الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال قتادة: هذه الآية قضاء قضى على القوم كما يسمعون، فبعث عليهم فى الأولى جالوت فسبى وقتل وخرّب بيت المقدس وسامهم سوء العذاب، ثم قال: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ
فعاد الله عليكم برحمته. ثم عاد القوم بشرّ ما يحضرهم. فبعث الله تعالى عليهم ما شاء أن يبعث من نقمته وعقوبته. ثم بعث الله تعالى عليهم هذا الحىّ من العرب، كما قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ «1»
فهم بهم فى عذاب الى يوم القيامة.
وهذه الأخبار التى أوردناها فى هذا المكان من خبر زكريّا ويحيى وخراب بيت المقدس ثانيا، منها ما كان فى زمن عيسى عليه السلام، ومنها ما كان بعد رفعه. وإنما أوردناها سياقة وتركنا خبر عيسى عليه السلام لئلا تنقطع بغيرها وليتلو بعضها بعضا.
فلنرجع الى أخبار عيسى بن مريم عليه السلام.
ذكر خبر حمل مريم بنة عمران بعيسى عليهما السلام
قال الكسائىّ رحمه الله تعالى: وكانت مريم تنمو وتزيد فى كل يوم وتعبد الله تعالى حتى برّزت فى العبادة على نساء بنى إسرائيل. فلمّا بلغت مبلغ النساء أتت منزل زكريّا، فقال لها: كيف خرجت من بيتك ومفتاحه معى؟ قالت: إنى رأيت أمرا قبيحا- أرادت بذلك الحيض- فجئتك بإذن الله. فأمرها زكريّا أن تكون عند خالتها حتى تطهر، ففعلت ذلك. فلما طهرت واغتسلت عادت إلى عبادتها.
فكان ذلك عادتها وشأنها اذا حاضت. فذلك قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا* فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
«2»
أى سترا فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
يعنى جبريل فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
أى فى صورة رجل
قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
أى مطيعا لربك قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا* قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا* قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا
ثم نفخ فى جيبها فوصلت النفخة الى جوفها فحملت بعيسى لوقتها. ويقال: إنّ زكريّا فى ذلك الوقت أفضى إلى امرأته فحملت بيحيى.
وقيل: إنّ امرأة زكريّا حملت قبل مريم بثلاثة أشهر، وقيل ستة أشهر. وكانت مريم إذ ذاك بنت خمس عشرة سنة، وقيل ثلاث عشرة سنة.
وحكى الثعلبىّ فى قصة حمل مريم أنه كان معها فى المسجد ابن عمّ لها من المحرّرين يقال له يوسف بن يعقوب النجّار، وكان رجلا حكيما نجّارا، يتصدّق بعمل يديه، وكان يوسف ومريم اذا نفد ماؤهما أخذ كل واحد منهما قلّته وانطلق إلى المغارة التى فيها الماء يستقيان منه ثم يرجعان إلى الكنيسة. فلمّا كان اليوم الذى لقيها فيه جبريل، وكان أطول يوم فى السنة وأشدّ حرّا، نفد ماؤها، فقالت:
يا يوسف، ألا تذهب بنا نستقى؟ فقال لها: إنّ عندى لفضلا من ماء أكتفى به فى يومى هذا إلى غد. قالت: لكنى والله ما عندى ماء، فأخذت قلّتها ثم انطلقت وحدها حتى دخلت المغارة، فوجدت عندها جبريل عليه السلام، قد مثّله الله عز وجل بشرا سويّا؛ فقال لها: يا مريم، إنّ الله قد بعثنى اليك لأهب لك غلاما زكيّا.
