك:
من أنت أيها الخلق المخلوق؟ فقال: أنا بلوقيا وأنا من بنى إسرائيل من ولد آدم.
ثم قال له: أيّها الملك ما اسمك؟ قال: [اسمى يوحاييل وأنا موكّل بضوء النهار وظلمة الليل. فقال: فما بال يديك مبسوطتين؟ فقال له: فى يدى اليمنى ضوء النهار،
وفى يدى اليسرى ظلمة الليل، ولو سبق النهار الليل لأضاءت السموات والأرضون، ولم يكن الليل أبدا، ولو سبقت الظّلمة النور لأظلمت السماء والأرض ولم يكن ضوء أبدا. وبين يديه لوح معلّق فيه سطران سطر أبيض وسطر أسود، فإذا رأيت السواد ينتقص نقصت الظلمة، وإذا رأيت السواد يزيد زدت الظّلمة، وإذا رأيت السطر الأبيض يزداد زدت فى البياض والنور، وإذا انتقص نقصت، فلذلك الليل فى الشتاء أطول والنهار أقصر؛ وفى الصيف النهار أطول والليل أقصر.
ثم سلم بلوقيا ومضى، فإذا هو بملك قائم يده اليمنى فى السماء ويده اليسرى فى الأرض فى الماء تحت الثرى وهو يقول: لا إله الله محمد رسول الله. فسلم عليه بلوقيا، فقال له: من أنت وما اسمك؟ قال اسمى بلوقيا وأنا من بنى إسرائيل من ولد آدم. قال له بلوقيا: أيها الملك ما اسمك؟ قال «1» ] : اسمى ميخاييل «2» . قال: فما لى أراك يمينك فى السماء وشمالك فى الماء؟ قال: أحبس الريح بيمينى والماء بشمالى، ولو رفعت شمالى عن الماء لزخرت البحار كلّها فى ساعة واحدة ولطمت بإذن الله تعالى، ويدى اليمنى فى الهواء أحبس الريح عن بنى آدم لأنّ فى السماء ريحا يقال لها الهائمة «3» لو أرسلنها لقتلت من فى السماء ومن فى الأرض من بردها. فسلم عليه بلوقيا ومضى، وإذا بأربعة من الملائكة، أحدهم رأسه كرأس الثّور «4» ؛ والآخر رأسه كرأس النسر؛ والثالث رأسه كرأس الأسد؛ والرابع رأسه كرأس الإنسان. فالذى رأسه كرأس الثّور يقول: اللهم ارفع العذاب عن البهائم، وارفع عنهم برد الشتاء وحرّ الصيف، واجعل لهم فى قلوب بنى آدم الرأفة والرحمة كيلا يكرهنّ ولا يكلّفوهن «5» فوق طاقتهن،
واجعلنى من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. وأمّا الذى رأسه كرأس النسر فيقول: اللهم ارحم الطيور ولا تعذّبها، وادفع عنها برد الشتاء وحرّ الصيف، واجعلنى من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
وأمّا الذى رأسه كرأس الأسد فإنه يقول: اللهمّ ارحم السّباع ولا تعذبها وادفع عنها برد الشتاء وحرّ الصيف، واجعلنى من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. وأمّا الذى رأسه كرأس الإنسان فإنه يقول: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، اللهمّ ارحم المسلمين ولا تعذّبهم وادفع عنهم حرّ النار، واجعلنى من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. فسلم عليهم ومضى حتى أتى على جبل قاف واذا هو بملك قائم على قاف، وهو جبل محيط بالدنيا من ياقوتة خضراء. فسلم بلوقيا على الملك، فقال له: من أنت؟ فقال: أنا بلوقيا وأنا من بنى إسرائيل من ولد آدم.
فقال الملك: وأين تريد؟ قال: خرجت فى طلب من يسمى محمدا. ولست أرى أمره ولا أدرى فى أىّ بلاد أنا. فقال الملك: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، قد أمرنا بالصلاة على محمد. قال بلوقيا: أيها الملك، ما اسمك؟ قال: اسمى حزقاييل. قال:
وما تصنع هنا؟ قال: أنا أمين الله على قاف، واذا فى يده وتر مرّة يعقده ومرّة يحلّه، وعروق الأرض كلها مشدودة عليه والوتر فى كفّ الملك [قال «1» :] فإذا أراد الله أن يضيّق على عباده أمرنى أن أمدّ الوتر وأعقده وأرتق «2» عروق الأرض فتضيق الدنيا على العباد والبلاد. وإذا أراد الله أن يوسّع عليهم أمرنى أن أرخى الوتر وأفتق عروق الأرض فتتّسع الدنيا على العباد والبلاد. وإذا أراد أن يخوّف قوما أمرنى أن أحرّك عروق تلك الأرض، فمن أجل ذلك موضع يهتزّ وموضع لا يهتزّ، وموضع يتزلزل وموضع
لا يتزلزل. قال بلوقيا: أيها الملك، ما وراء قاف؟ قال: وراء قاف أربعون دنيا غير الدنيا التى جئت منها، فى كلّ دنيا أربعمائة ألف «1» باب، فى كل باب أربعة آلاف ضعف مثل الدنيا التى جئت منها، وليس فيها ظلمة بل كلّها نور وأرضها ذهب عليها حجب من نور، وسكّانها الملائكة لا يعرفون آدم ولا إبليس ولا جهنّم وهم يقولون:
لا إله إلا الله محمد رسول الله، لذلك ألهموا وله خلقوا وبه أمروا الى يوم القيامة.
