الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث من القسم الثالث من الفن الخامس فى أخبار شعيا وإرميا عليهما السلام وخبر بختنصّر وخراب بيت المقدس وعمارته وما يتصل بذلك من خبر عزير وفتنة اليهود
ذكر قصة شعيا عليه السلام
قال أبو إسحاق الثعلبىّ رحمه الله: كان الملك اذا ملك من بنى إسرائيل بعث الله معه نبيّا يرشده ويسدّده ويكون فيما بين الناس وبين الله تعالى، ولا ينزل الله تعالى عليه كتابا إنما يأمر بأحكام التوراة وينهى عن المعصية، ويدعو الناس الى ما تركوا من الطاعة. وكان ممن ملك منهم «صديقة» . فلمّا ملك بعث الله تعالى شعيا بن أمصيا «1» ، فملك ذلك الملك بنى إسرائيل وبيت المقدس زمانا، ثم كثرت فى بنى إسرائيل الأحداث، فبعث الله سنحاريب «2» ملك بابل، معه ستمائة ألف راية، فأقبل حتى نزل حول بيت المقدس والملك إذ ذاك مريض فى ساقه قرحة، فجاء النبىّ شعيا عليه السلام فقال لملك بنى إسرائيل: إن سنحاريب ملك بابل قد أقبل ونزل بك فى ستمائة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم. فكبر ذلك على الملك وقال: يا نبىّ الله، هل أتاك وحى فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله
تعالى بنا وسنحاريب؟ قال: لم يأتنى وحى. فبينما هم كذلك أوحى الله تعالى إلى شعيا أن ائت ملك بنى إسرائيل فمره أن يوصى بوصية ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته. فأتاه شعيا فقال: إنّ ربك عز وجل قد أوحى إلىّ أن آمرك أن توصى وصيّتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميّت. فلمّا قال له شعيا ذلك أقبل صديقة الملك على القبلة فصلّى ودعا وبكى، فقال وهو يبكى ويتضرّع إلى الله عز وجل بقلب مخلص وتوكّل وصبر:[اللهم ربّ الأرباب وإله الآلهة القدّوس المقدس، يا رحمن يا رحيم، يا رءوف يا من لا تأخذه سنة ولا نوم، اذكرنى بنيّتى وفعلى وحسن قضائى فى بنى إسرائيل، وذلك كله كان منك وأنت أعلم به منّى سرّى وعلانيتى لك «1» ] ، فاستجاب الله تعالى دعاءه، وكان عبدا صالحا. فأوحى الله تعالى إلى شعيا أن أخبر صديقة أن الله استجاب له وقبل منه ورحمه وأخّر أجله خمس عشرة سنة، وأنجاه من عدوّه سنحاريب وجنوده. فأتاه شعيا فأخبره بذلك، فذهب عنه الجزع وخرّ ساجدا لله تعالى ودعاه. فلما رفع رأسه أوحى الله تعالى إلى شعيا أن قل للملك صديقة يأمر عبدا من عبيده فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحة ساقه فيشفى ويبرأ، ففعل ذلك فشفى. وقال الملك لشعيا: سل ربّك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدوّنا هذا. فقال الله تعالى لشعيا: قل له إنى كفيتك عدوّك وأنجيتك منهم، وإنهم سيصبحون موتى إلا سنحاريب وخمسة نفر من كتّابه. فلمّا أصبحوا جاء صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بنى إسرائيل، إن الله تعالى قد كفاك أمر عدوّك؛ فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا. فخرج الملك فالتمس سنحاريب فلم يوجد فى الموتى. فبعث الملك فى طلبه، فأدركه الطّلب فى مغازة وخمسة من كتّابه، أحدهم
بختنصّر، فجعلوهم فى الجوامع «1» ثم أتوا بهم ملك بنى إسرائيل، فلما رآهم خرّ ساجدا لله تعالى من حين طلعت الشمس إلى العصر، ثم قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربّنا؟ ألم يقتلكم بحوله وقوّته ونحن وأنتم غافلون؟! فقال سنحاريب: قد أتانى خبر ربّكم ونصره إيّاكم، ورحمته التى رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادى، فلم أطع مرشدا ولم يلقنى فى الشّقوة إلّا قلّة عقلى، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم، ولكن الشقوة غلبت علىّ وعلى من معى. فقال صديقة: الحمد لله رب العزّة الذى كفاناكم بما شاء. إنّ ربّنا لم يبقك ومن معك لكرامة لك عليه، ولكنّه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة فى الدنيا وعذابا فى الآخرة، ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا. ولدمك ودم من معك أهون على الله تعالى من دم قرادة لو قتلت.