قالت: إنى أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيّا. قال عكرمة: وكان جبريل قد عرض لها فى صورة شابّ أمرد وضىء الوجه، جعد الشعر، سوىّ الخلق. قال الحكماء: وإنما أرسله الله تعالى فى صورة البشر لتثبت مريم عليها السلام وتقدر على استماع كلامه، ولو أتاها على صورته التى هو عليها لفزعت ونفرت عنه، ولم تقدر على استماع كلامه. فلمّا استعاذت مريم منه قال: إِنَّما أَنَا رَسُولُ
رَبِّكِ
الآية. فلما قال ذلك استسلمت لقضاء الله تعالى. فنفخ جبريل فى جيب درعها، وكانت قد وضعته، ثم انصرف عنها. فلما لبست مريم درعها حملت بعيسى عليه السلام، ثم ملأت قلّتها وانصرفت الى المسجد. وقال السّدّىّ وعكرمة:
إنّ مريم عليها السلام كانت تكون فى المسجد ما دامت طاهرة فإذا حاضت تحوّلت الى بيت خالتها حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد. فبينما هى تغتسل من الحيض وقد أخذت مكانا شرقيّا- قال الحسن: إنما اتخذت النصارى الشرق قبلة لأن مريم انتبذت مكانا شرقيّا- فاتخذت، فضربت من دونهم حجابا، أى سترا.
وقال مقاتل: جعلت الجبل بينها وبين قومها، فبينما هى كذلك اذ عرض لها جبريل وبشّرها ونفخ فى جيب درعها.
قالوا: فلما اشتملت على عيسى وتبيّن حملها داخلها الغمّ وعلمت أنّ بنى إسرائيل سوف يقذفونها، فنادتها الملائكة: يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ
أى من الحيض وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ* يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ
. قال: وبشّرها الله تعالى بعيسى فقال: إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ «1»
. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ* وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ «2»
الآية فطابت نفسها. قال وهب: فلمّا اشتملت على عيسى وكان معها يوسف النجار، وكانا منطلقين الى المسجد الذى بجبل صهيون- وجبل صهيون على باب بيت المقدس- وكان ذلك المسجد يومئذ من أعظم مساجدهم، وكانت مريم ويوسف يخدمان ذلك المسجد، وكان لخدمته فضل عظيم، فكانا يليان معالجته بأنفسهما وتطهيره، وكان لا يعلم أحد من أهل زمانها أشدّ اجتهادا وعبادة
منهما. فكان أوّل من أنكر حمل مريم يوسف النجّار. فلما رأى ما بها استعظمه وقطع به ولم يدر على ماذا يضع أمرها. فكان إذا أراد أن يتّهمها ذكر صلاحها وعبادتها وبراءتها وأنها لم تغب عنه، وإذا أراد أن يبرّئها رأى الذى ظهر بها من الحمل. فلما اشتدّ ذلك عليه كلّمها، فكان أوّل ما كلّمها به أن قال لها: إنه قد وقع فى نفسى منك ومن أمرك شىء، وقد حرصت على أن أكتمه فغلبنى ذلك ورأيت أنّ الكلام فيه أشفى لصدرى. فقالت: قل قولا جميلا. قال: خبّرينى يا مريم، هل ينبت زرع بغير بذر؟ قالت نعم. قال: فهل تنبت شجرة بغير غيث يصيبها؟ قالت نعم. قال: فهل يكون ولد من غير فحل؟ قالت: ألم تعلم أنّ الله عز وجل أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر، والبذار إنما تكون من الزرع الذى كان أنبته من غير بذر!. ألم تعلم أن الله عز وجل أنبت الشجر من غير غيث، وبالقدر جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحدة على حدة!. أو تقول إن الله لا يقدر على إنباته!. قال يوسف لها: لا أقول هذا، ولكنى أعلم أن الله تبارك وتعالى يقدر على ما يشاء، يقول لذلك: كن فيكون. فقالت له مريم: أو لم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وامرأته حوّاء من غير ذكر ولا أنثى!. قال بلى.
فلمّا قالت له ذلك وقع فى نفسه أن الذى بها شىء من أمر الله، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه، وذلك لما رأى من كتمانها. وقال الكسائىّ: لما قال يوسف لمريم:
هل يكون ولد من غير فحل؟ قالت: نعم، آدم من غير أب وأمّ. قال صدقت.
ثم قال: هذا الولد الذى فى بطنك من أبوه؟ قالت: هذا هبة ربّى لى، ومثله كمثل آدم خلقه من تراب. فنطق عيسى فى بطنها وقال: يا يوسف ما هذه الأمثال التى تضربها! قم فاشتغل بصلاتك واستغفر لذنبك مما قد وقع فى قلبك. فقام يوسف وجاء الى زكريّا وأخبره، فاغتمّ وقال لامرأته: إنّ مريم حامل، وأخاف من فسّاق