قال بلوقيا: فما وراءهم؟ قال: حجب ووراء الحجب علم الله وقدرته. قال بلوقيا:
أخبرنى أيها الملك على أىّ شىء هذا الجبل موضوعا؟ قال: على قرنى ثور واسمه قرياطيه «2» وهو أبيض، رأسه بالمشرق ومؤخّره بالمغرب، وما بين قرنيه مسيرة ثلاثين ألف سنة وهو ساجد لربّه على صخرة بيضاء. قال بلوقيا: أيها الملك، كم الأرضون؟ وكم البحار؟ قال: الأرضون سبع، والبحار سبع. قال: فجهنّم أين هى؟
قال: تحت الأرض السابعة. قال: فسلم بلوقيا عليه ومضى حتى انتهى الى حجاب طرفه فى السماء وأسفله فى الماء، عليه باب مقفل وعليه خاتم من نور، وعلى الباب ملكان أحدهما رأسه كرأس الثور، والآخر رأسه كرأس الكبش وبدنه كبدن الثور وهما يقولان: لا إله إلّا الله محمد رسول الله. قال: فسلم بلوقيا عليهما فردّا عليه السلام وقالا: أيها الخلق الضعيف المخلوق من أنت؟ وما اسمك؟ قال: اسمى بلوقيا وأنا من بنى إسرائيل من ولد آدم. فقالا: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، هذه أسامى ما عرفناها. قال بلوقيا؟ كيف عرفتم محمدا ولم تعرفوا آدم ومحمد من نسله؟.
فقالا: لهذا خلقنا وبذلك أمرنا، ولم نسمع باسم آدم ولا إسرائيل. فقال بلوقيا:
افتحا لى الباب حتى أجوز. فقالا: ما نحسن فتحه، وإنّ لله فى السماء ملكا اسمه
جبرائيل عسى أن يقدر على فتحه. فدعا بلوقيا، فأمر الله تعالى جبريل فنزل عليه وفتح الباب، ثم قال: يابن آدم ما أجرأك على الله! ثم جاز بلوقيا حتى انتهى الى بحرين:
بحر مالح وبحر عذب. فلمّا وصل إليهما رأى بينهما حاجزا، وفى البحر المالح جبل من ذهب، وفى البحر العذب جبل من فضّة، وبينهما ملك على صورة النمل ومعه ملائكة على تلك الصورة. فسلم عليهم فردّوا عليه السلام وقالوا له: من أنت؟
فأخبرهم بقصّته. ثم قال بلوقيا: من أنتم؟ قالوا: نحن أمناء الله تعالى على هذين البحرين لا يلتقيان ولا يبغيان. فقال لهم بلوقيا: ما هذا الجبل الأحمر؟ قالوا:
هذا كنز الله فى الأرض وكلّ ذهب فى الأرض إنما هو من نصاب هذا الجبل، وكلّ ما فى الدنيا من ماء عذب هو من هذا البحر. وهذا البحر إنما يجىء من تحت العرش من قبل أن خلق الله تعالى الملائكة؛ وكل ما يجرى من ماء مالح فهو من ذلك البحر الملح. وهذا الجبل الأبيض هو من فضّة وهو كنز الله تعالى؛ وكل كنز فى الدنيا وكل معدن فضّة فهو من عروق هذا الجبل. فسلم بلوقيا عليهم ومضى حتى انتهى الى بحر عظيم، فإذا هو بحيتان كثيرة عظيمة وقد اجتمعت وبينها حوت عظيم يقضى بين الحيتان. فلمّا نظر الى بلوقيا قال: لا إله إلّا الله محمد رسول الله.