ثم أمر صديقة أمير جيشه أن يقذف فى رقابهم الجوامع، فطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيليا «2» ، وكان يرزقهم فى كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل.
فقال سنحاريب لملك بنى إسرائيل: القتل خير مما تفعل بنا، فافعل ما أمرت. فأمر بهم الملك الى سجن القتل، فأوحى الله تعالى إلى شعيا: أن قل لملك بنى إسرائيل: يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم، وأن يكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم.
فبلّغ شعيا الملك ذلك، ففعل ما أمر به، وخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل «3» .
فلمّا قدموا جمع سنحاريب الناس وأخبرهم كيف فعل الله بجنوده. فقال له كهّانه وسحرته: قد كنا نقصّ عليك خبر ربهم وخبر نبيّهم ووحى الله إلى نبيّهم، فلم تطعنا، وهى أمّة لا يستطيعها أحد من ربّهم. ولبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ومات. واستخلف بختنصّر ابن ابنه على ما كان عليه جدّه، فعمل بعمله وقضى بقضائه، فلبث سبع عشرة سنة ثم قبض الله تعالى صديقة ملك بنى إسرائيل، فمرج «1» أمر بنى إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضا، ونبيّهم شعيا معهم لا يرجعون إليه ولا يقبلون منه. فلما فعلوا ذلك أوحى الله تعالى إلى شعيا: أن قم فى قومك أوح على لسانك. فلمّا قام أوحى الله تعالى على لسانه وأنطقه بالوحى فقال: يا سماء اسمعى، ويا أرض أنصتى؛ فإنّ الله يريد أن يقصّ شأن بنى إسرائيل الذين ربّاهم بنعمته، واصطنعهم لنفسه، وخصّهم بكرامته، وفضّلهم على عباده، واستقبلهم بالكرامة، وهم كالغنم الضائعة التى لا راعى لها؛ فآوى شاردها، وجمع ضالّها، وجبر كسيرها، وداوى مريضها، وأسمن مهزولها، وحفظ سمينها. فلمّا فعل ذلك بها تناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا، حتى لم يبق منهم عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير.
فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون ما جاءهم من الخير. إنّ البعير مما يذكر وطنه فيأتيه، وإنّ الحمار مما يذكر الآرىّ «2» الذى يشبع عليه فيراجعه، وإنّ الثور مما يذكر المرج «3» الذى يسمن فيه فينتابه، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من أين «4» جاءهم الخير وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمير، وإنى ضارب لهم مثلا فليسمعوه.
قل لهم: كيف ترون فى أرض كانت جرزا «1» زمانا خربة مواتا لا عمران فيها، وكان لها ربّ حكيم قوىّ، فأقبل عليها بالعمارة وكره أن تخرب أرضه، فأحاط عليها جدارا وشيّد فيها قصرا وأنبط فيها نهرا، وصفّف فيها غراسا من الزيتون والرمّان والنخيل والأعناب وألوان الثّمار كلها، وولىّ ذلك واستحفظه ذا رأى وهمّة حفيظا قويّا أمينا، فانتظرها، فلمّا أطلعت جاء طلعها خرّوبا؟!. قالوا: بئست الأرض هذه! نرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدمّر نهرها ويقبض قيّمها ويحرق غرسها حتى تصير كما كانت أوّل مرّة خرابا موانا لا عمران فيها. قال الله عز وجل لهم: إنّ الجدار ذمّتى، وإنّ القصر شريعتى، وإنّ النهر كتابى، وإنّ القيّم نبيّى، وإنّ الغراس هم، وإن الخرّوب الذى أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة، وإنّى قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، فإنه مثل ضربه الله لهم. يتقرّبون إلىّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالنى اللحم ولا آكله. ويدّعون أنهم يتقرّبون إلىّ بالتقوى والكفّ عن ذبح الأنفس التى حرّمتها، فأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم مترمّلة «2» بدمائها؛ يشيّدون لى البيوت مساجد ويطهّرون أجوافها، وينجّسون قلوبهم وأجسادهم ويدنّسونها. فأىّ حاجة لى إلى تشييد البيوت ولست أسكنها! وأىّ حاجة لى إلى تزويق المساجد ولست أدخلها! إنما أمرت برفعها لأذكر فيها ولأسبّح، ولتكون مصلّى لمن أراد أن يصلّى فيها.