فسلم بلوقيا وأخبره بحال النبىّ صلى الله عليه وسلم وأنه خرج فى طلبه، فردّ السلام ثم قال: يا بلوقيا، إن لقيت محمدا فأقرئه منّى السلام. فقال:
نعم إن شاء الله. ثم قال: أيّتها الحيتان إنى جائع عطشان وماء البحر ملح وما أجد ما آكل. فقال الحوت الأعظم: يا بلوقيا سأطعمك طعاما تسير أربعين سنة لا تعيا ولا تجوع ولا تعطش، قال: فأطعمه ذلك الحوت قرصا أبيض، فأكله ومضى حتى بلغ العمران. قال: ومن قبل أن يبلغ العمران رأى شابّا يجرى على الماء كأنه البدر. فقال له بلوقيا: من أنت؟ قال: سل الذى خلفى. فسار بلوقيا يوما
وليلة فإذا هو بآخر يمرّ على الماء ضوءه كضوء النجوم. فقال له بلوقيا: يا فتى، من أنت؟ قال: سل الذى خلفى. فسار بلوقيا يوما وليلة، فإذا هو بشابّ كأنه القمر يلوح فى آخر الشمس «1» ، فقال بلوقيا: أنشدك الله إلّا وقفت. قال: فوقف وقال:
لماذا استحلفتنى؟ قال: خشيت أن تفوتنى مثل أصحابك الماضين، فمن كان الأوّل؟ قال: إسرافيل صاحب الصّور، والثانى ميكائيل صاحب المطر، والثالث جبرائيل أمين ربّ العالمين. فقال بلوقيا: ماذا تصنعون فى اليمّ؟ قال جبريل:
حيّة من حيّات البحر قد آذت سكّانه، فدعوا الله عليها فاستجاب الله دعاءهم وأمرنا أن نسوقها الى جهنّم ليعذّب الله بها الكفّار يوم القيامة. قال بلوقيا: كم طولها وكم عرضها؟ قال: طولها مسيرة ثلاثين سنة، وعرضها مسيرة عشرين سنة.
فقال بلوقيا: يا جبريل، أيكون فى جهنّم مثل هذه أو أكبر منها؟ فقال جبريل:
إنّ فى جهنّم من الحيّات ما تدخل هذه فى أنف إحداهنّ ولا تشعر بها من عظم خلقتها. فسلم بلوقيا عليه ومضى الى جزيرة أخرى، وإذا هو بغلام أمرد بين قبرين، فسلم عليه بلوقيا وقال: يا شابّ، من أنت وما اسمك؟ قال: اسمى صالح.
قال: فما هذان القبران؟ قال: أحدهما أبى والآخر أمّى، كانا سائحين فماتا هاهنا، وأنا عند قبريهما حتى أموت. فسلم بلوقيا ومضى حتى انتهى الى جزيرة، فإذا هو بشجرة عظيمة عليها طائر رأسه من ذهب، وعيناه من ياقوت، ومنقاره من لؤلؤ، وبدنه من زعفران، وقوائمه من زمرد، واذا مائدة موضوعة تحت الشجرة وعليها طعام وحوت مشوىّ. فسلم عليه بلوقيا فردّ عليه الطائر السلام. فقال بلوقيا: أيها الطائر من أنت؟ قال: أنا من طيور الجنّة، وأنّ الله تعالى بعثنى الى آدم بهذه المائدة لمّا هبط من الجنة وكنت معه حتى لقى حوّاء، وأنا هاهنا من ذلك
الوقت، وكلّ غريب وعابر سبيل يمرّ بها ويأكل منها، وأنا أمين الله عليها الى يوم القيامة. فقال بلوقيا: ولا تتغيّر ولا تنقص! قال: طعام الجنّة لا يتغيّر ولا ينقص. فقال لبلوقيا: كل فأكل حاجته، ثم قال: أيها الطائر، هل معك أحد؟
قال: معى أبو العبّاس يأتينى أحيانا. قال: ومن أبو العبّاس؟ قال: الخضر.
فلمّا ذكر اسمه اذا هو بالخضر عليه السلام قد أقبل عليه ثياب بيض. قال:
فما خطا خطوة إلّا نبت الحشيش تحت قدميه. فسلّم عليه بلوقيا وسأله عن حاله.
قال بلوقيا: قد طالت غيبتى وأريد أن أرجع الى أمّى. قال الخضر: بينك وبينها مسيرة خمسمائة سنة، أنا أردّك فى مسيرة خمسمائة شهر. قال الطائر: إن كان بينك وبين أمّك مسيرة خمسمائة سنة أنا أردّك مسيرة خمسمائة يوم. قال الخضر: أنا أردّك إليها فى ساعة ثم قال: غمّض عينيك فغمّضهما ثم قال له: افتحهما ففتحهما، وإذا هو عند أمّه جالس. فسألها: من جاء بى؟ فقالت: جئت على متن طائر أبيض يطير بين السماء والأرض فوضعك قدّامى. قال: ثم إنّ بلوقيا حدّث بنى إسرائيل بما رأى من العجائب والأخبار، فأثبتوها وكتبوها الى يومنا هذا. فهذا ما كان من حدبث بلوقيا. والله أعلم.