يقولون: لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها، ولو كان الله يقدر على أن يفقه قلوبنا لأفقهها، فاعمد إلى عودين يابسين ثم ائت بهما ناديهم فى أجمع ما يكونون، فقل للعودين: إنّ الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا. فلمّا قال لهما ذلك اختلطا فصارا واحدا. فقال الله تعالى [قل «3» ] لهم: إنى قد قدّرت على أن أفقه العودين اليابسين،
وعلىّ أن أؤلّف بينهما، فكيف لا أقدر على أن أجمع ألفتهم إن شئت! أم كيف لا أقدر على أن أفقه قلوبهم وأنا الذى صوّرتها!. يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا، وصلّينا فلم تنوّر صلاتنا، وتصدّقنا فلم تزك صدقاتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام، وبكينا بمثل عواء الذئاب، فى كل ذلك لا يسمع ولا يستجاب لنا. قال الله تعالى:
فسلهم: ما الذى يمنعنى أن أستجيب لهم! ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين، وأقرب المجيبين، وأرحم الراحمين! الأنّ ذات يدى قلّت! وكيف ويداى مبسوطتان بالخير أنفق كيف أشاء، ومفاتيح الخزائن عندى لا يفتحها غيرى!. أو لأن رحمتى ضاقت! فكيف ورحمتى وسعت كلّ شىء، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها!. أو لأنّ البخل يعترينى! أولست أكرم الأكرمين. والنّفّاح بالخيرات أجود من أعطى وأكرم من سئل!. لو أنّ هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التى تورث فى قلوبهم [النور «1» ] فنبذوها واشتروا بها الدنيا، إذا لأبصروا من حيث أتوا، وإذا لأيقنوا أنّ أنفسهم هى أعدى العداة لهم. فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزّور ويتقوّون عليه بطعمة الحرام! وكيف أنوّر صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربنى وينتهك محارمى! أم كيف تزكو عندى صدقاتهم وهم يتصدّقون بأموال غيرهم! إنما آجر عليها أهلها المغصوبين. أم كيف أستجيب لهم دعاءهم، وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد!. إنما أستجيب للداعى البرّ، وإنما أسمع قول المستعفّ المستكين. وإنّ من علامة رضاى رضا المساكين. فلو رحموا المساكين، وقرّبوا الضعفاء، وأنصفوا المظلوم، ونصروا المغصوب، وعدلوا للغائب، وأدّوا إلى اليتيم والأرملة والمسكين وكلّ ذى حقّ حقّه، ثم لو كان ينبغى لى أن أكلّم البشر إذا لكلّمتهم؛ وإذا لكنت نور أبصارهم، وسمع آذانهم، ومعقول قلوبهم؛ وإذا لدعمت أركانهم فكنت قوّة أيديهم وأرجلهم؛ وإذا لثبّتّ ألسنتهم وعقولهم.
يقولون لمّا سمعوا كلامى وبلغتهم رسالاتى إنها أقاويل منقولة، وأحاديث متوارثة، وتآليف مما يؤلّف السّحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، وأن يطّلعوا على علم الغيب بما يوحى إليهم الشياطين لاطلعوا، وكلهم يستخفى بالذى يقول ويسرّه، وهم يعلمون أنى أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما يبدون وما يكتمون. وإنى قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء اثبتّه على نفسى وجعلت دونه أجلا مؤجّلا لابدّ أنه واقع، فإن صدقوا فيما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه، وفى أىّ زمان يكون. وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل القدرة التى بها أقضى؛ فإنّى مظهره على الّدين كله ولو كره المشركون. وإن كانوا يقدرون على أن يؤلّفوا ما يشاءون فليؤلّفوا مثل الحكمة التى أدبّر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين. فإنّى قضيت يوم خلقت السموات والأرض أن أجعل النبوّة فى الأجراء «1» ، وأجعل الملك فى الرّعاء، والعزّ فى الأذلّاء، والقوّة فى الضعفاء، والغنى فى الفقراء، والثروة فى الأقلّاء، والمدائن فى الفلوات، والآجام «2» فى المفاوز، والثّرى فى الغيطان، والعلم فى الجهلة، والحكم فى الأميّيّن.
فسلهم متى هذا ومن القيّم به وعلى يدى من أسبّبه، ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره.
وإن كانوا يعلمون فإنى باعث لذلك نبيّا أمّيّا لا أعمى من العميان ولا ضالّا من الضالّين، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب فى الأسواق، ولا متزيّن بالفحش، ولا قوّال للخنا، أسدّده لكل جميل، وأهب له كلّ خلق كريم، ثم أجعل السكينة لباسه، والبرّ شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة معقوله، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته، والحقّ شريعته، والهدى إمامه، والإسلام ملّته، أحمد اسمه، أهدى به بعد الضّلالة، وأعلّم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأشهّر